كانت بعد الظهيرة في قصر الدوق الأكبر هادئة في العادة بعد تناول الغداء.
فلوبيون كان يخرج إلى عمله، وأناشا منشغلة في دروسها، والخدم موزّعون على أعمالهم، بينما بقيت إيلينا محصورة في غرفتها بلا قصد.
وبما أنها وصلت حديثًا إلى الشمال، لم تُكلّف بمهام محددة بعد، وكان الشقيقان من آل ديفونشاير ما زالا يتوجسان منها كثيرًا.
تذكّرت كيف أن أناشا كانت تهرع بعيدًا كلما التقت بها في الممر، فتنهدت بهدوء. لكن اليوم لم يكن بوسعها أن تبقى سلبية، فهناك أمر كان عليها معالجته بنفسها.
وعزمت بعزم واضح، وهي تستحضر في ذهنها مقطعًا من الرواية:
“لوبيون، بسبب الغزوات المتكررة والمعارك التي كان يفرضها الإمبراطور، لم يستطع أن يعتني بأخته الصغرى. وزوجته كانت تسيء معاملة أناشا مدة خمس سنوات كاملة.”
في القصة الأصلية، زواج لوبيون القسري من السيدة لافودين كان مؤامرة من الإمبراطور بذريعة استمرار نسل العائلة.
أما الماركيز لافودين، الذي كان يسعى للسيطرة على الشمال، فقد زرع جواسيسه في قصر الدوق الأكبر منذ زمن. وكانت إساءة معاملة أناشا جزءًا من خطته.
ورغم أن عرض الزواج انهار بسبب الشائعات الغريبة عن لوبيون، إلا أنه من المرجّح أن الماركيز أبقى تابعيه في القصر، وربما حتى بين معلمي أناشا.
في الصباح، حين كان لوبيون يغادر القصر، تجرأت إيلينا وقالت له بهدوء:
“هل لي أن أحضر درس الآنسة الصغيرة اليوم؟.”
توقف قليلاً قبل أن يجيب.
“درسها بعد الظهر؟.”
“نعم، سأحرص ألا أتدخل.”
“… حسنًا.”
بسبب طبيعته الحذرة، كانت تعلم أنه سيمرّ بنفسه على غرفة أناشا ليتأكد من الأمر.
ومع ذلك، صعدت إيلينا إلى الطابق العلوي متجهة نحو الغرفة الكبيرة. لاحظت غياب الخدم قربها، فلم تشأ أن تطرق مباشرة كي لا تعطل الدرس.
كان صوت البيانو يتردّد من الداخل، ناعمًا ومتناسقًا، ما دلّ على أن الدرس الموسيقي بدأ للتو. غير أن ابتسامة إيلينا تلاشت فور أن سمعت صوتًا حادًا.
–صفعة!.
شهقت بدهشة والتصقت بالأذن إلى الباب.
“آنسة، لقد أخطأتِ في العزف مرة أخرى!.”
“أنا آسفة…”
تبع ذلك صوت بكاء مكتوم لطفلة مذعورة، وصوت امرأة في منتصف العمر تتكلم بعجرفة.
“يبدو أنكِ لستِ مؤهلة لتكوني ذات قيمة للدوق الأكبر.”
“هيك–”
‘لا يعقل… كيف تضرب طفلة صغيرة هكذا!.’
كانت إيلينا قد توقعت احتمال تعرّض أناشا للعقاب، لكنها لم تحتمل أن ترى الأمر أمامها. فهمت أن آثار الضرب تُخفى غالبًا، ولذلك لم يلحظ أحد ما يحدث.
“ماذا تفعلين؟ مدي يدك.”
لم تستطع أن تصبر أكثر. دفعت الباب بقوة ودخلت الغرفة. ارتبكت المعلمة الموسيقية، ثم رمقتها باستهزاء وقالت بسخرية:
“ومن تكونين أنتِ… آه، إنها سيدة آل روهينباك.”
لكن إيلينا لم تلتفت إليها، بل ركضت نحو أناشا التي كان وجهها مبللاً بالدموع. أمسكت بيدها المرتجفة بإحكام وحدّقت بغضب في المعلمة.
“ما الذي تفعلينه بالضبط؟.”
أجابت المرأة بوقاحة:
“كما ترين، أُدرّس درسًا موسيقيًا.”
نظرت نحو البيانو ودفتر النوتات باستخفاف. كان واضحًا أن هذا لم يكن المرة الأولى التي ترفع يدها فيها على الطفلة.
سألتها إيلينا ببرود.
“هل تستخدمين العقاب الجسدي في دروسكِ عادةً؟.”
ارتبكت المرأة، تحاول التبرير، بينما لمعت عيني إيلينا الذهبيتين غضبًا.
“هذا أسلوبي منذ زمن–”
قاطعتها إيلينا بسؤال مباشر لأناشا.
“هل يفعل المعلمون الآخرون الأمر نفسه؟.”
أمسكت الطفلة طرف فستانها وهزّت رأسها سريعًا.
“لا… هذا يحدث فقط في دروس الموسيقى.”
قالت إيلينا بلهجة قاطعة.
“كما توقعت.”
ثم التفتت إلى المعلمة، ونظرتها اللطيفة تحولت إلى جليد.
“يبدو أنكِ لستِ مؤهلة للتعليم في قصر الدوق الأكبر.”
ارتجفت المرأة وصاحت محتجة.
“مـ.. ما هذا! ليس من شأنكِ تقرير مكانتي في هذا البيت!.”
لكن صوتها خفت حين فُتح الباب فجأة، ووقف لوبيون على العتبة.
قال بصوت عميق:
“ما كل هذه الفوضى؟.”
تجوّل بصره في الغرفة ببطء: المرأة المرتجفة، الطفلة المختبئة خلف إيلينا، وعينا أناشا المحمرتان من الدموع. اتسعت عيناه الزرقاوان غضبًا.
“ها–.”
خطا إلى الداخل بخطوات ثقيلة، وهالته تهدد كل من في المكان. تلعثمت أناشا بصوت مرتجف.
“إنها غلطتي… أنا عديمة الفائدة لأخي…”
رأى لوبيون كفيها المتورمتين، فعتم وجهه أكثر، وحدّق في المرأة التي حاولت إخفاء العصا خلف ظهرها.
قال بصوت مزلزل:
“ما الذي فعلتِه بأناشا؟ لستُ رجلاً متساهلاً.”
انتفخت عروق رقبته من الغضب. جثت المرأة أرضًا مرتجفة، تحاول الدفاع عن نفسها.
“سـ.. سمو الدوق، يبدو أن السيدة قد أساءت الفهم–.”
تحطّمت الطاولة الخشبية إلى شظايا بضربة واحدة من قوة لوبيون. ارتجّ صوت التحطيم في أرجاء الغرفة.
رمق المرأة بعيون مثلجّة.
“أهذا كل ما لديكِ لتقوليه؟.”
صرخت باكية.
“صاحب السمو–”
أجابها ببرود قاتل.
“إن أردتِ البقاء حيّة، فاقبلي قراري.”
في تلك اللحظة، انفجرت أناشا بالبكاء، بينما ضمّتها إيلينا إلى صدرها محاولة تهدئتها.
“لا تقلقي يا صغيرتي… كل شيء سيكون بخير من الآن.”
تلاقت عيناها بعيني لوبيون، فأومأت له إشارةً ليتكفل هو بالعقوبة.
ثم أخذت الطفلة إلى غرفتها، حيث أخرجت جرعة مطهّر ومرهمًا لتعالج الكدمات الخفيفة على يديها. جلست الطفلة بهدوء، ولم تُبد أي مقاومة.
قالت إيلينا بابتسامة مطمئنة:
“انتهينا! ستشفى بسرعة.”
أجابتها أناشا بخجل.
“شكرًا لكِ…”
مسحت إيلينا على شعرها بحنان، فارتخت ملامح الطفلة قليلاً.
كانت قد كتمت معاناتها حتى لا تُقلق أخاها. وإذ أدركت ذلك، تساءلت إيلينا كيف تخفف عنها. ثم قالت برقة:
“اليوم لم يكن خطأكِ يا صغيرتي.”
رفعت أناشا عينيها المرتبكتين وسألت:
“أحقًا تظنين ذلك؟.”
“بالطبع. من الآن فصاعدًا، سأكون إلى جانبكِ دائمًا.”
ابتسمت إيلينا بحنان. ترددت الطفلة لحظة، ثم ارتفعت على أطراف أصابعها محاولة الاقتراب من أذنها. فانحنت إيلينا لتسمعها.
قالت بصوت خافت ووجنتاها محمرتان:
“أيمكنني أن أناديكِ… أختي الكبرى؟.”
اهتزّت عينا إيلينا الذهبيتان بالعاطفة من السؤال غير المتوقع، وتنفست بارتياح.
‘الحمد لله… إنها لا تكرهني.’
ابتسمت لها قائلة:
“بالطبع. وهل أستطيع أنا أن أناديكِ بالآنسة الصغيرة؟.”
وأجابت الطفلة بحماس.
“نعم، يعجبني هذا!.”
تألقت ابتسامة أناشا وكأن أمنية تحققت، فشعرت إيلينا أن توترها قد تلاشى.
—
في وقت متأخر من الليل، تحت سماء حالكة، لم تستطع إيلينا النوم.
تجولت في ممرات القصر، والبرد القارس يحيط بها. كانت تسترجع ما حدث نهارًا وهي تتنهد، حين قاطعها صوت عميق ومنخفض.
“هل يمكنني أن أكلمكِ قليلاً؟.”
استدارت لتجد لوبيون أمامها. اتسعت عيناها بدهشة.
“بخصوص ماذا؟.”
أجاب بثبات.
“أردت أن أشكركِ.”
بدا أنه يريد التعبير عن امتنانه لما فعلته من أجل أناشا. نظر إليها مطولًا وتابع بلهجة رسمية جدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 3"