لم تكن قد ساعدت أحدًا طمعًا في مقابل، لذا اكتفت بالتحديق في لوبيون بصمت. غير أن فكرة خطرت ببالها فجأة، فتألقت عيناها الذهبيتان بوميض خفيف.
“لوبيون، أيمكنك أن تعدني بشيء؟.”
“بماذا؟”
“عدني ألّا تمرض أبدًا، وأن تبقى بصحة جيّدة!.”
وفي داخلها همست.
‘لا أريدك أن تموت.’
حبست مشاعرها الحقيقية تحت قناع من الابتسام، بينما بدا الارتباك على وجه لوبيون أمام طلبها غير المتوقع. مال برأسه قليلًا وسأل بصوت خفيض:
“وهذا فقط ما تريدينه؟.”
عضّت إيلينا شفتها، مدركة أن طلبها بدا غريبًا بعض الشيء، خصوصًا وهما لم يعرفا بعضهما سوى منذ أيام قليلة.
‘أما الباقي…’
فكانت ترغب في طلب الإذن بالوصول إلى خزائن الدوق في القصر، إذ تحتاج إلى الاطلاع على محتوياتها لتجد خيطًا يساعدها على ابتكار علاج للطاعون. غير أنها قررت أن بناء الثقة أولى في هذه المرحلة.
“سأفكر في الأمر لاحقًا.”
—
في صباح اليوم التالي، اتجهت إيلينا إلى قاعة الطعام.
رحّبت بالخدم المهذّبين بلطف، ثم تقدّمت نحو المائدة، فوقع بصرها على طفلة صغيرة تحاول جاهدة مقاومة النعاس، وعيناها نصف مغمضتين. لم تستطع إيلينا إلا أن تبتسم حين رفعت الصغيرة رأسها بدهشة.
احمرّ وجه أناشا حين أدركت أن إيلينا اقتربت منها، وقالت بخجل:
“صباح الخير… يا أختي الكبرى.”
“صباح الخير، يا صغيرتي. هل نمتِ جيدًا؟.”
حرصت على استخدام اللقب الذي طلبت أناشا أن تناديها به، فارتسمت على شفتي الطفلة ابتسامة صغيرة، وهزّت رأسها بالإيجاب.
(بالفصل الثالث إيلينا سألت أناشا عادي تناديها “الانسة الصغيرة” بس غيرته لـ “صغيرتي”.)
‘كم هي لطيفة… هذا المشهد يبعث في القلب دفئًا حقيقيًا.’
“أختي الكبرى! خمني ماذا؟.”
بدأت تتحدث بحيوية عن أخيها لوبيون، وكأنها وجدت أخيرًا من تُفضي إليه بأحاديثها. تحدثت عن طعامه المفضل وما لا يحبه، وألوانه المفضلة، وحتى الكتب التي يقرؤها. تفاصيل لم تكن إلينا بحاجة إلى معرفتها، لكنها أنصتت بابتسامة صبورة.
“وهذا سر، لكن أخي…”
كانت إيلينا تصلح خصلات شعر الطفلة المنسدلة حين فُتح باب القاعة، فدخل لوبيون مرتديًا معطفه الطويل استعدادًا للخروج. للحظة، بدا في نظرها كأن الضوء انبعث منه، فخفق قلبها دون إرادتها أمام مهابته الصباحية.
أعادها صوته العميق إلى الواقع حين قال:
“هل نمتِ جيدًا؟.”
أجابت بسرعة وهي ترفع رأسها مندهشة.
“نعم… بفضلك.”
قُدمت الأطباق الرئيسية بعد قليل، وكانت أطعمة الشمال لذيذة المذاق ومشبعة، فاستمتعت إيلينا بكل لقمة.
“أختي الكبرى، هيا نخرج اليوم لنرى الفساتين الجميلة!.”
لكن وجه لوبيون تغيّر قليلًا، وارتفع حاجباه استغرابًا. بدا أن لقب ‘الأخت الكبرى’ أثار في نفسه شيئًا من الانزعاج، فنظرت إليه إيلينا متجاهلة تساؤله الصامت، وقالت:
“لوبيون، هل يوجد في الشمال متجر فساتين جيد؟.”
“متجر فساتين؟.”
“نعم، أظن أننا بحاجة إلى ثياب شتوية إضافية.”
كان البرد في الشمال قارسًا، كما أرادت استغلال المناسبة لقضاء وقت مع أناشا. نظر إليها لوبيون باهتمام، ثم أومأ بإيجاز قائلاً:
“سأرتب الأمر وأخبر أحد المتاجر ليستقبلكما.”
—
كانت إيلينا تمسك بيد الطفلة الصغيرة وهما تصعدان إلى العربة، وقلبها يخفق بتوق إلى رؤية شوارع الشمال.
“هل يمكنني الجلوس بجانبكِ، أختي الكبرى؟.”
سألت أناتشا بخجل.
“بالطبع، يا صغيرتي.”
انطلقت العربة في جو مفعم بالمرح، لكن سرعان ما سادها توتر غريب حين بدأت أناشا تتأمل الفارسة المرافقة بنظرات غير راضية.
‘هل تكره أناشا تلك الفارسة؟.’
تساءلت إيلينا وهي تلاحظ التوتر بينها وبين جوزيفين، الفارسة التي عيّنها لوبيون لمرافقتها.
قالت جوزيفين بابتسامة مرحة:
“مر وقت طويل، يا آنستي الشابة.”
“نعم، كان من الجميل ألّا أراكِ لبعض الوقت.”
تظاهرت جوزيفين بالبكاء قائلة:
“يا إلهي! هكذا تعاملين مرافقتكِ السابقة؟.”
“لقد رافقتِني ليومٍ واحد فقط، ومع ذلك أصبحتِ أكثر جرأة من اللازم!.”
استمعت إيلينا بانتباه حتى فهمت القصة، فقد كانت جوزيفين في الأصل فارسة مرافقة لـأناشا، لكنها فُصلت من مهمتها بعد يوم واحد فقط لأنها اعتادت على إغاظة الطفلة وممازحتها بإفراط.
نفخت أناشا خديها غضبًا، بينما نظرت جوزيفين إليها مبتسمة كأنها تجدها ظريفة رغم كل شيء.
‘ولماذا اختار لوبيون شخصًا كهذه لمرافقتي؟.’
تساءلت إيلينا في نفسها.
انتبهت جوزيفين لحيرتها وقالت وهي تحكّ أنفها بتفاخر:
“أعرف أن قول هذا عن نفسي محرج، لكنني الثانية في المهارة بعد صاحب السمو مباشرة.”
نظرت إيلينا إلى أناشا كأنها تبحث عن تأكيد، فأومأت الصغيرة بتردد وقالت بصوت منخفض:
“صحيح… على الرغم من مظهرها، فهي قائدة الفرسان.”
تذكرت إيلينا أن القائد كان غائبًا يوم جولة التدريب حين وصلت، فربما كانت جوزيفين المقصودة.
هل من الصواب أن تُكلّف قائدة الفرسان بمرافقتي شخصيًا؟. شعرت ببعض الإحراج، لكنها افترضت أن للوبيون أسبابه الخاصة، واكتفت بالإيماءة.
—
وصل الركب إلى حيّ الأزياء، حيث كانت فيفيان، خادمة إيلينا، تشير بحماسة إلى المحلات واحدة تلو الأخرى.
“يا للروعة! إنه مختلف تمامًا عن العاصمة!.”
كانت شوارع الشمال تزخر بمحلات فريدة، وكان متجر ديميتِر الأشهر بينها.
ترجلت إلينا ودخلت المتجر، فارتدت فستانًا من اختيار صاحبة المحل، مدام شارلوت، التي نظرت إليها بإعجاب قائلة:
“إنكِ حقًا جميلة يا سيدتي.”
“آه، يا سيدتي الشابة! تبدين مذهلة!.”
وأضافت فيفيان بمرح.
احمر وجه إيلينا بخجل، ورفعت يدها لتلمس وجنتها. عندها، كانت أناشا تحدق بها بتمعّن، ثم قالت فجأة بجدية:
“مهما حاولتُ التفكير، لا أظن أن هذا مناسب!.”
تجمدت إيلينا للحظة وسألت بقلق:
“هل أبدو بهذا السوء؟.”
“ليس الأمر كذلك… فقط… أنتِ أفضل من أن تكوني لأخي!.”
أجابتها أناشا عابسة.
ساد الصمت للحظات قبل أن يندلع ضحك خافت من الجميع، بينما جلست إلينا مترددة.
‘كيف أتصرف في موقف كهذا؟.’
نظرت إلى مدام شارلوت طالبة النجدة بنظراتها، فابتسمت الأخيرة وقالت للطفلة بلطف:
“يبدو أنكِ تحبين السيدة إيلينا كثيرًا، آنستي الصغيرة.”
ردّت أناشا بحماس مفعم بالصدق.
“إنها عائلتي الثمينة!.”
شعرت إيلينا بحرارة في صدرها، كانت تدرك أن أناشا بدأت تتقبلها، لكن سماعها تقولها بصوت عالٍ كان له أثر مختلف تمامًا.
ابتسمت مدام شارلوت وقالت بنبرة واقعية.
“لكن إن قررتِ يا صغيرتي أن تُبطلي خطوبة السيدة من صاحب السمو، فلن تتمكن من البقاء في الشمال.”
تبدّل وجه أناشا بحزن، فضحكت إيلينا بخفة.
“وأنا أيضًا أريد أن أبقى معكِ هنا في الشمال، أتسمحين لي بذلك؟.”
هزّت أناتشا رأسها بقوة واحتضنتها بشوق.
“نعم! أريد أن أعيش هنا معكِ، يا أختي الكبرى!.”
بادلتها إيلينا العناق وربّتت على رأسها برفق، بينما كانت الطفلة تبتسم ببراءة تشعّ منها السعادة الخالصة.
‘من الآن فصاعدًا، سأحمي سعادتكِ… وسأكون الضوء الذي يرشدكما في طريقكما الصعب.’
وهكذا عزمت إيلينا في قلبها أن تكون السند الحاني لهذين الشقيقين اللذين لم يعرفا الدفء منذ زمن طويل.
التعليقات لهذا الفصل " 4"