54
رنَّت سبع دقاتٍ عميقةٍ ومدوّية من جرسٍ ضخم، معلنةً حلول الساعة السابعة مساءً.
تذكَّرت إيفي وجهَ آيرين وهي تؤكد عليها مرارًا وتكرارًا أن يتناولا العشاء معًا، فشعر بقطرات العرق البارد تنساب على ظهره.
“إنها تنتظرني الآن!”
هرولت إيفي مسرعة نحو الطريق المتشابك بالأدغال التي أتت منها
“أستاذي، سأذهب الآن! لقد وعدتُ آيرين أن نتناول العشاء معًا!”
“مهلاً، انتظري لحظة… هذا الطريق…”
كان كلويس ينوي أن يقترح عليها الذهاب معًا عبر الطريق الرئيسي خوفًا من أن يتأذى إيبي مجددًا، لكنه أطبق شفتيه صامتًا.
لو فعل ذلك، لربما رأت إيفي الحراس الذين يقفون عند مدخل الطريق.
إذا رأت الحراس يحيونه ، قد يثير ذلك دهشتها، وإذا بدأت تغكر في هويته الحقيقية، فقد…
بينما كان كلويس يتردد، كانت إيفي قد غاص نصف جسدها بالفعل بين الأدغال.
ظنَّ أنها ستواصل سيرها، لكنها استدارت فجأة ولوحت له بيدها.
“حسنًا، سأزورك في مكتبك المرة القادمة! نلتقي هناك! تناول عشاءً شهيًا!”
كررها إيفي كلمة “وداعًا” عدة مرات وهي تلوح بيدها، ثم اختفت تمامًا داخل الأدغال.
كما حدث من قبل، اختفت إيفي اليوم أيضًا في غمضة عين.
نظر كلويس إلى الطريق الذي غابت فيه الفتى، ثم استدار.
تحت سماءٍ بدأت تُظلم، لمح شاهديْ قبرين.
انفلتت منه ضحكة خافتة.
كلما زار هذا المكان، كان كلويس يحرص على تنظيف محيط شاهديْ قبر زوجته وابنته بعناية فائقة.
كانت هذه المهمة أهم شيء بالنسبة إليه.
لكن هذه المرة، نسيَ هذا الأمر تمامًا حتى غادرت إيفي.
تحت السماء التي أخذت تُعتم، بدأ يحرك يديه بسرعة.
شعر بالأسف، لكنه لم يندم على الوقت الذي قضاه مع إيفي منذ قليل.
بعد أن أنهى تنظيف المكان، عاد مسرعًا إلى مكتبه وأمر خادمه:
“استدعِ عميدة أكاديمية المواهب، سيرافينا.”
لقد قالت إيفي إنها ستزوره في مكتبه.
لذا، يجب أن يستعد على عجل.
* * *
مرت أيامٌ قليلة.
أصبحت إيفي الآن تمسك بيد آيرين بطبيعية ويتجهان معًا إلى قاعة الطعام.
لم تعد تتجنب الناس بالذهاب مبكرًا أو متأخرًا.
والسبب…
“آه، مرحبًا، آنسة آيرين!”
ما إن دخلا القاعة حتى اقتربت فتاة، كأنها كانت تنتظر، وسلَّمت عليهما
“أنا من عائلة لوتيبي…”
“أعرف. ماري لوتيبي، أليس كذلك؟ أعتقد أننا تبادلنا التحية من قبل.”
“نعم! بالضبط، لقد تذكرتِني!”
بدت ماري سعيدة للغاية، فتبادلت مع آيرين حديثًا قصيرًا ثم انصرفت.
كانت إيفي تراقب المشهد من الجانب :
“الآن، بدأ الطلاب يحيونها مجددًا؟”
عندما تخلَّت آيرين عن أبناء العائلات النبيلة في البداية، أصبحت منبوذة تمامًا.
سواء في قاعة الطعام أو في الصف، كان الطلاب النبلاء يتجاهلونها وكأنها غير موجودة.
شعرت إيفي بالغضب حيال ذلك.
كانت آيرين دائمًا محاطة بالكثير من الناس.
فكيف يمكن للجميع أن يديروا ظهورهم لها بهذه السرعة؟ كم كان ذلك مؤلمًا لها؟
“ماذا لو ندمت على مساعدتي؟”
لكن، وبخلاف مخاوف إيفي، بدت آيرين هادئة ومطمئنة.
بعد أيام من الإهمال المستمر، بدأ الناس يغيرون سلوكهم تدريجيًا.
في البداية، حدث ذلك في ممر المهجع.
بينما كانت إيفي وآيرين تسيران معًا، مرَّت فتاة من الجهة المقابلة.
توقع إيفي أن تتجاهلهما كالعادة، لكنها، بعد أن تأكدت من خلو المكان، تمنت لهما يومًا سعيدًا وانصرفت بسرعة.
ثم، خلال الدروس، بدأ بعض الطلاب يحيونهما بحجة أنهم يجلسون بجوارهما.
ومع مرور الوقت، أصبح هناك من ينتظر قدومهما ليبادر بالتحية، كما فعلت ماري.
لم تبعد آيرين هؤلاء، وإن لم ترحب بهم بحرارة مفرطة.
لذلك، كان الطلاب يحيونها باعتدال ثم ينصرفون.
“بل إن هناك من بدأ يحييني أنا أيضًا.”
تذكرت إيفي يومًا ذهبت فيه بمفردها إلى درس إلزامي.
جلست عمدًا في زاوية المقاعد الأمامية حتى لا تزعج الآخرين، لكن طالبة اقتربت منها بعد أن تفقدت المكان.
قالت بسرعة:
“أنا ميرا هانييل. تشرفت بمعرفتك!”
ثم، وهي تتفحص المكان حولها:
“أنا أدعمك! قد يضايقك الآخرون كثيرًا، لكن تحملي حتى النهاية!”
ثم تمنت لها التوفيق كزميلة من عامة الناس وعادن إلى مقعدها بسرعة.
لم تتحدث إليها بعد ذلك، لكنها كانت تبتسم لها بلطف كلما تقاطعت أنظارهما.
في هذه الأثناء، عادت آيرين حاملةً الطعام لهما.
جلست إيفي في مكان مشمس وتسلمت طبقها من آيرين.
جلست آيرين بجواره كعادتها، وتمتمت بابتسامة راضية:
“حسنًا، كل شيء يسير حسب الخطة.”
“ماذا؟ حسب الخطة؟”
“أن يعود الطلاب للاقتراب منا. الأمور تسير كما توقعت.”
اتسعت عينا إيفي دهشةً.
“ماذا؟ كنتِ تعلمين أن هذا سيحدث؟”
طوال الأيام الماضية، كأن إيفي تفلق من أن تشعر آيرين بالوحدة لعدم تحدثها مع أحد.
لكن، على عكس قلقها، بدت آيرين بخير.
بل إنها كانت تتحدث بحيوية مع أرسيل ولوسكا خلال حصة الرياضيات.
وبعد الدروس، كانت دائمًا تأخذ إيفي معهما إلى قاعة الطعام.
لم تتحدث مع الآخرين، فلماذا بدأوا فجأة يقتربون منها؟
“بالطبع!”
قالت آيرين وهي ترفع كتفيها بثقة.
“بفضل أرسيل ولوسكا. لا يعجبني الأمر، لكن تعمدتُ تناول الطعام معهما ليحقق ذلك نتيجة.”
ثم شرحت له بهدوء.
منذ البداية، اقترحت تناول الطعام معهما لتُظهر للناس أنها على وفاق معهما.
“وأيضًا، ربما أثرت بعض الشائعات.”
“أي شائعات؟”
“همم، شائعة تقول إنني قد أتزوج أحدهما يومًا ما؟”
“تتزوجين؟”
“هشش!”
نظرت آيرين حولها بحذر ثم همست:
“قصة مملة. يقال إن أحدهما قد يُصبح ابنًا بالتبني للإمبراطور، وأنني سأتزوج الأمير لأدعم شرعيته بثروة الجنوب… شيء من هذا القبيل. لن تفهميها، حسنا؟”
تنهدت آيرين وهي ترى عيني إيفي تدوران كأنما في دوامة.
“حسنًا…”
ردت إيفي بصوت خافت.
“الذكاء لا يعني فهم هذه الأمور… باختصار، بما أنهما شخصيتان مهمتان، فإن الناس لا يجرؤون على الإساءة إلينا لأننا قريبون منهما، وربما سنصبح أقرب في المستقبل.”
أومأت إيفي برأسها.
“مثلما لا يجرؤ أحد على مضايقة أصدقاء الأقوياء!”
لهذا كان أطفال الملجأ دائمًا يلتصقون بالطفل الأقوى، حتى لا يتعرضوا للمضايقات.
بينما كانت إيبي تخاول فهم الموقف، أخذت آيرين قطعة فاكهة بالشوكة ووضعتها في فمها، وتمتمت:
“لكن لا أعرف لماذا ساعداني.”
كانت آيرين تعرف بعض الأشياء عنهما.
أرسيل بارد وصلب. لوسكا ودود نسبيًا، لكنه، مثل أرسيل، يرفض بلا رحمة من يقتربون منه طمعًا في نفوذ عائلته.
كلاهما عاشا في عالمٍ كهذا، فلا بد أنهما أدركا أنها تستغلهما لمصلحتها.
لكن، بشكل مفاجئ، ساعداها بسهولة، بل بحماس.
“لم يساعداني أنا بالضرورة. بل…”
نظرت آيرين إلى إيفي وهي تمضغ الفاكهة التي أعطتها إياها.
“من الواضح أنهما ساعدا إيفي.”
كان لوسكا منطقيًا إلى حدٍ ما. عائلة راغسلب معروفة بعدالتها ورفضها للتنمر.
“لكن لماذا يستمر أرسيل كايلن في مرافقتنا؟”
صحيح أنه صديق لوسكا، لكن لا داعي لاستمراره معهما بهذا الشكل.
“سمعتُ أنه شديد البرودة، يحسب كل شيء بعناية ويهتم بالكفاءة. فما الذي يكسبه من قضاء الوقت معنا؟”
بينما كانت آيرين تفكر، وضعت قطعة فاكهة أخرى في فم إيفي.
قررت أن تركز الآن على تسمين الفتاة النحيلة امامها.
“إيفي، ما الذي وجدته ألذ؟ هيا، لنأخذ طبقًا آخر!”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 54"