3
الفصل 3 :
ذلك اللقب الغريب جعل سيليست تُقطّب حاجبيها.
أن يقول الملك “ابنتي”… لم يكن كلمة يمكن أن تخرج من فمه.
“تقدّمي، تعالي إليّ. هؤلاء سيجرّون أباكِ إلى مكانٍ بغيض. سيليست! سيليست!”
صرخ الملك بتوسّل، وكأنّها آخر أملٍ يملكه.
كانت سيليست تحدّق بهما بلا أيّ تعبير، ثم التقت عيناها صدفة بعيني الملكة.
عينا الملكة كانتا ممتلئتين بسُمٍّ أزرق متوهّج.
وحين واجهت سيليست ذلك القتل المتأجّج في نظراتها، كأن شيئًا فيها انجذب مثل فراشةٍ وجدت نارًا لترمي نفسها بها.
“أوه، نعم! نعم! هنا. تعالي إلى هنا.”
بدأت سيليست تمشي ببطء نحو الملك والملكة، وهي تترنّح قليلًا. وما إن رآها الملك تقترب حتى أشرق وجهه بنشوة.
أمّا الفارس المكلّف بمرافقة الملك والملكة فقد بان الارتباك على وجهه.
“جلالتها الأميرة.”
“أريد التحدّث مع والديّ قليلًا.”
“ولكن….”
“لن يستغرق الأمر وقتًا.”
“حسنًا.”
كان الفارس يعلم تمامًا أنّ سيليست تمّ اختيارها لتكون فارسة التنّين، لذا انتهى به الأمر إلى تلبية طلبها.
وما إن أفسح الجنود الطريق حتى هرع الملك نحو سيليست مباشرة.
“أوه، يا ابنتي. سيليست. أين كنتِ كل هذا الوقت؟ كم بحثتُ عنكِ.”
“هل لديكم ما تريدون قوله لي؟”
“بالطبع، هناك الكثير… الكثير حتى إنني لا أحصي الكلمات. سيليست، كونكِ فارسة التنّين… لا تتصورين كم أنا فخور بكِ.”
كان الملك يكذب بلا أن يطرف رمش، كأنه كان يعاملها طوال حياته بحنان.
يبدو أنه نسي كيف صرخ عليها ملء حلقه ولعنها يوم اختيرت فارسةً للتنين.
“بما أنكِ فارسة التنّين فستذهبين قريبًا إلى أسيوم، أليس كذلك؟”
“لا أدري.”
لم تُخبره بأنها رفضت أن تكون فارسة التنّين لتضلّله أكثر.
ربما نجحت خطّتها، إذ ظهر التوتر في ملامح الملك فورًا.
“إذًا… إذًا دعيني أرافقكِ. نعم؟ كم سيكون الأمر صعبًا أن تذهبي إلى بلادٍ غريبة وحدكِ؟ دعيني أذهب معكِ يا ابنتي.”
رفع الملك يديه المقيّدتين بالحبال وأمسك بطرف ثوب سيليست. كانت يداه مزرّقتين من شدّة الربط.
رفعت سيلليست رأسها وألقت نظرة على الملك والملكة.
وجهيهما اللذين كانا دائمًا ممتلئين بالدهون، أصبحا شاحبين، وفي أعينهما التي لم تكن تعرف سوى الغطرسة، ظهر اليأس.
ثم فجأة، لمحت شيئًا يلمع بين أصابع الملكة المقبوضة بإحكام.
“سيلليست، سيلليست.”
ناداها الملك ثانيةً بصوتٍ متوسّل. كان واضحًا ما يريده.
عندها ابتسمت سيلليست ابتسامة مشرقة بشكل مفاجئ.
“بالطبع يا أبي. ستأتي معي. وأمي أيضًا.”
“أ… أحقًا؟”
كلماتها فجّرت الأمل فجأة في وجه الملك.
“نعم، بالطبع. حرّروا يدي أبي وأمي من القيود.”
“نعتذر، لا يمكننا فكّ قيود المجرمين دون إذن.”
هذه المرة لم يوافق الفارس بسهولة.
لكن سيلليست ضغطت عليه بقوّة أكبر.
“إن حدث أيّ شيء فسأتحمّل كامل المسؤولية. ثم ما الذي يمكن أن يفعلاه؟ هل لديهما مكان يهربان إليه؟ فقط أريد لحظة أتحدّث فيها مع والديّ بهدوء.”
تردّد الفارس، لكن بعد إلحاح سيلليست عدّة مرات، أومأ على مضض.
“وقت قصير فقط.”
“شكرًا.”
ابتسمت سيلليست بصدق. فاحمرّ وجه الفارس وتجنّب النظر إليها.
أخذت سيلليست الملك والملكة بعيدًا قليلًا عن الجنود.
“أبي، أمي… تعاليا إلى هنا. كم عانيتما.”
“نعم، نعم، ابنتي سيلليست! أنتِ طفلتي الوحيدة.”
“ولماذا أنتِ الوحيدة التي بقيت حيّة؟”
تكلمت الملكة لأوّل مرة.
عيناها كانتا تتوهجان بكراهية وحقد شديد.
“لماذا مات أبنائي الثلاثة وبقيتِ أنتِ؟!”
“مولاتي! كيف تقولين هذا لابنتنا سيلليست؟”
صرخ الملك محاولًا إيقافها، لكن غضبها المنفجر كان أكبر من أن يُهدأ.
“لماذا تسألينني هذا، أمي؟”
“أمي؟ أيتها الحقيرة، من تكون أمك؟”
“إيان مات لأنه حاول الهرب بمفرده وقبض عليه الجنود. وإدوارد مات لأنه توهّم أنه فارس تنين واقترب من التنين بتهوّر.”
ابتسمت سيلليست بابتسامة مائلة، مستفزّة للملكة.
“لو لم تكوني هناك ذلك اليوم لما واجه إدوارد التنين أصلًا!”
“يبدو أنكِ نسيتي أن ذلك اليوم كان يوم إعدام آل ديبينشيون، بمن فيهم إدوارد.”
أخذت الملكة ترتجف بقوّة.
ابتعد الملك خطوة عن الملكة بابتسامة محرجة، وكأنه يرسم خطًا يفصل نفسه عنها.
“همم. الملكة صارت متخبّطة هذه الأيام. عليكِ تفهّمها يا سيلليست.”
“قذارة… مقزّزة… ما كان علينا قبولك أصلاً. حين علمت أمّك أنكِ في بطنها كان يجب قتلُك.”
ليس متأخرًا الآن.
فكّرت سيلليست وهي تنظر إلى قبضة الملكة.
“انظري. من كل ما كنتِ تحبّينه بشدّة… ما الذي بقي؟”
“…….”
“وها أنا التي اعتبرتها دائمًا نجسة… البقية الوحيدة.”
ارتجف جسد الملكة أكثر.
كانت تقبض على يدها بشدّة حتى سال الدم من بين أصابعها.
وسيلليست وحدها هي من انتبه لذلك.
“إدوارد الأحمق… كيف ظنّ أنه سيكون فارسة تنين…؟”
“نعم! موتي! موتي! موتي!”
حدث الأمر في لحظة.
صرخت الملكة كالمجنونة وانقضّت على سيلليست.
اختلّ توازن سيلليست وسقطت أرضًا.
جلست الملكة فوق بطنها ورفعت يدها عاليًا… وبها قطعة زجاج حادّة طعنت بها صدر سيلليست.
“أوخ.”
“كان يجب أن تموتي منذ البداية! مثلكِ نجسة! ملعونة!”
“مولاتي!”
هناك ليس المكان الصحيح.
من الصعب على شخص غير مدرّب أن يصيب القلب المحمي بالضلوع.
يجب الطعن في العنق.
فأمالت سيلليست عنقها الأبيض عمدًا لتُظهره للملكة.
كانت ترى الجنود يركضون نحوها الآن.
أما الملك ففتح فمه كالأبله، عاجزًا حتى عن الصراخ.
أسرعوا، بسرعة.
عضّت سيلليست شفتها من التوتر.
كانت الملكة قد فقدت عقلها تمامًا.
“موتي! موتي! مو— كاه!”
تجمّدت الملكة فجأة.
فتحت فمها بلا صوت.
ظهر نصل حاد يخترق صدرها حتى كاد يلامس وجه سيلليست.
“سيدي الدوق!”
سحب نيكولاس سيفه من جسد الملكة بقوة.
وفي اللحظة نفسها، غطّى دمها الساخن جسد سيلليست.
سقطت الملكة أرضًا دون أن تُغلق عينيها.
“م، م، مولاتي الملكة… ما، ما هذا…”
لم يفهم الملك ما حدث. لم يستطع إلا أن يلهث.
وبدا الفارس الذي وصل متأخرًا شاحبًا كالورق.
“يا إلهي… جلالتكِ، هل أنتِ بخير؟ إنها غلطتي… أعتذر… أعتذر.”
أخذ الفارس ينحني بلا توقف.
استلقت سيلليست على الأرض تحدّق بالسماء، غارقة في صمتٍ فارغ.
مدّ نيكولاس يده نحوها وهو ينفض الدم عن سيفه.
“هل يمكنكِ الوقوف؟”
“أنا بخير.”
تجاهلت سيلليست يده ونهضت بنفسها.
لم يكن سلوك من أنقذتها، بل كان باردًا.
حدّقت بجسد الملكة الملطّخ بالدم.
‘يا تُرى… هل ستقابل الملكة أريادن مجددًا؟’
كان ذلك أول ما فكرت به.
لكنها فكّرت بعد ذلك بما ارتكبته الملكة بحقها.
لو كان في هذا العالم إله وعدل… فلن تدخل الملكة الجنة أبدًا.
“سأستدعي الطبيب حالًا.”
“لا داعي.”
لم تُصِبها قطعة الزجاج إصابة عميقة.
فقط خدوش متناثرة.
وما إن أدركت ذلك حتى شعرت بالغضب.
لم يكن غضبها لأنها عذّبتها لسنوات، بل لأنها حتى الآن… لم تستطع قتلها.
‘حتى هذا لم تستطع فعله؟’
كان يمكن أن تموت.
لكن في كل مرة يُنتزع منها ذلك الاحتمال… كان الغضب يتصاعد من أعماقها.
“جلالتكِ…”
وصلت وصيفتها وهي شاحبة.
رأى نيكولاس قطعة الزجاج الدموية في يد الملكة.
“السير إيلون.”
“نعم…”
“كيف حصل أن تحمل مجرمة شيئًا كهذا؟ ومن سمح بفكّ قيودها؟”
“في… في الحقيقة…”
بدأ إيلون يروي ما حدث بتلعثم، بينما نيكولاس يلقي نظرة على سيلليست المبتلّة بالدم.
“سأحاسبك لاحقًا. خذ الملك وارجع إلى البرج. ستستمرّ عملية الإعدام كما هو مقرّر. وبالنسبة لهذه…”
أشار نيكولاس نحو جثة الملكة بقسوة وكأنها شيء يجب التخلص منه.
“علّقوها على أسوار القلعة.”
“أمرٌ مطاع.”
“م، مهلاً! سأذهب إلى أسيوم مع سيلليست!”
زوجته التي عاش معها لسنوات قُتلت أمام عينيه، لكنه لم يفكر إلا في نجاته.
نظر إليه نيكولاس من طرف عينه وقال ببرود:
“من سيذهب مع من؟”
“سيلليست قالت… قالت إنها ستأخذني معها… قالت…”
“أهذا صحيح؟”
“لا.”
كذبت سيلليست دون أن ترمش.
فانكمش وجه الملك غضبًا.
“لكنكِ قلتِ! سيلليست! يا ابنتي! قلتِ قبل قليل إنك ستأخذين أباكِ معكِ إلى أسيوم!”
“لم أقل شيئًا كهذا. لعلّك تتوهم. فقط أردت توديعكما قبل موتكما.”
“سيلليست! أيتها الناكرة! الخائنة!”
كان الملك يتوسّل قبل لحظات، والآن بعد أن أدرك أنها لعبت به، بدأ يصرخ كالمجنون.
“كيف تكافئين من ربّاكِ؟ لقد قبلتُ تربية عرجاء ملعونة! كان عليكِ ردّ الجميل! هكذا تخونينني؟”
“تسمي هذا تربية.”
قهقهت سيلليست بسخرية حادة.
كانت في يومٍ تتمنى تمزيق هذا الرجل إربًا.
تخيلت آلاف المرات أن تشقّ رئتيه وتقطع أصابعه واحدًا واحدًا.
“سيلليست!”
رأته من بعيد يُسحب جرًّا على يد الفرسان، ضعيفًا وحقيرًا.
وفجأة أحسّت بفراغٍ داخلي.
ما معنى الانتقام الآن؟
ذلك الشخص الذي كانت تنتقم من أجله… لم يعد موجودًا في عالمها.
بدا كل شيء عديم الجدوى.
فجأة شعرت بالدوار.
وتمايلت قليلًا.
فسارعت وصيفتها لإمساكها.
“هل أنتِ بخير؟ أأجلب الطبيب؟”
“لا.”
أبعدت سيلليست يدها وأرادت أن تغادر.
لكن نيكولاس أمسك بمعصمها وأدارها نحوه.
“لحظة… لا تخبريني…”
“……”
“هل فعلتِ ذلك… عمدًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 3"