لقد بلغت الوليمة ذروتها تقريبًا.
وما إن وجدت نفسي وحيدة، حتى جاء ويلهيلم مسرعًا نحوي وأخذني معه ليقدمني إلى أصدقائه في الأكاديمية وإلى عدد من النبلاء الشباب.
كانت نظراتهم إليّ نصفها خوف واشمئزاز لما يتذكرونه من ماضيّ، ونصفها الآخر شهوة وطمع. وأيًّا كان الأمر، فكلاهما يثير في النفس الغثيان والضيق.
وربما كان هذا في نظر البعض أكثر مما تستحقه أليكسا القديمة.
على الأقل، لم أُعَامَل بعد الآن كوحش، وهناك قلّة تُظهر لي بعض الود.
لكنني كنتُ إنسانة عادية، عشت هكذا لما لا يقل عن أربعٍ وعشرين سنة.
ومواجهة تلك النظرات الثقيلة وحدي أمر مرهق.
تنهدت والتقطت كأسًا.
طعم النبيذ وهو ينزلق في حلقي كان في نهايته حلوًا.
وفجأة، خيّم على قاعة الوليمة صمت مباغت، هادئ كالصمت الذي رافق دخولي أول مرة.
لكن سرعان ما عاد الضجيج.
كان الصمت قصيرًا، والهمسات عالية.
(يبدو أن هناك إنسانًا آخر يشبهني).
ابتسمت ساخرة وأنا أفرغ ما تبقى من النبيذ.
ثم ارتفعت الهمهمة أكثر.
فتبعتُ بشكل طبيعي أنظار الحاضرين.
وهناك، في آخر القاعة، وقف ظل أسود شامخ.
شَعر أسود، هيبة طاغية، حضور خانق،
وعينان سوداوتان غامرتان لا يُدرك لهما عمق… جعلت وجوده هائلًا.
اقترب الرجل من الملك.
ابتسامة الملك المألوفة، الثابتة كالنمط، تجمدت فجأة.
وبعد أن تبادلا التحية الرسمية، بدأ الرجل يتحدث مع مرافقه.
أما أنا، فلم أزل أحدّق به.
كان يجذب الأنظار بشكل غريب… لا، بل لا يمكن إلا أن يجذبها.
فمن يملك مثل ذلك المظهر لا بد أن يستحيل تجاهله.
وحتى الآن، ما زال الحاضرون يتهامسون وهم يرمقونه بخلسة.
أي حضور طاغٍ هذا، قادر على أسر الأنظار بهذا الشكل؟
حتى الملك بدا واضحًا أنه لا يكف عن مراقبته.
إلا أن ذلك الرجل، منذ أن دخل القاعة، لم يتغير تعبير وجهه قط.
بل لعل وجهه يخلو أصلًا من التعبير. الكلمة الأصح التي تليق به هي اللاشيء.
(اللعنة… انه ذوقي بالضبط).
ضحكت في داخلي. لم أتخيل أن أعثر هنا على نموذج رجلي المثالي، الذي لم أجده حتى في كوريا.
خطواته الواثقة وهو يتقدم، حركته الرصينة وهو يرفع الكأس، جدية مع انضباط…
كأنه وُلد خصيصًا ليوافق مزاجي.
ابتسمت وأنا أحدّق به خلسة بين الحين والآخر.
“أليكسا أختي، من الذي تنظرين إليه هكذا…؟”
كان ويلهيلم قد عاد إلى جانبي بعد غيابه لحظة، فتبع عينيّ حتى وقعتا على الرجل، فارتسم العبوس على وجهه.
“من يكون ذاك؟”
“إنه دوق بيلكلون.”
“بيلكلون، إذن… وهل هو متزوج؟”
حتى اسمه جميل.
سألت وأنا مسحورة بالنظر إليه، فقبض ويلهيلم على معصمي بقوة.
لكن لم يكن الأمر مؤلمًا. فذراعي، بالنسبة لامرأة، قوية، أما قبضته، بالنسبة لرجل، ضعيفة. كنت أستطيع بسهولة أن أفلت يدي، لكنني آثرت أن أدع نفسي أسيرة قبضته، حفاظًا على كبرياء أخٍ ألتقيه لأول مرة اليوم.
“أختي… ذاك رجل ملعون.”
“ملعون؟”
“نعم، انظري إلى تلك العينين المخيفتين. إنه إنسان بالغ القسوة والوحشية.”
“ألم تقل إنه دوق؟ أليس إذن من عائلتنا…؟”
“ليس من العائلة.” قال ويلهيلم بحزم.
“قبل ثلاثين عامًا، وفي ظل اضطراب القارة، عقد الملك الراحل ليرتار الثاني اتفاقًا مع شعب الشياطين للحفاظ على سلام المملكة. وقد أُجبِر على أن يتخذ ملكة من بناتهم المولودات من عبثهم مع البشر. ورغم كونها نصف شيطانة، فإن قوتها وشراستها تجاوزت الحدود، فما كان من الملك إلا أن عزلها وأعدمها. والابن الذي وُلد بين الملك وتلك الشيطانة هو ذاك الرجل. والحقيقة أنني أشك حتى إن كان يحمل دم الملك أصلًا. فالعينان السوداوتان والشعر الأسود سمات الشياطين لا البشر.
لقد منحه جلالته، بعطفه، لقب دوق، وأقره كفرد من العائلة المالكة، لكنني لا أزال مرتابًا.
من يدري متى ستتقد تلك العينان شراسة فيبيدنا جميعًا… آه، ما أفظع الأمر. ليتهم أعدموه مع أمه الشيطانة آنذاك.”
كان الغضب والارتجاف يلوحان في ويلهيلم، لكنني قرأت فيهما خوفًا دفينًا.
إنه خائف.
خائف من الفارق الساحق بينه وبين دوق بيلكلون في القوة والهيبة.
ومتى ما صار ويلهيلم ملكًا، فلن يكون قادرًا على جعل ذاك الرجل تابعًا له.
فلا هو يملك الشجاعة لذلك، ولا يملك السعة ليحتويه.
قهقهت ساخرة.
“لِمَ تضحكين؟” سألني ويلهيلم باستنكار.
وضعت يدي على كتفه وقلت:
“تحوّل الخوف إلى كراهية أمر سهل، أخي الصغير… لكن،”
“……”
“إياك أن تدع الكراهية تتحول إلى شعور بالنقص.”
“……”
“فذلك يجعل المرء قبيحًا، قبيحًا للغاية.”
ثم ألقيت نظرة إلى الجهة المقابلة من القاعة، حيث كانت أرييل محاطة بفتيات النبلاء.
غادرتُ مكاني.
“أ.. أختي! إلى أين تذهبين؟”
“لأستنشق بعض الهواء.”
وبما أن الوليمة كانت في أوجها، لم يكن على الشرفة أحد.
بسرعة خلعت الكورسيه الذي كان يقيّد جسدي كما لو كان أغلالًا، ورميته على الأرض.
“يا لهذا الشيء البغيض.”
كنت أود لو أسحقه بقدمي حتى أفتته، إلى هذا الحد كان شيئًا بغيضًا.
لن أرتدي الكورسيه مرة أخرى ما حييت.
إنها آلام مفرطة لأجل مجرد تزيين المظهر.
نساء هذا العصر حقًا شديدات الصلابة.
ومع نسيم الفجر البارد الذي يلفح وجهي، اجتمع في داخلي انتعاش وحزن في آنٍ واحد.
أما المزاج المرح فقد تلاشى منذ زمن طويل.
ما الذي أفعله هنا أصلًا؟
هل حقًا أنوي أن أواصل الحياة في مكان لا يرحب بي فيه أحد؟
نظرت إلى أسفل الشرفة.
لم تكن بارتفاع كبير، ثلاث طوابق تقريبًا. لكن تحتها، حول الحديقة، تنتصب سياجات حديدية حادة الرأس، مثل النصال. لو سقطت، فسأُثبَت عليها وأموت في الحال.
ولو اخترقت النصال قلبي مباشرة، لكان الموت لحظيًا.
لقد أنهيت عالمي السابق بالموت، فبدأت هذا العالم الجديد.
فهل إذا أنهيت هذا العالم بالموت، أستطيع العودة إلى ذاك السابق؟
كانت رؤوس السياج الحديدي تلمع تحت ضوء القمر.
أحسست برغبة عارمة في أن ألقي بنفسي عليها، لكنني قبضت يدي بإحكام لأكبحها.
لماذا أتشبث بالعودة أصلًا؟
فلا أحد ينتظرني هناك.
لا مَن أحنّ إليه، ولا مَن أحبّه، ولا مَن يتلهف للقائي.
حياتي السابقة أيضًا كانت عزلة كاملة… فما الفرق هنا؟
لا فرق.
أينما ذهبت، سأظل وحيدة.
آه… ارتجف جسدي تحت وطأة ذلك الإحساس الموحش بالفقد.
دمعة بطيئة انحدرت على خدي.
ثم تلتها أخرى، فثالثة كانت تتهيأ للسقوط.
(كم يبدو منظري بائسًا…).
لعنت نفسي على هذا الانغماس في العاطفة، وتقدمت خطوة إلى الأمام.
دع هذه النسائم الباردة تمحو دموعي المتساقطة.
لكن عندها، قبض أحدهم على معصمي بعنف، وأدارني نحوه.
كانت قبضة قوية، أقوى بكثير من تلك التي أمسكني بها ويلهيلم.
التفت جسدي لا إراديًا بقوة الصدمة، فاصطدمتُ بقوة بجسد من شدّني.
وحين أدرك أنه جذبني بعنف شديد، ترك معصمي وتراجع خطوة إلى الوراء.
رفعت رأسي.
في مكان لا ينيره سوى ضوء القمر، كانت عينان سوداوتان قاتمتان تحدّقان بي.
وفي هذه الوليمة، لا أحد يملك عينين سوداوتين سواه.
ناديت باسمه كما خمنت:
“دوق بيلكلون.”
وفي اللحظة نفسها، انزلقت آخر دمعة متبقية على خدي.
ارتفعت حاجباه قليلًا دهشةً حين سمع أنني أعرف اسمه، ثم لاحظ دموعي فتلألأت عيناه بوميض.
اقتربت يده ببطء.
وحين مسح دموعي بإبهامه الدافئ، لم تفارق عيناي وجهه.
وجهه لم يظهر أي تعبير.
مجرّد وجه وسيم، بارد، وعينان حادتان متجمدتان، وهيبة خانقة تنبعث من كامل جسده.
أدركت فجأة لماذا يشعر الجميع أمامه بالخوف.
ومع ذلك، فإن الدفء الذي تركته يده على خدي جعلني أتساءل إن كانت تلك الشائعات كلها حقيقة.
ذلك الذي مد يده ليسندني، والذي مسح دموعي، بدا حنونًا.
وحتى ارتباكه حين أسرع بإفلات يدي، خشية أن يكون قد آذاني، بدا لطيفًا، وإن لم يبدُ عليه من الخارج.
ساد بيننا صمت قصير، لم يكن غريبًا أو مثقلًا كما يُفترض في لقاء أول.
بل بدا طبيعيًا، وهذا ما كان يثير دهشتي.
ثم رأيت من بعيد بعض الأشخاص يقتربون نحو الشرفة.
لقد حان وقت الرحيل.
رفعت وجهي، وابتسمت له ابتسامة صغيرة.
ثم ارتفعت على أطراف أصابعي، وزرعت قبلة خفيفة على خده الأيمن.
كنت أظن أن طولي يكفي، لكن قامته كانت أطول مما توقعت، فاضطررت أن أرفع نفسي بقوة حتى أبلغ وجهه.
صدر صوت خافت حين لمست شفتاي بشرته، وبقي متجمّدًا بلا حراك حتى عدت إلى مكاني.
“شكرًا لك على مواساتي، يا دوق.”
ثم انحنيت قليلًا، وغادرت الشرفة.
كانت تلك لفتة امتنان صغيرة، تجاه إنسان بدا لي للحظة دافئًا.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"