وقفت إيلينا مذهولة. كانت الهالة التي تحيط به مدهشة. من شعره الأسود الكثيف وعينيه الزرقاوين الصافيتين، إلى أنفه الحاد، وفكه القوي، وشفتيه الحمراوين اللافتتين، كان منظره آسرًا. حتى ملابسه كانت أنيقة بلا أي تجعّد، وهيئته متزنة حد الكمال.
فكّرت إيلينا بإعجاب وهي تتأمل خطيبها المستقبلي.
‘هذا الرجل أجمل حتى مما توقعتُ.’
لكن صوته العميق الرنان أعادها إلى الواقع.
“أعطني يدك.”
قفز قلبها بترقّب، متسائلة إن كان قد تذكّرها. غير أن نظرته الباردة جعلتها تبتلع ريقها بصعوبة.
قررت في سرها: عليّ أن أتصرف كأننا نلتقي لأول مرة. وأخفت خيبة أملها وراء ملامح متزنة.
قالت بابتسامة هادئة:
“تشرفت بلقائك، إنك وسيم جدًا.”
في داخلها، هنّأت نفسها لأنها تركت انطباعًا أوليًا حسنًا.
لكنها لاحظت أن لوبيون أمال رأسه قليلاً وهو يحدق فيها بتركيز. تجمّدت في مكانها.
ما الأمر؟.
همست له بصوت منخفض لا يسمعه غيره.
“هل ارتكبتُ خطأ ما؟.”
رمقها بنظرة عابرة، ثم أجاب بصوت منخفض.
“لم تخطئي في شيء.”
زفرت إيلينا بارتياح، مصدّقة كلماته. لكن في تلك اللحظة، خرجت طفلة من خلف كبير الخدم ومدبّرة المنزل وتقدّمت بخجل.
حين رأتها، اتسعت عينا إيلينا بدهشة.
‘إنها البطلة في القصة الأصلية!.’
قال لوبيون بصوت هادئ:
“أناشا، تعالي لتُلقِي التحية على السيدة.”
اقتربت الطفلة، وقد احمرّ وجهها خجلاً. كانت على وشك أن تتم العاشرة من عمرها، رقيقة الملامح كجنيّة من كتاب حكايات، صغيرة وجميلة.
عرّفت بنفسها بصوت منخفض.
“أنا أناشا ديفونشاير.”
أجابتها إيلينا بابتسامة لطيفة وهي تنحني لمستوى عينيها.
“تشرفت بلقائك، آنسة أناشا.”
ترددت الطفلة قليلاً، ثم التفتت بعينيها الخجولتين وقالت:
“أمم.. هل ترين أن أخي وسيم؟.”
“…؟”
ارتبكت إيلينا من السؤال المفاجئ، فنظرت إلى لوبيون الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة. حينها أدركت أن هناك خطأ ما. فأعادت شريط كلماتها السابقة بسرعة.
هل قلت ذلك بصوت مسموع؟.
خشيت الأمر، فسألت الحاضرين.
“هل قلت ما فكرت به بصوت عالٍ؟.”
ظل الخدم صامتين ورؤوسهم مطأطأة، بينما اكتفى لوبيون برفع حاجبه. وحدها أناشا أومأت قليلاً برأسها، مؤكدة أسوأ مخاوف إيلينا.
‘يا إلهي، ماذا فعلتِ يا إيلينا؟.’
اشتعل وجهها خجلاً، وغطته بكفيها. كانت تأمل أن يراها أهل ديفونشاير سيدة متزنة وأنيقة، لكن بدت كأنها أضحوكة.
قال لوبيون ساخرًا وهو يراقبها:
“على الأقل، من الجيد أن أعرف أن مظهري يوافق ذوقكِ.”
‘هل يسخر مني؟.’
فكّرت إيلينا وهي تحدّق فيه بعينين ضيقتين. لكن بالرغم من الموقف المحرج، بقي هو غير متأثر.
—
كانت عائلة ديفونشاير قد حملت منذ زمن سمعة “العائلة الشريرة”.
فحين نُفيت أناشا البطلة وأخوها لوبيون إلى الشمال، اعتقد الكثيرون أنهم لن يعيشوا طويلاً وسط أراضي الوحوش. لكن لوبيون ديفونشاير كسر كل التوقعات.
ففي الشمال القاحل، ارتفعت هالته وهو لا يزال فتى في الخامسة عشرة، حتى أصبح في النهاية سيد السيف.
لم يدرك الكثيرون أن الأمير المنبوذ سيتحول إلى حامٍ للشمال، بعيدًا عن هيمنة الإمبراطورية. ومع ذلك، ظل الإمبراطور يراقبه ويشيع شائعات عن أبيه بأنه طاغية، وعن لوبيون نفسه بأنه قاسٍ بلا رحمة.
وهكذا اكتسبت عائلة ديفونشاير لقب “أسرة الأشرار”.
التدقيق في حياتنا لن يتوقف من الآن فصاعدًا. فكرت إيلينا، وهي تعلم أن الأخوين سيواجهان الكثير من المِحن. لكنها لم تستطع غض الطرف.
رأت أناشا أمامها طفلة بريئة ذات شعر أبيض وعيون زرقاء صافية تذكّرها بزهور زنبق الوادي. أرادت أن تتحدث معها أكثر، لكنها تفهّمت حاجتها للوقت كي تعتاد على وجودها. ابتلعت خيبة أملها وتبعت كبيرة الخدم إلى غرفتها.
على عكس جو القصر الكئيب، بدت الغرفة مشرقة وواسعة. رفعت إيلينا كميها وبدأت بترتيب مواد الكيمياء التي جلبتها من العاصمة.
مرّ الوقت سريعًا وهي تنظّم كل شيء على الرفوف بعناية، وحين حلّ المساء، قالت متنهّدة:
“انتهيت أخيرًا.”
طرق أحدهم الباب بخفة. توقعت أن يكون كبير الخدم أو مدبّرة المنزل، ففتحت دون حذر.
“…!”
اتسعت عيناها اندهاشًا. كان الواقف أمامها سيد القصر نفسه. الرجل الطويل عريض الكتفين لم يعد ذلك الفتى الذي تذكره. فقد بدا الآن باردًا، محاطًا بهالة لا يمكن الاقتراب منها.
أخفت إيلينا ابتسامة مريرة، ثم رفعت عينيها إليه بلطف.
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟.”
أجاب بهدوء.
“سأصطحبكِ بجولة في القصر.”
‘هل هذا الرجل المتجهم يعرض أن يريني القصر بنفسه؟.’
فكرت، ورغم أن الأمر بدا محرجًا، رأت أن التعرف إلى أرجاء المكان فكرة جيدة، خصوصًا وأنها ستحتاج لاحقًا إلى الوصول لبعض المواقع.
“إذن، تفضل بقيادتي يا صاحب السمو.”
مع غروب الشمس، غرق القصر في ظلام كثيف يبعث على القشعريرة. شعرت إيلينا برعدة وهي تسير بجانبه، فتمسكت بخفة بكمه.
نظر إليها، ثم قال بصوت منخفض:
“يمكننا أن نعود إذا رغبتِ.”
لكن فكرة الرجوع وحدها عبر الممرات الموحشة جعلتها تهز رأسها رافضة.
تابع الاثنان السير بصمت في الممرات الطويلة. وقد لاحظت بامتنان أنه يخفف سرعته ليلائم خطواتها، لكنها لم تجد الشجاعة لتشكره.
رغم ارتباطهما بخطوبة، إلا أنها كانت مجرد تحالف سياسي بين العائلتين. وزيادة على ذلك، ما زال زواجهما مؤجّلاً لسنتين، تبعًا لما دار بينه وبين والدها.
لكن لا يمكن أن نبقى في هذه العلاقة الباردة دائمًا.
بتردّد، سألت بصوت منخفض.
“هل هناك ما يمكنني المساعدة به هنا؟.”
أجاب ببرود.
“وجودك يكفي.”
كانت نظرته الصارمة وملامحه المغلقة تحمل تحذيرًا صامتًا لها ألا تتجاوز حدودها.
‘كم هو بارد…’
فكّرت وهي تقاوم رعشة في جسدها. لقد تغيّر الفتى اللطيف، وأصبح قاسيًا كقسوة شتاء الشمال.
عادة لم تكن لتبالي، لكن فجأة اجتاحها شعور غريب بالرغبة في التحدي. ابتسمت بهدوء وقالت:
“إذن، حتى يحين زواجنا، هل يمكنك أن تناديني بإيلينا فقط؟”
بعد لحظة صمت، أومأ لوبيون ببطء، وعيناه الزرقاوان جامدتان بلا تعبير.
“إذا كان هذا ما تريدينه.”
أضاء ذلك مواجعها الصغيرة، فردّت بابتسامة مشرقة.
“إذن، أرجو أن تعتني بي من الآن فصاعدًا، يا لوبيون.”
التعليقات لهذا الفصل " 2"