89
“الآن أنا حقًا بخير!”
“حسنًا، حسنًا. لكنني لا زلت أشعر بالأسف لأنني لم أتمكن من توجيه لكمة لؤلئك الاوغاد. كيف تجرأوا على فعل شيء دنيء بتلميذتي… تسك!”
كان الأستاذ ماليس يتذمر وهو يصدر صوت استياء بلسانه، وكأن غضبه لم يهدأ رغم مرور وقت طويل، محدقًا بلا هدف في الأفق.
ثم التفت فجأة إلى الشخص بجانبه، وسحبها ليقدمها قائلًا:
“يا صغيرتي، هذه لوسي، إحدى تلامذتي القدامى.”
نظرت المرأة في منتصف العمر، التي دُعيت بـ لوسي، إلى الأستاذ ماليس وكأنها لا تصدق ما تسمعه.
“أستاذي، إذن أنت تعترف بي كتلميذتك؟”
“وما العمل؟ حتى لو كنتِ تختارين دائمًا الأفعال المزعجة، فقد كنتِ متميزة في دراستك، فلا خيار لي سوى الاعتراف بذلك.”
“يا إلهي، لا زلتَ متضايقًا لأنني أصبحت مهندسة معمارية بدلًا من عالمة رياضيات؟ لقد مرت ثلاثون عامًا! هلا سامحتني الآن؟”
“من قال إنني متضايق؟!”
صاح الأستاذ ماليس بنبرة مرتفعة، ومن ردة فعله، أدركت إيفي على الفور:
“الأستاذ كان متضايقًا بالفعل.”
تجاهلت لوسي تذمر الأستاذ ماليس، واقتربت من إيفي، منحنية قليلًا لتكون في مستواها.
“إذن أنتِ إيفي. كان الأستاذ يمتدحكِ في كل رسائله حتى كدتُ أشعر بالغيرة. كنتُ أتوق لمقابلتكِ، يا صغيرتنا.”
مدت لوسي يدها لتصافح إيفي.
كانت هذه أول مرة يصافحها شخص بالغ بهذه الطريقة، فشعرت إيفي بالحرج لكنها مدت يدها بحذر.
أمسكت يد كبيرة ملطخة بالحبر يد إيفي الصغيرة، وهزتها برفق.
شعرت إيفي بإحساس غريب، كأنها أصبحت فجأة شخصًا بالغًا بسبب هذه التحية. ثم تذكرت ما قالته لوسي.
“لكن… صغيرتكم؟”
“نعم، لقد تغيرت أخيرًا صغيرة جماعتنا. كم مضى على ذلك؟ خمسة وعشرون عامًا؟”
بدت لوسي متأثرة وهي تنظر إلى الأستاذ ماليس بعينين متلألئتين.
“ستة وعشرون عامًا.”
“نعم، نعم، لقد قبل الأستاذ أخيرًا تلميذة جديدة بعد ستة وعشرين عامًا.”
نظرت إيفي إليهما دون أن تفهم ما يتحدثان عنه، فقالت لوسي:
“يبدو أن الأستاذ لم يشرح لكِ بعد، أليس كذلك؟”
“بالطبع! ما الذي ستفعله صغيرتي في تجمع مليء بأشخاص في منتصف العمر غير لطيفين مثلكم؟”
“هذا قاسٍ جدًا! لو أنك قبلت تلميذًا جديدًا كل عام، لكان لدينا أشخاص في سن إيفي، كان ذلك ليكون رائعًا!”
“كفى! هل تظنين أن الطلاب الذين يستوفون معاييري يأتون بسهولة؟”
“حسنًا، حسنًا، سأقبل بذلك. آه، إيفي، دعيني أوضح. عادةً، يختار أساتذة الأكاديمية أو معهد النخبة تلاميذ مميزين لهم. وبالطبع، يوجد تجمع لتلاميذ كل أستاذ، وأنتِ الآن الصغرى في تجمعنا بعد ستة وعشرين عامًا.”
أومأت إيفي برأسها وهي تفهم أخيرًا.
فتشت لوسي في جيبها، وأخرجت دبوسًا صغيرًا يشبه الشارة.
“هذا شعار جماعتنا. يمكنكِ وضعه على زي معهد النخبة، أو تحويله إلى قلادة وارتداؤه. إذا احتجتِ إلى مساعدة، فقط أري هذا الشعار في مكتبنا بالعاصمة، وسيساعدكِ جميع أعضاء جماعتنا، بل وحتى من يعرفون هذا الشعار.”
ثم همست لوسي في أذن إيفي، كما لو كانت تكشف سرًا عظيمًا:
“وإذا زرتِنا، سأشتري لكِ آيس كريم أيضًا.”
“حقًا؟”
تألقت عينا إيفي.
فالآيس كريم كان يُقدم في معهد النخبة مرة واحدة فقط في الأسبوع، لأن الإفراط في تناوله قد يسبب اضطرابًا في المعدة!
“مهلًا، لماذا تحاولين استدراج الطفلة إلى هناك؟”
“ولمَ لا؟ الجميع فضوليون بشأنها. وبما أن العطلة ستبدأ قريبًا، هل ستبقين في المعهد، إيفي؟ إذا شعرتِ بالملل، تعالي لزيارتنا متى شئتِ. سيكون أشقاؤك وشقيقاتك في الجماعة ينتظرونكِ بفارغ الصبر.”
“ينتظرونني أنا؟”
“بالطبع! الجميع في المعهد يتلهفون لمقابلتكِ الآن. يحاولون إيجاد أي فرصة لزيارة المعهد، حتى لو كمحاضرين ضيوف. كلهم سيستقبلونكِ بحرارة. كنا نظن أن جماعتنا لن ترحب بأعضاء جدد، لكن من كان يتوقع أن تأتي أخت صغيرة لطيفة مثلكِ؟”
نظرت إيفي إلى الدبوس في يدها.
عندما ثبتته على طية زي معهد النخبة، لمعت الشارة تحت أشعة الشمس.
كان الشعار الصغير، المطلي بالذهبي والفضي والأزرق، مكونًا من أرقام وأشكال هندسية.
“ينتظرونني…”
لم تكن إيفي تعرف أي مكان في العاصمة خارج معهد النخبة.
لكن فكرة أن هناك أشخاصًا ومكانًا ينتظرونها جعلتها تشعر بدفء وطمأنينة.
ربما انعكس هذا الشعور على وجهها، فقد توقف الأستاذ ماليس عن التذمر وهو يرى ابتسامتها الراضية.
“لو كنتُ أعلم أنها ستفرح هكذا، لكنتُ أخذتها بنفسي ليوم واحد.”
“هه، عندما أرسلنا آلاف الرسائل نطلب منك الحضور، لم ترد ولو مرة واحدة. أليس هذا تمييزًا واضحًا؟”
“اصمتي! خلال العطلة، سآجلب إيفي لزيارتكم مرة واحدة.”
“أوه، هل ستأتي حقًا؟ إذن أخبرنا مسبقًا من فضلك. سنتجمع جميعًا، من الأكبر إلى الأصغر!”
“آه، سيكون ذلك مزعجًا جدًا.”
رغم قوله ذلك، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي الأستاذ ماليس.
لقد قطع صلته بتلاميذه لفترة طويلة.
ليس لأنه يكرههم، بل لأنه كان يمقت التورط في صراعات الفصائل.
كان يعلم أن تلاميذه ربما شعروا بالاستياء لأنه لم يقدمهم إلى أساتذة آخرين أو نبلاء، لكنهم مع ذلك اتحدوا معًا.
والآن، أصبحت جماعتهم تجمعًا مرموقًا في الإمبراطورية.
كان فخورًا بأنهم نجحوا بمفردهم، وبالرغم من ذلك شعر بمزيد من الأسف.
سماعه أنهم لا زالوا ينتظرونه جعل قلبه يمتلئ بالعاطفة.
والأكثر من ذلك، أن إيفي أيضًا تُرحب بهم وينتظرونها.
“أنا بالفعل محظوظ بتلاميذي.”
بينما كان الأستاذ ماليس غارقًا في تأملاته العاطفية، كانت إيفي تسترق النظر إلى المخطط الذي يحمله في يده.
“لكن، ماذا كنتما تفعلان، أستاذي ولوسي؟”
“آه، صحيح. يجب أن نعود إلى عملنا.”
استفاق كل من ماليس ولوسي من شرودهما عند سؤال إيفي، وبدآ يتفحصان المخطط بسرعة.
“لقد تلقينا طلبًا من أكاديمية في مدينة أخرى لبناء مبنى على غرار مكتبة معهد النخبة، فجئنا لمعاينته.”
وأخذت لوسي تشرح لإيفي بعض المعارف المعمارية: أنواع الأحجار المستخدمة، ومدى الارتفاع والوزن الذي يمكن أن تتحمله، وكيفية الحسابات لتصميم فضاء بدون أعمدة.
عندما رأت إيفي المعادلات التي شرحتها لوسي، نظرت إلى المخطط وقالت:
“إذن، يمكن بناء هذا المكان بدون أعمدة حتى ارتفاع 15 ريد.”
“حسبتِ ذلك الآن؟”
نظرت لوسي إلى إيفي بعيون مندهشة، ثم أومأت برأسها بعد لحظة.
“الآن أفهم لماذا اختار الأستاذ تلميذة جديدة بعد كل هذا الوقت.”
“أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ صغيرتي مذهلة إلى هذا الحد!”
“بالفعل. إذن، يجب أن نربيها لتصبح مهندسة معمارية ستترك بصمتها في تاريخ الإمبراطورية…”
“مهلًا! ستصبح عالمة رياضيات، أقول لكِ!”
عاد الأستاذ ماليس ولوسي للتنافر والتجادل بصوت مرتفع، واستمر نقاشهما حتى جاء موظف المكتبة يطلب منهما الهدوء.
—
في الوقت ذاته، كان كلويس غارقًا في التفكير العميق، مستندًا بذقنه على يده.
دخل رئيس الخدم، لكن كلويس لم يحرك رأسه، بل ظل عيناه مثبتتين على الأوراق المتراكمة أمامه على المكتب.
“جلالتك، ربما حان وقت أخذ قسط من الراحة؟”
هز كلويس رأسه.
“لا، لا وقت لدي.”
كان بالفعل في حالة من القلق الشديد.
لم يتبق سوى أسبوعين تقريبًا حتى عطلة معهد النخبة.
في الحقيقة، معظم الدروس انتهت بعد الامتحانات، ولم يبق سوى دروس تعويضية للطلاب الراغبين، مما يجعل الحالة شبه توقف دراسي.
بعض الطلاب الذين يعيشون بعيدًا عن العاصمة حصلوا على واجباتهم من الأساتذة وغادروا مبكرًا.
“قالت إنها ستبقى هذه المرة.”
قبل أسبوع، بعد انتهاء الامتحانات، استدعى كلويس إيفي.
كانت تلك أول مرة يلتقيان فيها منذ حادثة إيزرييلا، فكان متوترًا للغاية.
ما إن دخلت إيفي برفقة رئيس الخدم، حتى قفز كلويس من مقعده واقترب منها.
لحسن الحظ، اختفت آثار الأذى من وجهها، وبدت تعابيرها مشرقة كما كانت من قبل.
صحيح أنها لا زالت تشعر ببعض الرهبة منه كإمبراطور، لكنه لاحظ أنها أقل توترًا مما كانت عليه في لقائهما الأول، فاكتفى بذلك.
ثم أمر بإحضار بعض الأطعمة الخفيفة والحلويات التي أعدها مسبقًا.
“إنه جبل…”
عندما رأت إيفي الطاولة المغطاة بالطعام، لم تستطع إغلاق فمها من الدهشة، مما جعل كلويس يشعر بالفخر.
واحدة، ثم أخرى، كان يراقبها وهي تأكل بنهم، وسألها عدة أسئلة.
“هل ستعودين إلى دار الأيتام خلال العطلة؟”
“لا… سأبقى هنا فقط. لدي الكثير لأدرسه، وأريد أيضًا استكشاف العاصمة.”
في اللحظة التي قالت فيها إيفي إنها ستبقى، اتخذ كلويس قراره.
“لا يمكن أن تبقى الطفلة محصورة في معهد النخبة طوال الوقت. إن أمكن، يجب أن أرافقها إلى أماكن تخلق ذكريات جميلة.”
ما إن غادرت إيفي، أصدر أمره:
“أحضروا قائمة بجميع القصور الإمبراطورية في ضواحي العاصمة. دون استثناء!”
وكانت تلك الأوراق هي التي تغطي مكتب كلويس الآن.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 89"