تألّقت عينا إيلينا تأثرًا بكلماته. وحين لاحظ نظرتها، أشار إلى الكتاب المدرسي وسأل بنبرة باردة:
“هل أنهيتِ الحلول؟.”
أصابها الارتباك، فانخفض رأسها بسرعة نحو الكتاب، وقد احمرّ وجهها خجلًا.
فكّرت في نفسها، ‘لوبيون يأخذ مسألة التعليم على محمل الجد فعلًا…’
بعد درسٍ شاق، خرجت إيلينا تحمل ذراعها كومة من الواجبات، وملامح وجهها خليط من الذهول وعدم التصديق؛ فكمية العمل التي كلّفها بها لوبيون لم تكن لطيفة على الإطلاق.
تمتمت: “لقد تعلّمت هذا اليوم فقط…”
راقبها لوبيون بنظرة تحمل طرفًا من التسلية، قبل أن يكتفي بابتسامة ساخرة.
—
استمرت دروس لوبيون الصارمة في لغة الديلفانيان ثلاث مرات أسبوعيًا. ورغم بروده ولا مبالاته الظاهرة، كان جادًا ومخلصًا في تعليمها، فوجدت إيلينا نفسها تتشجع وتلتزم بالدروس بعزيمة. لكن تراكم الواجبات والمواد الدراسية كان يجعلها تصرخ في داخلها بإحباط.
قالت لتواسي نفسها: “على الأقل أتقنت الأساسيات.”
وبعد أن أنهت معظم الواجبات التي سلّمها لها لوبيون، أخرجت المذكرات لتصفية ذهنها. وبجمع الحروف والقواعد التي تعلمتها، بدأت تميّز بعض الكلمات.
وبينما قرأت فهرس المذكرات وبحثت عن «هيبوراك»، أخذت تتتبع السطور ببطء.
“…ماذا؟.”
ومع تقدّمها في القراءة، تحوّل تعبيرها إلى الدهشة.
“المكوّن الرئيسي… غصن من شجرة العالم؟!.”
تنهدت بعمق وهي تفرك صدغَيها.
“كيف يفترض بي أن أحصل على هذا؟.”
حتى كبار السحرة القادرين على رسم دوائر الانتقال نادرًا ما تمكنوا من رؤية شجرة العالم.
تمتمت: “انتظار أن تُظهر أَنَاشا قواها ليس خيارًا…”
فرغم أن أحداث الرواية كانت تشير إلى أن أناشا ستُوقظ قدراتها العلاجية لاحقًا، لم يكن أمام إيلينا ترف انتظار ذلك.
وبينما عززت عزمها على مواصلة البحث، جاءت صدمة جديدة: دروسها مع لوبيون توقفت مؤقتًا.
—
خيّم جو بارد على قصر الدوق، كأنه امتداد لقسوة الشتاء خارج الجدران. كانت أناشا تعاني حُمّى خفيفة، لكنها انهارت أخيرًا. فقد خرجت إلى الثلج بحماس لتصنع رجل ثلج، وانتهى ذلك بإصابتها بالبرد.
استلقت أناشا على سريرها شاحبة فيما الثلوج تهطل بلا توقف. وسرعان ما لحق بها مريض آخر، لوبيون.
‘حتى لوبيون أصيب بالبرد…؟’، فكرت إيلينا بدهشة.
كان الشتاء قاسيًا هذا العام، وعدد المصابين بالحمى ازداد. لكن المفاجئ أن يكون اثنان من أهل القصر الرئيسيين طريحي الفراش. وعلى عكس الاعتقاد الشائع بأن سيد الشمال لا يمرض من برد الشتاء، كان لوبيون وأناشا ينازعان قشعريرة شديدة وحُمّى عالية.
كان طاقم القصر معتادًا على رعاية أناشا، لكن إصابة لوبيون أفقدتهم توازنهم، فازدادت الفوضى. ولمنع انتشار العدوى، أمر لوبيون إيلينا بالبقاء بعيدًا عن غرفتهما.
تذكرت قوله: “خاصة هذا الشتاء، الإنفلونزا منتشرة.”
ورغم وصفات الطبيب، ظل الشقيقان ملازمَين فراش المرض.
كان من المؤلم لها رؤيتهما يعانيان، فاستحضرت كتاب الكيمياء السحرية الذي أحضرته من العاصمة.
وأضافت بصوت منخفض: “خصوصًا لوبيون…”
فحَمَلة القدرات الخارقة حين يمرضون بشدة قد تفقد قواهم توازنها، وفي الحالات القصوى قد يفلت زمام السيطرة. ومع طول مرض لوبيون، كانت تخشى أن يقترب من هذا الحد.
استجمعت قواها، وبعد أن لم ترسم دائرة سحر منذ مدة، بدأت بتسخين طاقتها، فاستدعت سحرها الذهبي. تكوّن العرق على جبينها وقد أعادت فتح منافذ قوتها الكامنة. وأخيرًا، اكتمل النموذج السحري، ومع ترتيلها، تكوّن جرعة فقاعية بلون أزرق داكن.
قالت وهي تشمّ الرائحة النفاذة: “الرائحة قوية قليلًا…”
لكنها كانت واثقة من فعالية الجرعة. أوصت خادمة أناشا بطريقة إعطائها الدواء، بينما قررت تسليم جرعة لوييون بنفسها؛ فهي تعلم أنه لن يأخذها بسهولة من غيرها.
وقفت أمام باب غرفته طويلًا وهي تتردد، ثم طرقت بخفوت.
“لوبيون، هل يمكنني الدخول؟.”
لم يأتِها إلا أنين ضعيف من الداخل. فتحت الباب بحذر واقتربت من السرير. وحين فتح لوبيون عينيه بالكاد، بدا مدهوشًا لرؤيتها.
قالت بخفوت وهي تحاول طمأنته:
“كيف تشعر؟ على فكرة، تسللتُ دون علم الخدم.”
تنفس بعمق محافظًا على وعيه بصعوبة، وقال بضعف:
“يجب أن تذهبي، إن فقدتُ السيطرة ستكونين في خطر.”
‘لا بد أنه يتحمّل كل هذا وحده.’
فكرت، متذكرة أنه لم يسمح لأحد بدخول غرفته سوى الطبيب.
وخزة من الشفقة اخترقت قلبها، فرفعت الجرعة وحرّكتها قليلًا.
“لوبيون، افتح فمك.”
“…؟”
أمال رأسه قليلًا، متسائلًا إن كان قد سمع خطأ.
كررت بنبرة لطيفة حازمة:
“فقط افتح شفتيك قليلًا.”
وفكت غطاء الزجاجة.
“…!”
سكبت الجرعة في فمه عندما فتحه قدرًا بسيطًا. اتسعت عيناه الزرقاوان بدهشة وقد باغته الفعل.
“قد يكون مذاقه مرًا، لكن أحسنت.”
رفع حاجبه في ذهول وسأل بصوت مبحوح:
“ما هذا…؟.”
ومع حلول تأثير الجرعة، بدأ جسده المتعب يستعيد شيئًا من خفّته. رأت الحيرة على وجهه، فاكتفت بإيماءة خفيفة وابتسامة فخورة.
“لستُ ضعيفة كما تظن.”
“…”
“أرأيت؟ أنا كيميائية ماهرة، أليس كذلك؟.”
قالت وهي تومض بعينيها الذهبيتين.
تنهد لوبيون برفق، وكأن توترًا عالقًا في صدره انحلّ. وبدت ملامحه الباردة، وللحظة قصيرة، أكثر لينًا.
التعليقات لهذا الفصل " 10"