39
خلال الأيام القليلة الماضية، تدفق الناس حول آرسيل ولوسكا، يسألونهما بلا كلل عن المواد الدراسية التي يختارانها.
كانوا يائسين لمجرد مشاركتهما ولو مادة واحدة، محمَّلين برغبة جارفة للتقرب منهما والتودد إليهما بأي وسيلة.
لكن، على نحو غريب، الشخص الذي ظنّ الجميع أنه سيكون الأكثر حرصًا على اغتنام هذه الفرصة يتفاجأ ويتراجع مذهولًا، كما لو أن الفكرة بحد ذاتها غير معقولة.
بينما كان الجميع يتزاحمون للتقرب من آرسيل ولوسكا، كانت هاته الفتاة تنكمش مذعورة، وهو تصرف لم يرق لآرسيل، وإن بدا له، لسبب ما، مثيرًا للاهتمام.
“سيكون رائعًا لو درسنا معًا! آرسيل، ستشاركنا، أليس كذلك؟ ستشاركنا، صحيح؟ هذا قرار نهائي؟ لا خيانة، اتفقنا؟”
صوت لوسكا المُلِحّ، المُزعج أحيانًا، كان يلحّ على آرسيل بنبرة مليئة بالحماس. ردّ آرسيل بنبرة جافة:
“حسنًا، اتفقنا.”
لم يكن الأمر سيئًا بالنسبة له. كان فضوليًا، على أي حال، لمعرفة مستوى المعرفة لدى تلك الفتاة قد حققت درجات متميزة بعد آرسيل مباشرة.
“إذا تحققت من مستواهم…”
فإن إقناع الأستاذ بتغيير المادة لن يكون صعبًا.
لم يكن ذلك يشكل عائقًا كبيرًا بالنسبة لآرسيل.
حتى لو رفضت العميدة سيرافينا، فإن اختلاق سبب مقنع لها لن يكون بالأمر المستحيل.
في تلك اللحظة، لاحظ لوسكا كتابًا وضعته إيفي على الطاولة، فتناوله بفضول:
“رياضيات متقدمة؟ هل أنهيت دراسته بالفعل؟”
“أوه، هذا…”
كان الكتاب الذي أعاره الأستاذ ماليس لإيفي. لم يكن ملكها، فاندفعت مذعورة، تحاول استعادته، لكنها لم تجرؤ على المطالبة به مباشرة.
أمسكت بالكتاب بينما كان لا يزال في يد لوسكا، الذي ابتسم بمكر وشدّ الكتاب نحو نفسه بقوة، كما اعتاد أن يفعل مع آرسيل في مزاحهما الذي يشبه صراع القوى.
لكن المشكلة كانت أن الطرف الآخر هذه المرة لم يكن آرسيل، بل إيفي.
ما إن شدّ لوسكا الكتاب حتى فقدت إيفي توازنها وسقطت إلى الأمام بسهولة مخيفة.
“آه!”
توقف لوسكا مصدومًا، لكن الوقت كان قد فات. كادت إيفي أن تصطدم بالأرض، لولا صوت آرسيل الهادئ واللامبالي:
“كنت أعلم أن هذا سيحدث.”
في لحظة، ارتفعت إيفي في الهواء. كان آرسيل قد أمسك بخصرها ورفعها بسهولة، ثم ساعدها على الوقوف مجددًا وسألها:
“هل أنتِ بخير؟”
سحبت إيفي ذراعها بسرعة، منحنية مرارًا وتكرارًا في ارتباك:
“أنا، أنا بخير!”
لكن آرسيل عبس ونظر إلى لوسكا:
“اعتذر، لوسكا. لقد كادت إيفي أن تتأذى.”
“لا، لا بأس! سأكون أكثر حذرًا في المرة القادمة!”
هزّت إيفي رأسها بيأس، وهي تشعر بالعرق البارد يتصبب على ظهرها.
اعتذار؟ لوسكا هو ابن عائلة ماركيز راجسلب! رغم أنها لا تعرف الكثير عن النبلاء، إلا أنها تعلم أن لقب الماركيز يعني مكانة عالية جدًا.
“رئيس بلديتنا كان مجرد بارونيت…”
حتى لو لم يحمل لوسكا لقبًا بعد، فإن عائلته تملك نفوذًا لا يمكنها حتى تخيله.
من المؤكد أنه سيحصل على لقب نبيل في المستقبل، سواء من عائلته أو بجدارته الشخصية. شخص مثله لن يعتذر لها أبدًا…
لكن، على عكس توقعاتها، انحنى لوسكا قليلًا وقال بنبرة طبيعية:
“آسف، إيفب. لقد كنت أفكر في مزاحي مع آرسيل ولم أتحكم بقوتي جيدًا. سأحترس في المرة القادمة.”
شعرت إيفي وكأنها على وشك الإغماء. ماذا تفعل؟ هل يجب أن تركع وتتوسل إليه ألا يقول ذلك؟
في الأكاديمية، يُفترض أن يُعامل الجميع كطلاب متساوين بغض النظر عن أصلهم، لكن هذا مجرد كلام نظري.
في الواقع، من المستحيل تجاهل الفوارق الطبقية خارج جدران الأكاديمية.
لأسباب لا تفهمها، كان آرسيل ولوسكا لطيفين معها. لم يكن ذلك مزعجًا، لكنها لم تكن تعرف كيف تستجيب لهذا اللطف.
في تلك الأثناء، كان هناك من يراقب الثلاثة من بعيد.
“أليس تلك الفتاة العامية؟ وإلى جانبها السيد آرسيل والسيد لوسكا!”
صاح أحد الطلاب متفاجئًا، ثم أدرك أن صوته كان مرتفعًا جدًا فأغلق فمه.
لكنه لم يستطع أن يرفع عينيه عنهم. لم يكن وحده؛ كل من حوله كانوا يحدقون بالثلاثة دون أن يستطيعوا تحويل أنظارهم.
“لماذا يقضون الوقت مع تلك الفتاة؟”
“بالضبط! ألم ينتهِ الأمر بعد أن راقباها ليومين خلال حادثة الاختفاء تلك؟”
“حسنًا، السيد لوسكا يتحدث كثيرًا مع الطلاب الآخرين، لكن لماذا حتى السيد آرسيل…”
كان آرسيل يقتصر على رد التحية باختصار عندما يُحييه أحد، دون أن يخوض في أي حديث أكثر من ذلك.
لكنه الآن كان يتحدث مع إيفي، بل ويبادرها بالحديث بنفسه.
اشتعلت أعين الطلاب بالغيرة. لم يعجبهم الأمر. لا، لقد شعروا بالغضب يعتصر قلوبهم.
هؤلاء الذين يطاردونهم طوال اليوم لمجرد سماع كلمة منهم، يرون الآن فتاة عادية تتمتع بهذا الاهتمام بكل بساطة!
“هذا لا يُعقل!”
لكنهم لم يستطيعوا مواجهتهم. ماذا يمكن أن يقولوا؟ حتى لو كانوا غاضبين، فإن التدخل سيجلب لهم فقط نظرات آرسيل الباردة.
“ألا يمكننا التخلص من تلك الفتاة بطريقة ما؟”
بدأوا يفكرون، حتى اقترح أحدهم فكرة بحذر:
“إذا علمت الآنسة إيرين بهذا… ألن تغضب كثيرًا؟”
كانت إيرين، التي تُشاع أنها مرشحة لتكون الأميرة القادمة، شخصية لا يمكن أن ترضى برؤية فتاة من عامة الشعب تتقرب من شخصين يُحتمل أن يكونا أمراء في المستقبل.
ألم تكن إيرين نفسها موجودة مع آرسيل ولوسكا عندما كانا بجانب إيفي في السابق؟ كان ذلك بمثابة تحذير صامت لإيفي بألا تتجاوز حدودها.
والأكثر من ذلك، أليس إيرين زميلة إيفي في السكن؟ هذا يعني أن لديها العديد من الفرص لمعاقبتها بعيدًا عن أعين موظفي الأكاديمية.
“والأفضل أن الآنسة إيرين ستتولى الأمر بنفسها دون أن نلوث أيدينا!”
لم يكن هناك ما يخسرونه.
“لنذهب ونخبرها فورًا!”
“نعم، قد لا نستطيع قول شيء، لكن الآنسة إيرين بالتأكيد ستفعل!”
هرع الطلاب للبحث عن إيرين، ولم يمض وقت طويل حتى وجدوها في الكافيتريا، محاطة بمجموعة من الطالبات.
رغم أنها ترتدي الزي المدرسي نفسه، كان جمال إيرين استثنائيًا، مضفيةً عليه أناقة وسلوكًا راقيًا.
حتى قلة كلامها ومظهرها المتحفظ بدا مثاليًا لما يتوقعه الجميع من سيدة نبيلة.
“الآنسة إيرين!”
عندما نادوها، عبست إيرين قليلًا. لاحظ أحد الطلاب أنها ليست في مزاج جيد، فسارع للحديث:
“أمر، أمر… إييي آلدن… كانت مع السيد آرسيل والسيد لوسكا!”
تدخل طالب آخر لدعمه:
“في المرة السابقة، عندما ساعداهما في العثور عليها، وقضيا يومين يراقبانها، يبدو أنها استغلت ذلك للتقرب منهما! كانت تتحدث وتضحك معهما قبل قليل!”
“ماذا قلت؟”
لم تكد الكلمات تنتهي حتى رفعت إيرين صوتها، وضعت فنجان الشاي الذي كانت تمسكه، وأمرت بنظرة حادة:
“كرر ما قلت، بالتفصيل.”
كانت دائمًا هادئة ومترفعة، فهذا الغضب المفاجئ جعل الطلاب يشعرون بالحماس.
“هي غاضبة بالتأكيد!”
بدأوا يروون ما شاهدوه، مضيفين بعض المبالغات:
“كلما تحدث إليها السيد لوسكا، كانت تبتسم بسعادة…”
“كانت تلتصق بالسيد آرسيل وتتظاهر بالود، حقًا…”
مع كل كلمة، كانت ملامح إيرين تتصلب أكثر.
“ليس هذا فقط! تظاهرت بالسقوط لتلقي بنفسها في أحضان السيد آرسيل! من أين تعلمت فتاة صغيرة مثلها هذه الحيل؟”
استمر الطالب في الحديث، مختلقًا أحداثًا لم تحدث، وهو يزداد غضبًا مصطنعًا. لاحظ أن وجه إيرين يزداد برودة، فاستمر بجرأة أكبر:
“كلاهما أمسكا بيدها وسألاها إن كانت بخير، ومن الواضح أنها فعلت ذلك عمدًا…”
“إذن، ازلئك الاثنان كانا يتحدثان مع إيفي، وأمسكا بيدها ولعبا معها، هكذا؟”
قاطعتهما إيرين بنبرة باردة كرياح الشتاء، فأغلق الطالب فمه.
“ها، كما توقعت. كنت أشك منذ المرة السابقة. إذن هي تحاول التقرب منهما بهذه الطريقة.”
كانت نبرة إيرين مليئة بالامتعاض، ولم يشك أحد في أنها ستبحث عن طريقة لطرد إيبي من الأكاديمية.
اعتقد الطلاب أن خطتهم نجحت، لكنهم لم ينتبهوا إلى شيء: إيرين نادت إيفي باسمها، بينما أشارت إلى آرسيل ولوسكا، اللذين يعشقهما الجميع، بكلمة “اولئك”، وكأنها تضعهما في مرتبة أدنى.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 39"