172—
رأت مديرة الملجأ عينين كهاتين مراتٍ قليلة من قبل.
عيون أطفالٍ تعلموا الاستسلام مبكرًا جدًا.
أطفالٌ لم يعد أحدٌ من حولهم يصغي لبكائهم أو ضحكاتهم، فصمتوا وكفّوا عن الكلام.
كانت هذه العيون تُشبه عيونهم.
بينما كانت مديرة الملجأ تقف حائرة ، تنظر إلى الطفلة بعجزٍ عن اتخاذ قرار، اقتربت زوجة صاحب النزل، وأمسكت بذراعها تسحبها بعيدًا.
“اسمعي، هل تعلمين كم بلغت قيمة الرهان الليلة؟ ذلك الرجل هناك، في سكره، لم يعد في وعيه، فراهن بمبلغٍ ضخم! إذا كنت تنوين تعكير هذه اللعبة، فابحثي عن مكانٍ آخر، هيا!”
سحبت زوجة النزل ذراعه بقوة، ثم أضافت بنظرة ماكرة تخفي توقعًا:
“إن كنتيَ تشفقين عليها، فادفعي ثمنها وخذيها معك!”
نظرت إلى الطفلة التي كانت لا تزال راكعة، ترتجف.
في السابق، كانت تتوسل، لكنها في النهاية كانت تقوم وتتجه إلى الغابة. لكن، بشكلٍ غريب، بدت اليوم أكثر تمردًا من أي وقتٍ مضى.
“لم يحدث هذا من قبل. لم تكن تتحدث بهذا الإصرار أبدًا”، فكرت الزوجة.
كانت كلمة “الطرد” كافية لتدفع الطفلة إلى الغابة، مرتعدة من الخوف.
لكن هذا الأمر أثار قلق الزوجة.
“بالتأكيد، بدت أكثر نحولًا مؤخرًا.”
في الوقت الذي تنمو فيه أجساد الأطفال الآخرين بسرعة، كانت هذه الطفلة تذوي وتضعف.
حتى قوتها بدت تتلاشى. أمس، أثناء تنظيف أرضية النزل، كانت تسعل وتتوقف عن العمل مراتٍ عديدة.
في المعتاد، كان تهديدها بالطرد يدفعها لاستئناف العمل بحماس، لكن أمس، ظلت جالسة متكورة على نفسها، صامتة.
“هل ستموت حقًا هذه المرة؟”
لم تكن تلك الطفلة ممن يتفوهون بالكلام عبثًا، على عكس ما يُتوقع من طفلة.
لكن، إذا تحقق ما قالته، وأكلتها الذئاب اليوم فعلًا…
فإن أعمال النزل اليومية ستتأثر، ناهيك عن الرهان الضخم الذي يشغل بالها الليلة.
لكن، إن دفعت هاته المراة ثمن الطفلة وأخذتها معه…
“سيكون ذلك في صالح الجميع.”
كانت الطفلة تضعف يومًا بعد يوم، ولم تعد قادرة على العمل كما ينبغي.
صراحةً، حتى لو ألقوها في الغابة خلف النزل، لن يخسروا شيئًا. لكن، إن استطاعوا بيعها بمبلغٍ يوازي الرهان الضخم، فما أروع ذلك!
“وعلاوة على ذلك، يبدو أن الإقطاعي بدأ يهتم بالأمر.”
رغم مرور وقتٍ طويل على إصدار القانون الخاص بأيتام الحرب، كان الإقطاعي المحلي يتعامل معه بتكاسل.
في السابق، كان كأس من الخمر وطبق من المقبلات كافيين لإقناع المفتش بالتغاضي عن تسجيل الطفلة في السجلات.
لكن، مع سعي الإقطاعي للحصول على منصب في القصر الإمبراطوري، بدأ يرتب أوراق إقطاعيته بعناية.
عاجلًا أم آجلًا، سيكتشف أمر هذه الطفلة.
فإن استطاعوا بيعها بعيدًا قبل ذلك، ألن يكون ذلك أريح؟
وعلاوة على ذلك، لم يرفع هذا الزبون عينيه عن الطفلة منذ رآها.
“كان هناك دائمًا أشخاص سذج مثلها”، فكرت الزوجة.
كان هناك زبائن يبدون ضعفًا خاصًا تجاه الأطفال.
في كل مرة، كان الزوجان يلمحان إلى إمكانية دفع مبلغٍ وأخذ الطفلة، لكن لم ينجح الأمر قط.
كان المبلغ الذي يطلبانه باهظًا جدًا.
“يبدو أنها لا تملك المال أيضًا…”، فكرت الزوجة.
لكن، في تلك اللحظة، قالت مديرة الملجأ:
“كم تريدون؟”
شعرت الزوجة بالنصر يتسلل إلى قلبها.
يبدو أنها اصطادت اليوم فريسةً سهلة.
“همم، لقد ربيناها منذ أن كانت صغيرة جدًا. ولم تبدأ العمل إلا منذ وقتٍ قصير…”
كذبة صريحة.
لقد أجبروها على العمل بمجرد أن بدأت تتكلم وتميز الأمور.
“أظن أن عشرة آلاف ستكفي.”
ارتجي مديره الملجأ لسماع المبلغ.
كان هذا بالضبط المبلغ الذي استردته اليوم.
إن لم تشترِ الطفلة وعادت بهذا المال، سيكفي لإطعام أطفال الملجأ بسهولة لشهرين أو ثلاثة.
حتى بدون هذا المال، لن يتضوروا جوعًا، لكنهم بدأوا أخيرًا يتناولون طعامًا أفضل، ومع شتاءٍ قد يطول هذا العام، كانت ترغب في ادخار المزيد من الطعام.
لكنها ستضطر إلى التضحية بكل ذلك…
تذكر تنهيدات معلمي الملجأ: “لا يمكننا إنقاذ كل طفل في العالم.”
لم يكونوا مخطئين.
لكن…
لكن…
في تلك اللحظة، تقاطعت عيناه مع عيني الطفلة الراكعة.
لم تتوسل إليه لإنقاذها، بل كانت تحدق به بنظرةٍ خاوية، طفلةٌ إن تُركت هكذا، ستضطر الليلة للسير وحيدة إلى الغابة.
في لحظة رؤيته لتلك العينين، انحنت مديرة الملجأ على الفور، ورفعت الطفلة بين ذراعيها.
طفلةٌ في الخامسة، لكنها كانت أخف من دميةٍ مصنوعة من القش.
“خذوا هذا!”
ألقت بكيس النقود من صدرها إلى الزوجين، ثم غادروا النزل على الفور.
بينما كانت تبحث عن نزلٍ آخر في الجوار، همست بحنان للطفلة التي كانت ترتجف في حضنها:
“تعالي معي. كل شيء سيكون على ما يرام الآن.”
لم تجب الطفلة.
لكنها مدّت ذراعيها الصغيرتين، وتشبثت بعنقها.
* * *
“…ثم بعد رحلةٍ طويلة، أحضرتها إلى ملجأ مدينة إلرام. في البداية، كانت تخاف من الناس، لكنها سرعان ما بدأت تختلط بأقرانها وتبتسم.”
كانت طفلةً ذكية بشكلٍ مذهل.
لا تنسى شيئًا تراه مرةً واحدة، وإذا عُلّمت شيئًا واحدًا، أتقنت عشرة.
لم يُعلمها أحد القراءة، لكن بعد قراءة كتب القصص لها عدة مرات، بدأت تتعرف على الحروف بنفسها، ثم تعلمت الحساب.
كانت ترغب في إرسالها إلى المدرسة، لكن الظروف لم تسمح.
في مدرسة إلرام، أشادوا بذكائها، لكن الوضع بعد الحرب لم يكن ميسورًا، فاستبدلوا رسوم الدراسة بأعمال التنظيف.
وذات يوم، جاءت الطفلة تركض إليها، ممسكة بشيء في يدها، وقدمته لها.
“ما هذا؟”
“حلوى! حلوى بنكهة الفراولة!”
كانت تلك الحلوى المفضلة لديها، أول وجبة خفيفة تناولتها في الملجأ.
“اشتراها لنا أحدهم! فأحضرت واحدة لكِ، أيتها المديرة.”
أمسكت الطفلة بيده بقوة، وقالت:
“لأنكِ أنتِ من أنقذتني! أنتِ المفضلة لدي!”
في ذلك اليوم، لم نستطع مديرة الملجأ أن تأكل الحلوى التي قدمتها الطفلة. وضعها على مكتبها، وبكت طويلًا.
طفلةٌ مرت بكل تلك الصعاب، ومع ذلك تفكر في الآخرين قبل نفسها!
استمري مديره الملجأ في سرد القصص البسيطة عن حياة الملجأ، دون توقف.
كان الإمبراطور كلويس يصغي لكل كلمة دون أن يفوته شيء.
كانت هذه قصص ابنته، التي نشأت في مكانٍ لم يعرفه.
بالنسبة له، كانت هذه القصص أثمن من أي شيء.
“…ثم اجتازت اختبار الأكاديمية للعباقرة، فجاءت إلى هنا.”
أنهت مديرة الملجأ قصتها الطويلة، وارتشفت رشفة من الشاي.
ساد صمتٌ مفعم بالفخر والحزن بينهما للحظات.
كان كلويس يحاول استيعاب ماضي إيفي الذي تدفق عليه دفعةً واحدة، يمسح وجهه بيدٍ مرتجفة.
كانت عيونهما قد احمرت بالفعل.
بعد صمتٍ طويل، فتح كلويس فاه بصعوبة:
“أنا…”
تردد، ثم تابع:
“كنت أنوي إنهاء حياتي.”
تفاجأت مديرة الملجأ، ونظرت إليه مصدومة.
كلويس، الشاب الوسيم، الذي يُعد من أعظم الأباطرة في التاريخ بفضل قدراته.
في عهده، نهضت الإمبراطورية من جراح الحرب، واستعادت مكانتها كأقوى قوة في القارة.
وها هو الرجل الذي قاد كل هذا يعترف أنه أراد التخلي عن الحياة.
“منذ أن أصبحت إمبراطورًا، لم يمر يومٌ دون أن أفكر في ذلك.”
مع استقرار الإمبراطورية، لم يفارق هذا الفكر ذهنه.
لم يعد لديه سببٌ للعيش
.
من أحبهم، ومن كان يجب أن يحبهم، غادروه منذ زمن.
كل ما تبقى هو اختيار خليفة، ثم سيتولى الوزراء الذين دعموا الإمبراطورية معه الأمر.
لكنه لم يستطع تنفيذ فكرته.
لم يكن لديه سببٌ للعيش، لكن كان لديه سببٌ لعدم التخلي.
في كل مرةٍ زار فيها قبر زوجته وابنته، تذكر تعاليم الكهنة:
“من ينهي حياته بنفسه، يهوي إلى أسفل عوالم الأموات.”
لم يكن كلويس يؤمن به، لكنه تمنى وجود عالمٍ بعد الموت.
لأنه، إن وُجد، سيتمكن من لقاء زوجته وابنته مجددًا.
“لكن… إن أنهيت حياتي بنفسي، شعرت أنني لن أراهما أبدًا. شعرت أن ابنتي ستناديني، لكنني لن أسمع صوتها.”
اختنق صوته، ولم يستطع مواصلة الكلام.
ماذا لو اتخذ القرار الخاطئ آنذاك؟
كانت إيفي قد قالت له ذات مرة إن السبب الحقيقي لقدومها إلى العاصمة هو البحث عن والديها.
لو أنه تخلى عن كل شيء قبل وصول إيفي…
مجرد التفكير في ذلك جعله يشعر وكأن الأرض تنهار تحته.
ابنته تبحث عنه في عالمٍ لم يعد فيه موجودًا؟
لم يخفِ كلويس عينيه الحمراوين، وانحنى لمديرة الملجأ:
“شكرًا، شكرًا من أعماق قلبي. لولاكِ، لما كانت إيفي موجودة اليوم.”
“لا، يا جلالة الإمبراطور. إيفي انتم من أنقذتموها.”
هزت مديرة الملجأ رأسها، رافضة المديح.
“ليس هذا تواضعًا. تلك الليلة التي قابلت فيها إيفي، المال الذي دفعته لفدائها… كان مالًا سُرق منا من قبل تاجرٍ في منطقةٍ أخرى. مهما قدمت شكاوى، كان استعادته أمرًا ميؤوسًا. لكن، عندما عرف إقطاعي تلك المنطقة أن المال يخص الملجأ، عالج القضية بسرعة غير مسبوقة. شكرته مرارًا، “
تذكرت مديرة الملجأ كلمات الإقطاعي:
“كنت محظوظة لقد أصدر جلالة الإمبرا
طور مرسومًا يأمر بأولوية قضايا الملاجئ. لولا ذلك، لاستغرق الأمر وقتًا طويلًا.”
لو لم يكن أمر كلويس موجودًا، لما استردت ذلك المال.
وبالتالي، لما استطاعت إنقاذ إيفي من النزل.
نهضت مديرة الملجأ من مقعدها، وانحنت لكلويس:
“من كل قلبي، أشكر جلالتكم على نعمتكم التي أغدقتموها على الأطفال. بفضلكم، قضى الأطفال الشتاء دون جوع، ربما بنقصٍ بسيط، لكنهم ارتدوا ملابس مناسبة للمواسم، وأصبحوا الآن قادرين على السعي وراء أحلامهم.”
انحنت أعمق، وقالت:
“شكرًا لإنقاذكم إيفي، وكثيرين غيرها من الأطفال، يا جلالة الإمبراطور.”
ابتلعت دموعها.
كانوا يقولون إن آثار الحرب ستستمر لعقود. كم من الأطفال كان عليهم أن ينشأوا في تلك الظروف القاسية؟
لكن، بفضل جهود الإمبراطور المحمومة لإعادة البناء وإعطاء الأولوية للمحتاجين، استعادت الإمبراطورية استقرارها بسرعة.
مع وفرة الطعام وبناء بيوتٍ دافئة، تلاشت الأجواء القاسية، وبدأ الناس يتقاسمون ما لديهم.
كانت هناك لحظاتٌ صعبة، لكن وجود أشخاصٍ يقدمون المساعدة جعل الصمود ممكنًا.
لو كان إمبراطورٌ آخر في الحكم… لما حصلوا على هذا الدعم أبدًا.
بينما كان الاثنان يتبادلان الامتنان، فُتح الباب.
مع وهج الضوء، دخلت إيفي الغرفة.
“المعلمة المديرة!”
كانت تبكي حتى قبل أن تدخل، ثم ركضت نحو مديرة الملجأ، فتحت ذراعيها، وتشبثت بها.
“معلمتي! معلمتي! اشتقتُ إليكِ… هئ!”
“إيفي العزيزة، هل كنتِ بخير؟”
احتضنتها المديرة، وهي تبكي، وفركت وجهها بخد الطفلة الغارق في الدموع.
رؤية إيفي تبكي للمرة الأولى جعلت المديرة تشعر بفخرٍ لا حدود له.
لقد أصبحت هذه الطفلة قادرة على البكاء الآن، لأن هناك من يصغي إلى حزنها ويتفهمه دائمًا.
بينما كان كلويس يراقب المشهد، خطرت له فكرة، فسأل المديرة:
“بالمناسبة، يبدو أنها لم يكن لها اسمٌ في النزل. لماذا سُميت إيفي؟”
كان من المدهش أن تُسمى إيفي، وهو اسمٌ يشبه لقب إيفبيان، اسمها الأصلي، رغم أن ذلك بدا مصادفة.
“آه، هذا…”
تذكرت المديرة تلك اللحظة، وابتسمت بعينين مغرورقتين:
“قضينا يومًا كاملًا مع المعلمين الآخرين نناقش اسمها، لكننا لم نصل إلى قرار. في اليوم التالي، وجدنا على أوراق المكتب اسم ‘إيفي” مكتوبًا بخطٍ واضح وقوي، كأن الاسم كان معدًا لها مسبقًا.”
وهكذا، حصلت الطفلة الجديدة على اسم إيفي.
“كنت قد تركت النافذة مفتوحة، وكانت أوراق الشجر تتساقط بجانبها. رغم الرياح القوية، بقيت الورقة في مكانها.”
سألوا جميع من في الملجأ، لكن أحدًا لم يعترف بكتابة الاسم.
فمن إذن كتب ذلك الاسم وغادر؟
“كان ذلك أمرًا عجيبًا حقًا.”
عند كلمات المديرة، نظر كلويس إلى النافذة.
كانت أوراق الشجر تصطدم ببعضها مع هبوب الريح، مصدرة أصواتًا.
ولسببٍ ما، بدا وكأن ضحكاتٍ مشرقة تتسلل بين تلك الأصوات.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 172"