الفصل 4 :
“تلك الكلمات…”
بدت وكأنّها تعني محو المكان الذي وُلِدت فيه، ومحو عائلتها أيضًا.
وكأنّها رغبةٌ في محو كافّة الخيارات، لأجل ألا تجد طريقًا للهروب، وتبقى تحدّق فيه وحده فقط.
كنتُ أتساءل كثيرًا عن السّبب الذي يجعله متعلّقًا بإنسانٍ إلى هذا الحدّ، وهل فكّرت حتّى في رغبة الطرف الآخر، لكن فاليوس ظلّ صامتًا بشفاهٍ مغلقة.
في نهاية المطاف، لم يكن من المقبول أن يُجادل التّابعُ أوامر سيّده.
‘لكنّ السّيّدة ليست شخصًا عاديًّا أيضًا.’
بدت استجابتها باردةً جدًّا رغم أنّها رأت هيئتي الحقيقيّة، وهذا أمرٌ غير مألوف. الإنسان العاديّ كان سيصرخ أو يفرّ هاربًا وهو ينعَتُني بالوحش.
وخصوصًا تلك النّظرة التي رمقتني بها حين وعدت بإخفاء سرّي عن هاستر ما زالت تُقلقني.
‘أشعرتني بالقشعريرة قليلًا.’
لم أشعر بذلك تجاه أيِّ إنسانٍ من قبل. ربّما يُشبه ذلك شعورك حين يترصّدك وحشٌ خبيث يريد أن ينقضّ على عنقك.
وحشٌ أبله يبتسم ويقول إنّه سيكون عائلتها الوحيدة، وإنسانة لا يمكن معرفة ما يدور في داخلها…
يبدو أنّ حياة الزّوجين الشّهر العسلية لن تكون سهلة أبدًا.
***
أدركتُ حياتي السّابقة عندما كنتُ في سنٍّ صغيرة، بالكاد بدأتُ أتعلّم فيها القراءة والكتابة.
كان ذلك في الوقت الّذي بدأتُ أُبدي فيه اهتمامًا بالقصص الخرافيّة القديمة الموجودة في قصر العائلة، وفجأةً أصابني صداعٌ حادّ وحمّى شديدة، لأفقد وعيي تمامًا.
وعندما فتحتُ عينيّ، شعرت بأنَّ وعي شخصين قد اندمجا معًا.
إن كان عليَّ أن أُحدّد، فالطّبع الشّخصيّ في الحياة السّابقة بدا أقوى من ديليانا… ولكن لم يكن هناك أيُّ بالغٍ في العائلة يهتمّ لأمري، لذا لم يلحظ أحدٌ ذلك التّغيّر.
والحقيقة أنّ الأمر الأصعب لم يكن نظرات من حولي، بل العوارض الغريبة الّتي رافقت اندماج الوعيين.
فبعدما فقدتُ وعيي بسبب الحمّى والصداع، استيقظتُ في مكانٍ غريبٍ لا يمتّ لبيتنا بصلة.
ما زلتُ إلى اليوم أجهل ما كان ذلك المكان.
ظلمةٌ كريهة الرّائحة، أنفاسٌ غير مريحةٍ تتردّد في الهواء، هواءٌ ثقيلٌ ونقاطٌ ضوئيّة صغيرة تتلألأ بلا نهاية…
لا أتذكّر بالضّبط ما الّذي كنتُ أفعله هناك، أو كيف قضيتُ وقتي، لكنّني متأكّدة أنّني مكثتُ هناك طويلًا. ذكرياتٌ ضبابيّة، كأنّها كابوسٌ صيفيّ.
وبعد مرور وقتٍ طويل، وجدتُ نفسي مجدّدًا على سريري في غرفتي.
ما زلتُ لا أعلم إن كان ذلك مجرّد حلم، أم آثارًا جانبيّةً لما بعد اندماج الوعيين.
وحين حاولتُ البحث عن حقيقة ما حدث، رفض والداي الحديث في الأمر. كانوا يهدّدونني بنظراتهم وكأنّ شيئًا لم يحدث.
ومنذ ذلك الحين، ظللتُ أُعاني من بقايا تلك الذكريات.
كأنّ هناك من يُراقبني من بين الأثاث، أو كأنّ هناك حركةً غريبةً تصدر من تحت سريري كلّما حاولتُ النّوم…
أعراضٌ لم يكن بإمكاني البوح بها لأيّ أحد.
والآن، وقد أصبحتُ بالغةً، أستطيع التّفكير فيها على أنّها مجرد ذكرياتٍ قديمة، لكن حين أستعيد الماضي، تعود إلى ذهني كلماتٌ قالها ذلك الكائن الغريب في الحلم.
‘يا بَـ… □□، هذا يُدعى…’
‘تغييريّ ….، أو “تشينجلينغ”.’
كلّ شيءٍ بات ضبابيًّا، باستثناء تلك الكلمات. ما زالت ترنّ في أذني بوضوحٍ حتّى الآن.
ثمّ فتحتُ جفوني الثّقيلة، لأستقبل صباحًا لم أرغبه.
“…رأسي يؤلمني.”
ربّما لأنّني لستُ في مكاني المعتاد، لم تكن بداية الصّباح مريحة.
السرير الّذي كنتُ أنام عليه هنا أغلى من سريري في منزلنا بعشرات المرّات، ومع ذلك لم يكن مريحًا.
وضعتُ يديّ على رأسي ببطء، ونهضتُ عن السّرير.
‘لقد زارني ورحل دون أن أشعر.’
على الطّاولة القريبة من رأسي، كان هناك وعاء ماء صغير لغسل الوجه، وكوب شايٍ دافئ، ومنشفة.
الشّاي تحديدًا كان يُطلق بخاره الدّافئ، وكأنّه صُبَّ لتوّه.
عادةً، أستيقظ بسهولة إذا دخل أحدٌ غرفتي، لكن يبدو أنّ الخادم أو الخادمة الّتي دخلت تمتلك مهارةً خاصّة.
“…لذيذ.”
كما هو متوقّع من عائلة نّبلاء، كان طعم الشّاي فخمًا ومترفًا. نكهته العطريّة ساعدتني على التخلص من طعم الفم بعد النوم.
لو كنتُ في منزلنا، كنتُ سأغسل وجهي من بئرٍ بجانب المنزل، وأغرغر بالماء البارد بدلًا من الشّاي… عشتُ لحظةً من إدراك حجم رفاهية سيّدة القصر.
بعد الانتهاء من الغسل، فتحتُ خزانة الملابس، فتفاجأتُ بأزياءٍ فاخرةٍ لم أرَ مثلها من قبل.
كانت مرصّعةً بالجواهر المتدلّية، وبدا أنَّ ثمن فستانٍ واحدٍ منها يفوق كلّ ما أملكه.
أخرجتُ من بينها أبسط فستانٍ ذو لونٍ حياديّ، وارتديتُه.
طرق طرق.
بينما كنتُ أُرتّب مظهري أمام المرآة، سُمِعَ طَرقٌ على الباب.
“من هناك؟”
“إنّه أنا، ديليانا.”
كان صوت الدوق.
“ظننتُ أنّكِ استيقظتِ، لذا جهّزتُ الإفطار. هل تودّين مشاركتي؟ لديّ بعض الأمور لأتحدّث بها.”
“…بالطّبع.”
أجبتُ بصوتٍ باهتٍ لم أُدركه. لم أكن أتوقّع أن يأتي الدوق بنفسه من أجل الفطور. كان بإمكانه أن يُرسل خادمًا، وهذا يكفي.
فتحتُ الباب ببطء، وواجهتُ الدوق.
‘وسيمٌ كما هو متوقّع.’
كان جماله كفيلًا بأن يُبدّد كلّ الشّكوك والمخاوف المرتبطة بعائلة أكايم. وجهٌ لا يُمَلّ منه مهما نظرتَ إليه.
“من هذا الطّريق. لقد جهّزتُ الطّاولة أمام البحيرة. تحبّين البحيرات، أليس كذلك؟”
“نعم، أحبّها. لكن كيف عرفتَ؟”
“…سمعتُ ذلك من والديكِ.”
هل كان والداي بهذه الطّيبة ليُخبراه بهذه التفاصيل؟
كنتُ على وشك السّؤال، لكنّ الدوق أصرّ على استعجالي، فلم أُكمل.
“تفضّلي، اجلسي هنا.”
وصلنا إلى البحيرة، وكانت بحقّ كما وصفها، جميلةٌ تُبهر النّظر.
كانت البحيرة وسط حقلٍ من الزّهور، تنعكس فيها أشعّة الشّمس لتتوهّج كالجواهر.
‘…لكن، ما ذاك؟’
رأيتُ قطعًا من الألواح الخشبيّة تطفو على طرف البحيرة، كأنّ منزلًا أو اثنين قد تَهدّما. منظرٌ غير مريح، لكن لا علاقة لي به.
اقتربتُ من الطّاولة الّتي أشار إليها.
كانت هناك كراسي بيضاء وطاولة موضوع عليها بعض الخبز والفواكه.
جلستُ على الكرسيّ الّذي سحبه لي، وحدّقتُ به وهو ما زال يبتسم بسعادة.
‘يجب أن أسأله، أليس كذلك؟’
كان هناك الكثير من الأسئلة التي لم أتمكّن من طرحها ليلة الأمس.
من هو بلاكي، وما هي حقيقة فاليوس، ولماذا كانت الغرفة مظلمة بهذا الشّكل، ثمّ…
‘هل هو فعلًا إنسان؟ وهل سيُعيدني إلى منزلي؟’
كان هذا السّؤال الأخير هو الأهمّ.
بلعتُ ريقي لأكتم توتّري.
“حسنًا، ديليانا، استمتعي بالإفطار. سأقطّع لكِ الفواكه، لذا ابدئي بالخبز أو…”
“دعني أُقسّمها. لا يمكنني أن أُتعب سموّك بمثل هذه الأمور.”
“أنا أفعل هذا لأنّني أُريد.”
دفع يدي بلُطفٍ لكن بثبات، وبدأ يُقطّع الفواكه بهدوء ويضعها في طبقي.
حاولتُ أن أُجاري لطفه وأتقبّله، رغم شعوري بالحرج.
‘التّذمّر من هذا سيكون نكرانًا للنّعمة، أليس كذلك؟’
حين تحصل على لطفٍ غير مُبرّر، تبدأ بالشّك في نفسك بدلًا من رفضه.
أشحتُ بنظري عنه.
ربّما لاحظ صمتي، ففتح فمه بهدوء:
“هل نمتِ جيدًا ليلة البارحة؟ لا بدّ أنّكِ كنتِ مرهقة من السّفر.”
“آه، نعم. الغرفة كانت رائعة.”
“ومع ذلك، تبدين متعبة.”
لمستُ خدي عند سماعي كلماته، وأدركتُ أنّ وجهي مشدود.
والسبب الحقيقيّ كان تلك الأفكار التي تُراودني عنه، لكن لم أُفصح عنها.
“لقد رأيتُ حلمًا سيّئًا فقط. ليس بسبب الغرفة.”
“ما كان ذلك الحلم؟”
أخذتُ قضمةً من الفاكهة، وتحدّثتُ عنه باختصار.
“حدث في طفولتي. كنتُ ضعيفة الجسد وكنتُ بحاجةٍ إلى فترة نقاهة طويلة.”
رغم أنّ ما حصل كان أقرب إلى تخلٍّ منه إلى نقاهة… لم أشأ الخوض في التّفاصيل.
قصصتُ عليه الحلم عن ذاك المكان المظلم، وعن ذلك الشّخص الّذي لا أستطيع تذكّر اسمه.
والكلمات التي قالها لي…
‘…ما الّذي قاله؟’
غريب. كنتُ أذكره بوضوحٍ صباحًا، لكنّني الآن لا أستطيع تذكّره.
حين توقّفتُ عن الكلام، أمسك يدي وقال:
“ما بكِ، ديليانا؟ لا تتذكّرين الحلم؟”
“نعم، غريبٌ جدًّا. كنتُ أذكر الكلمات بوضوح…”
“لا تذكرين من قالها؟ ولا ماذا قال؟ ولا أيّ شيء؟”
“…لا.”
ابتسم مجدّدًا. لكن ابتسامته هذه كانت مختلفةً عن تلك التي رأيتها سابقًا.
عَيْناه الحمراوان تشعّان الآن بلونٍ أصفرٍ غريب…
“لا بأس.”
“…؟”
“لا تُرهقي نفسكِ في التّذكّر. لو كانت ذكرى مهمّة، لما نَسيتها، أليس كذلك؟”
“لكن…”
حتى وإن كان كلامه منطقيًّا، إلّا أنّ هذا النّسيان السّريع لشيءٍ واضحٍ جدًا كان غريبًا.
حين حاولتُ رفض منطقه، شدّ على يدي.
وصوته بدأ لا يُسمَع بأذني فقط، بل يُدوّي داخل رأسي…
“ديليانا…”
[لا يوجد أيُّ.]
“مشكلة. لذا، لا تقلقي.”
[الحلم مجرّد حلم.]
“لا أكثر.”
هل هذا صحيحٌ فعلًا؟
ربّما لم تكن تلك الذكرى عظيمة كما أظنّ.
الأهمّ أنّني الآن…
[في أكايم.]
أعيش هنا.
وما عشته في الماضي لا يهمّ.
‘أجل، والديّ قالا إنّه كان حلمًا… إذًا، فـ…’
ربّما من الأفضل أن أُصغي إليه.
وحين هممتُ أن أُومئ برأسي…
[هل سأستطيع العودة إلى هذا المكان يومًا ما؟]
كأنّ صاعقةً ضربتني، وعاد إليّ وعيي الكامل.
ما أيقظني لم يكن هو، ولا ذلك الكائن المجهول في الحلم، بل كنتُ أنا… نفسي في الماضي.
الطفلة التي كنتُها، كانت تتوسّل ألّا أنسى.
ولم أتجاهل نداءها.
“كلا. لا يمكنني ذلك.”
“….؟”
اتّسعت عينا الدوق بدهشة، وكأنّه لم يتوقّع ردّي هذا.
“لا أُريد أن أنسى. مهما كانت تلك الذكرى، فهي ثمينةٌ بالنسبة لي. لذا…”
دفعتُ يده بلُطف، لكنها زاحت بسهولة رغم قبضته القويّة.
“لستَ بحاجةٍ لإقناعي.”
سواء كانت محاولته إقناعًا أو تنويمًا مغناطيسيًّا، لا فرق.
لقاؤنا هذا لم يُطفئ شكوكي، بل زادها.
“…..”
ويبدو أنّ الأمر كان كذلك بالنّسبة له أيضًا.
فقد اختفت الابتسامة من وجهه، وعيناه القرمزيّتان تحوّلتا بالكامل إلى لونٍ أصفر…
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 4"
شكله في مساكين كانو يعيشون فوق البحيرة ونزحو بسبب الابطال كالعاده اضرار جانبية بكل رواية 😂😂