171
تذكّرت مديرة الدار تلك اللحظة الأولى التي التقت فيها بإيفي.
* * *
كان شتاءً قارسًا تعصف فيه عاصفة ثلجية عاتية. عندما أخبرها الناس أنها ستعبر الجبل، حذروها قائلين إن الجبل مليء بالذئاب، وعليها ألا تعبره إلا بصحبة مجموعة حتى في وضح النهار.
ربما لهذا السبب، كان هناك في قرية بداية الجبل نزلٌ يتجمع فيه المسافرون الذين ينوون عبور الجبل.
“سأذهب مع مجموعة من هنا”، فكرت مطمئنة وهي تقترب من النزل. لكن، قبل أن تدخل، سمعت صوتًا عاليًا من الداخل:
“ألم تذهبي بعد؟!”
صاحب الصوت كان يرمي شيئًا، تبعه ضحكات خفيفة مستهترة.
“يبدو أنني اخترت النزل الخطأ”، تنهدت المديرة دون وعي.
الجو بداخله مضطرب قبل حتى أن تدخل. ربما كان من الأفضل البحث عن نزل آخر لقضاء ليلة هادئة. حاولت الاستدارة، لكنها لم تجد حولها أي نزل آخر مضاء.
هبت رياح أقوى، كأنها تمسك بأقدامها التي كادت تغادر.
“آه…”، ابتلعت تنهيدة أخرى.
“لا مفر.”
في هذا البرد القارس، لم يكن لديها الوقت ولا الطاقة للبحث عن مكان آخر. كانت جيوبها مملوءة بالمال الذي استردته للتو، وهذا جعلها تشعر بعدم الأمان أكثر إذا ظلت تتجول.
لذا، حتى لو كان المكان صاخبًا، كان من الأفضل أن تدخل، تتدفأ، وتنتظر الصباح. هكذا ستتمكن من لقاء أطفال دار الإيواء بشكل أسرع.
“أتمنى أن يكونوا بخير”، فكرت.
تركتهم مع المعلمين الآخرين، فلن تكون هناك مشكلة كبيرة، لكنها كانت قلقة على الأطفال الذين يبكون طوال اليوم إذا غابت عنهم.
“حسنًا، سأتحمل لليلة واحدة فقط.”
دفعت الباب وهي تفكر بذلك. كما توقعت، كان النزل في حالة فوضى. على الرغم من أن الوقت لم يكن متأخرًا، كان المكان مكتظًا بالسكارى، كأن أهل القرية تجمعوا هنا لإقامة مأدبة.
لاحظ صاحب النزل قدومها، فقام واقترب منها.
“أهلاً، مرحبًا بالضيفة! هل ستبيتين هنا؟”
“نعم، لليلة واحدة فقط. سأعبر الغابة عند الفجر، وأبحث عن رفقة للذهاب معهم.”
“لقد أتيتِ إلى المكان الصحيح! نصف الحاضرين هنا سيذهبون عبر الجبل غدًا صباحًا، يمكنكِ الانضمام إليهم. لكن، فلتتناولي العشاء أولاً.”
“أريد شيئًا خفيفًا، خبزًا وزبدة فقط. أنا متعبة وأود الراحة مبكرًا، فهل يمكنني رؤية الغرفة الآن؟”
عندما أدرك أنها لن تطلب طعامًا أو شرابًا يدرّان المال، تغيرت ملامحه قليلاً.
“حسنًا، كما تريدين.”
بلهجة أكثر فظاظة، كاد يرافقها إلى الغرفة عندما صرخ أحدهم:
“يا! تلك الفتاة لا تزال هنا، ماذا نفعل؟”
استدار صاحب النزل نحو الزاوية.
“ماذا؟ لم تذهب بعد؟”
حينها فقط، لاحظت المديرة طفلة تقف في زاوية المطعم الصاخب. طفلة ترتدي ملابس بالية تكاد تكشف جلدها رغم الشتاء القارس.
ربما كانت في الثالثة أو الرابعة من عمرها، بشعر أشقر باهت وعينين خضراوين عميقتين. في مثل هذا العمر، يفترض أن تكون جالسة في غرفة دافئة تشاهد الثلج من النافذة، لا أن تكون هنا.
“آه…”، ابتلعت المديرة أنينها.
كانت الأحذية المهترئة، واليد المغطاة بالجروح، والملابس الملطخة بالأوساخ كافية لتدل على أن هذه الطفلة تعمل في النزل.
خلال تجوالها، رأت أطفالاً يُجبرون على العمل الشاق، لكن أن تُستغل طفلة بهذا الصغر؟ كان هذا أمرًا جديدًا. كادت المديرة أن تفتح فمها لتعترض، لكن صوت ارتطام قوي قطعها.
كانت الطفلة قد اصطدمت بالجدار.
“ألم تخرجي بعد؟ كفي عن الكسل!”
اختفت الطفلة الصغيرة خلف جسد صاحب النزل.
“ماذا تفعل؟!”
هرعت المديرة نحو الطفلة مذهولة.
“يا صغيرتي، هل أنتِ بخير؟”
حين حاولت مساعدتها على النهوض، تفاجأت المديرة بنحافة معصمها. طفلة في هذا العمر يفترض أن تكون ممتلئة، لكن هذه الذراع كانت مجرد عظام مغطاة بالجلد. هل كانوا يطعمونها أصلاً؟
“كيف تفعلون هذا بطفلة؟!”
“طفلة؟ إنها في الخامسة! في هذا العمر، يمكنها أن تعمل مثل الكبار! ألا يجب أن تكافئنا على إطعامها وتربيتها؟”
أمام وقاحة صاحب النزل، فقدت المديرة الكلام. طفلة في الخامسة، تبدو أصغر من أقرانها، ويعاملونها كسلعة يطالبون بثمنها؟
عضت المديرة شفتيها. لم يكن هذا المشهد جديدًا عليها.
بعد الحرب، امتلأت الإمبراطورية بالأيتام. بعضهم فقد والديه إلى الأبد، والبعض الآخر ضاع في الفوضى. كانت الأولوية لإصلاح أضرار الحرب، فمن كان يهتم بأطفال لا يبحث عنهم أحد؟
لذا، كان الأطفال يُباعون تحت اسم “التبني”، لكن في الحقيقة كانوا يُعاملون كعبيد.
لكن هذا تغير عندما أصدر الإمبراطور كلويس قانونًا خاصًا يقصر التبني على دور الإيواء والمؤسسات المعتمدة فقط.
كما أمر كل لورد بإنشاء دار إيواء في إقطاعيته تحت إشراف القصر. في البداية، ظن النبلاء أنها مجرد استعراض، لكن عندما عيّن الإمبراطور وزير الدولة ودوق كايلن للإشراف، أدركوا جدية الأمر.
هؤلاء كانوا أكثر الموثوقين والصارمين. أي إهمال كان يعني عقوبة قاسية.
اضطر النبلاء إلى تحويل ميزانياتهم من الفيلات والملابس الفاخرة إلى بناء دور الإيواء. بدأ عدد الأطفال في الشوارع ينخفض، وسُجلت أسماؤهم وأعمارهم وملامحهم، وأُرسلت السجلات إلى العاصمة.
هرع الآباء الذين فقدوا أطفالهم إلى العاصمة، يبحثون ليل نهار عن أسماء أبنائهم أو أي سمة مشابهة. كم من الأطفال عادوا إلى أحضان عائلاتهم بفضل ذلك؟
لكن لم تكن كل القصص سعيدة. كان هناك أطفال فقدوا والديهم في الحرب وبقوا في دور الإيواء. ومنهم من استُغلوا كعبيد قبل أن يُنقذوا. في كل مرة، كان المستغلون يصرخون:
“كم كلفنا إطعامهم وتربيتهم! ادفعوا المال أو لا تأخذوهم!”
كانوا يحددون سعرًا كما لو كانوا يبيعون سلعة. رغم غضبها، كانت المديرة ترى الأطفال على حافة الموت، فكانت تجمع المال لتنقذهم. لكن ميزانية الدار بدأت تضيق.
قال المعلمون بحذر:
“سيدتي المديرة، لا يمكننا إنقاذ كل طفل في العالم.”
“لقد ازداد عدد أطفال دارنا كثيرًا…”
لم تستطع المديرة لومهم. الميزانية محدودة، والأطفال يكبرون. أنفقت كل مدخراتها الشخصية، وإن أنفقت المزيد، سينقص نصيب الأطفال الحاليين. أدركت ذلك وقررت ألا تتدخل بعد الآن، بل تبلغ السلطات المحلية فقط.
لكن…
“آه…”
أفاقت المديرة من أفكارها على صوت أنين الطفلة.
شكرتها الطفلة بانحناءة صغيرة، ثم نهضت بمفردها. اقتربت من صاحب النزل، وانحنت مرة أخرى تتوسل:
“أنا… إذا ذهبت إلى الغابة اليوم… قد لا أعود… الذئاب… تتبعني عن قرب…”
كان صوتها يرتجف، صوت من يواجه الموت. لكن صاحب النزل صرخ غاضبًا، رافعًا قبضته مهددًا:
“لقد عدتِ سالمة كل مرة! لا تكذبي واذهبي الآن! ألم أقل لكِ أن تجلبي الماء؟”
تراجعت الطفلة مذعورة، لكنها عادت تتوسل:
“أقسم، إذا ذهبت اليوم، سأموت… أرجوك… أنقذني…”
ركعت أمامه، متوسلة. في يوم كهذا، حيث تخترق البرد القارس حتى مع المدفأة والباب المغلق، يطلبون منها الذهاب إلى غابة مليئة بالذئاب؟
لم تستطع المديرة تحمل المشهد. وقفت بين الطفلة وصاحب النزل، قلبها يعتصر على كتفيها النحيفتين المرتجفتين.
“كف عن ذلك!”
“ابتعدي، أيتها الضيفة! إنها تتظاهر بالمرض مجددًا. إذا أردتِ، ادفعي ثمنها وخذيها! لا تعرف الامتنان، وتتذمر بينما أطلب منها جلب الماء!”
تدخل أحد السكارى:
“يبدو أنكِ جديدة هنا. هذه الطفلة لا تموت في الغابة أبدًا. أرسلناها ليلاً عشرات المرات، ودائمًا تعود سالمة. راهني على أنها ستعود! ذاك التاجر الغني هناك راهن على موتها.”
تحدث السكير كأنه يكشف سرًا عظيمًا. صُدمت المديرة. لم تكن هذه المرة الأولى، بل أرسلوها عشرات المرات إلى الغابة، ويراهنون على حياتها؟
عندما تواجه الإنسان مشهدًا صادمًا، يفقد الكلام. نظرت المديرة إلى الطفلة الراقدة على الأرض تتوسل. جسدها الصغير يرتجف بشدة.
أدركت المديرة سبب شعورها بالغرابة. أي طفل في مثل هذا الموقف سيبكي، لكن هذه الطفلة لم تبكِ. كانت تتوسل فقط، بعيون خاوية تحمل اليأس، كأنها تعلم أن كلماتها لن تُسمع.
─── ・ 。゚✧: *. ꕥ .* :✧゚. ───
التعليقات لهذا الفصل " 171"