2
الفصل 2 :
“العَهْدُ؟”
لم تستطع سيليست أن تفهم بسهولة تلك الكلمة التي قالها التّنّين. لم تشعر سوى بالحيرة.
لِمَ؟
لِماذا يناديني بذلك؟
“تقول إنّها فارسةُ التّنّين؟”
[نعم. كنتُ عاجزًا عن العثور عليك طيلة عشر سنوات بسبب بقائك في هذا الريف الموحش. لكن لا بأس. سنقضي بقيّة عُمرنا معًا من الآن فصاعدًا.]
“أميرة، ها… يا لَسُوء الحظ. مع ذلك، أظن أنّها أفضل من الأمير إدوارد، يجب أن أعدّ ذلك شيئًا جيدًا.”
لوّح نيكولاس بيده لِفارسٍ كان يقف خلفه، وقد بدا غير راضٍ تمامًا.
سارع الفارس إلى إزالة الحبل الذي كان يلتف حول عنقها وقطع الحبل الذي كان يقيّد يديها.
صارت سيليست حرّة في لحظة.
لكنّها لم تشعر بالسعادة أبدًا. لم تصدّق أنّ موتها سُلب منها فجأة.
وبعد أن استوعبت ما حدث، لمعت داخلها مشاعر الغضب أوّلًا.
“مباركٌ لكِ يا أميرة رادنوا. أنتِ الآن فارسةُ تنّين آشّيوم….”
“لا أُريد.”
قاطعت سيليست كلام الدوق بفظاظة شديدة وهي تنظر مباشرة إلى عينيه.
“لا تُريدين؟ أيُّ شيءٍ هذا الذي لا تُريدينه؟”
“لا أُريد أن أصبح فارسةَ تنّين.”
نطقت كلماتها ببطء، كأنّها تمضغ كلّ حرف.
ما ذاك التّنّين الذي يجرؤ على انتزاع موتي مني؟
لم يبقَ لي سوى خطوة واحدة، خطوة واحدة فقط.
“تلك الوضيعة تصبح فارسةَ تنّين! بينما ابني… ابني مات ميتةً مُهينة!”
صرخ ملك رادنوا محتجًّا على ولادة فارسة التّنّين الجديدة. كان يشير إلى سيليست بأصبعه، بعينين محمرّتين بالغضب.
“أمثالك؟ كيف لشيءٍ مثلك أن يكون فارسة تنّين؟ آشّيوم في طريقها للهلاك. هل يُعقل أن تصبح تلك الدخيلة التي وُلدت من بطن وصيفة، فارسة للـتّنّين؟!”
[كيف تجرؤ! أَغْلِق فمك!]
فتح التّنّين فاه مهدِّدًا، فارتجف الملك وأغلق فمه في الحال.
ففتحت سيليست فمها بدلًا عنه.
“أنا غيرُ مناسبة لأن أكون فارسة تنّين. أرجوكم أَعيدوا تنفيذ قرار الإعدام كما كان. سأتلقّى العقوبة التي أصدرها جلالة الإمبراطور عن طيب نفس.”
“انسَي الأمر. ما دام هذا التّنّين حيًّا، فقلّما يوجد شيءٌ في هذه الدنيا يمكنه قتلك.”
[بالضبط! لا تقلقي، يا عَهْدِي. هيهي، وصلتُ في الوقت المناسب، أليس كذلك؟]
قال التّنّين ذلك بضحكة خفيفة مطمئنة.
لكنّ سيليست شعرت بأنّ أعماق قلبها قد انفجرت غضبًا ويأسًا.
لقد تلاشى الأمل الوحيد الذي كان يربطها بذلك الطفل… بسبب هذا التّنّين.
“لا… لا. أنتم مُخطئون. أنا لستُ هي. لستُ فارسةَ تنّين. كان من المفترض أن أموت اليوم. اليوم… اليوم يومُ إعدامي.”
“يا أميرة. أعلم أنّ الأمر مفاجئ—”
“وعدتموني بأن تقتلوني اليوم!”
لم تستطع الصّبر أكثر، فانفجرت سيليست بالصراخ. عندها أدرك نيكولاس أنها ليست بعقلها.
“يبدو أنّكِ لا تستوعبين الوضع. خذوها إلى القصر.”
أمسك بها فارسان من ذراعيها بإحكام.
“أنا فارسة تنّين؟! اليوم يومُ إعدامي! أرجوكم اقتلوني! اقتلوني!”
رغم أنّها لم تأكل منذ ثلاثة أيّام، إلا أنّ قوّة غريبة انطلقت في جسدها، فبدأت تُقاوم كحيوان وقع في فخ، تصرخ طالبة الموت.
لكن في النهاية، عادت مُجددًا إلى حياةٍ أشدّ بؤسًا.
—
فارسةُ التّنّين أشرف وأسمى منصب في قارّة بارات.
لا يُصبح أحدٌ فارسةً إلا باختيار التّنّين نفسه، ومهما كانت هوية الشخص، تُمنح له ثروة هائلة وشرف لا يُضاهى.
لكن لذلك ثمن.
ففارسةُ التّنّين مُلزَمة بالقتال في وجه الوحوش القادمة من وراء جبال راندال لمنع تقدّمها جنوبًا.
المهنة خطرةٌ لدرجة أنّ المرء قد يُقتل في أي لحظة، ومع ذلك يتمنّاها الجميع.
على الأقل، لم يرَ نيكولاس في حياته شخصًا يرفض هذا الشرف.
“لكنّكِ تجرئين على رفض منصبٍ شريف كهذا؟”
“أنا غيرُ جديرة بأن أكون فارسةَ تنّين، أرجوكم اسحبوا الأمر.”
لم يعلم كم مرّة أعادت سيليست الجملة نفسها.
بدأ رأس نيكولاس يُؤلمه كلّما تحدّث معها أكثر.
“يبدو أنّكِ ما زلتِ لا تفهمين. أنا لا أُعيّنكِ بناءً على صفاتك. التّنّين هو من اختارك. هذا… قَدَر.”
قَدَر. كلمةٌ قاسية… عنيفة.
من الذي قرّر قَدَرها دون إذنها؟
بدا له أنّ الكلمة نفسها تسخر منها.
“قولي ما تريدين يا أميرة.”
“أريد الموت.”
“….”
“أريد تنفيذ الإعدام كما كان.”
انحنت سيليست بعمق.
ذلك ما تريده… ولا شيء غيره.
لكن نيكولاس لم يصدّق صدق نيّتها. تنفّس بعمق وأطلق زفرة قصيرة.
“ولِمَ تريدين الموت لهذه الدرجة؟”
“لأنّه لا سبب يجعلني أعيش.”
وجد نيكولاس جوابها غريبًا.
هل يحتاج الإنسان سببًا ليعيش؟ معظم الناس يعيشون فقط لأنّهم وُلدوا.
“ما زلتِ صغيرة. السبب سيأتي مع الوقت.”
قالها نيكولاس بنبرة رقيقة كأنّه يُهدّئ طفلًا. فابتسمت سيليست.
كان ذلك الابتسام قصيرًا وباهتًا، لكنه لم يقدر على صرف نظره عنها.
“كنتُ أظنّ ذلك أيضًا. أنّ الألم سيمرّ… وأنّ يومًا سعيدًا سيأتي لاحقًا. وأنّ معنى حياتي سيظهر حينها….”
حين كان ذلك الطفل على قيد الحياة… كان ثمّة أمل. أمّا الآن—
’لا، أرجوكِ… أريادني. لا تتركيني.’
’أختي….’
’فقط قليلًا… قليلًا فقط ابقي مع أختك، نعم؟ لدينا الكثير لنفعله. حين يأتي الربيع سنزرع الزهور التي تُحبينها، وسنرى الجنيات… صحيح، وعدتِ أن نذهب لنرى التّنّين والجنيات في آشّيوم… أرجوكِ، فقط مرّة أخرى… مرّة واحدة…’
لقيطةٌ قذرة.
عالَمةٌ بلعنة الآلهة.
وجهها المختلف عن ملامح رادنوا حدّ الإزعاج.
لم يمرّ يوم دون أن تُذلّ بسبب شكلها ونسبها.
حتى خدم قصر رادنوا كانوا ينادونها “الأميرة المسكينة” أو “العرجاء المنحوسة”.
لكن أريادني… كانت مختلفة.
كانت الوحيدة التي مدّت يدها نحوها.
’أنا أحبّ أختي أكثر من العالم!’
رغم أنّ الملكة أمرتها مئات المرّات بأن تبتعد عن “تلك القذارة”، إلا أنّ أريادني لم تُصغِ أبدًا، وظلّت تبحث عن سيليست.
حتى إنّ إصرار أريادني على ملازمتها جعل الملكة تُضطر إلى نقل غرفة سيليست إلى مكان “أنظف”.
ولم يتوقّف الأمر عند ذلك—
حين أصرت أريادني على تناول الطعام معها، اختفت الخبزة الممزوجة بالغبار، وصار يُقدّم لها خبزٌ أبيض طري.
’سأحضر الدروس مع أختي!’
تعلمت سيليست القراءة والآداب بسبب أريادني وحدها.
ولأنّ أريادني وُلدت ضعيفة، قيل إنّها لن تعيش طويلًا، لذا لبّت الملكة كلّ ما تريده.
حتى لو كان ذلك يعني منح الرعاية لمن تكرهها.
’سأصبح مثل أختي حين أكبر!’
’ههه، ولماذا؟’
’لأن أمّي دائمًا تصرخ على أختي، لكنّكِ لا تغضبين منّي أبدًا. مهما تألمتِ لا تقولين كلامًا سيئًا للناس. دائمًا طيبة…’
’كيف أغضب منكِ يا ريا؟’
وُلدت سيليست كعارِ الملك… لكنّها عاشت دون خجل. وُلدت بجسدٍ معيب وبدمٍ ناقص… لكنها فعلت ما بوسعها دائمًا.
لأنها أرادت أن تكون قدوة لذلك الطفل.
قطع نيكولاس أفكارها قائلًا:
“إن رغبتِ بالذهب فسأعطيك وزنكِ منه. وإن أردتِ لقبًا فسأمنحك رتبةً أعلى من الكونت.”
“لا أريد شيئًا من ذلك.”
هزّت رأسها بإصرار.
“وماذا عن هذا؟ أقطع رأس ملك رادنوا الذي أهانك، وأقدّمه لكِ على طبقٍ من فضّة.”
“….”
“وإن شئتِ أُمزّق الملكة حيّة. تلك التي عاملتكِ كوصمة عار.”
غمرت ابتسامةٌ عذبة وجه نيكولاس وهو يقول ذلك.
بعد اختيار التّنّين لسيليست، عمّت الفوضى جيش آشّيوم.
أما هي… فكانت أميرة البلد الذي دمّرته الإمبراطورية بيدها.
فأمر نيكولاس بجمع ملفّها بالكامل، وما إن اطّلع عليه حتى انفجر ضاحكًا بسخرية.
’الأميرة عرجاء؟’
’نعم. أصيبت بحمّى وهي في الثانية، لكن الملكة امتنعت عمدًا عن علاجها، فتلفت ساقها اليسرى. يبدو أنّ الملكة كانت تكره الأميرة الكبرى أشدّ الكره.’
كلمة “كره” لا تكفي لوصف ما فعلته الملكة بسيليست.
قرأ نيكولاس تفاصيل التعذيب الذي لاقته… فشعر بالطمأنينة.
مع عائلة كهذه، يمكنه استدراجها بخيط الانتقام بسهولة.
لكنّ ما لم يتوقعه هو أنّ قلب سيليست كان مُحطّمًا لدرجة لم يعد قادرًا على أن يحمل حقدًا أو غضبًا.
“أريد الموت.”
“….”
“مبتغاي الوحيد هو الإعدام.”
تمتمت سيليست بنظرة فارغة.
سكت نيكولاس… ثم أدرك أنّ الاستمرار لن يجدي.
“…احرصوا على مراقبتها جيدًا. لا أريدها أن تؤذي نفسها.”
اختفت سيليست مع الخدم، وخرجت من فمه زفرةٌ ثانية.
—
كانت سيليست، تحت رقابة صارمة، تأكل فقط ما يكفي للبقاء حيّة. كانت أشبه بجثّة تمشي.
ولم تكن تستعيد نبض الحياة إلا حين تتجه لزيارة قبر أريادني.
واليوم أيضًا، شرعت في الاستعداد للخروج. فلاحظت الخادمة ذلك ولازمتها فورًا.
“سأرافقكِ يا أميرة.”
لم تعتد سيليست على وجود أحد ملاصقٍ لها… لكنها لم تهتم.
غادرت الغرفة بصمت.
كان السّماء زرقاء أكثر مما ينبغي. وكانت رائحة زهور الربيع المتأخر تدغدغ أنفها.
توقّفت سيليست قليلًا، ونظرت حولها.
بدت لها صورة أريادني وهي تجري من بعيد صارخة: “أختي! وجدّتُ حشرةً حمراء!”
“… ريست!”
سمعت صوتًا مألوفًا وغير مألوف.
التفتت، فإذا بالملك والملكة يُقتادان على أيدي الجنود.
بعد فشل تنفيذ الإعدام في ذلك اليوم، مُنح الاثنان وقتًا إضافيًا للحياة—لكن ما إن عَلِم نيكولاس أن سيليست لا تحمل لهما أي علاقة أو شفقة… حتى حدّد موعد الإعدام فورًا.
“سيليست! يا ابنتي!”
التعليقات لهذا الفصل " 2"