3
“ألن يحضر الأستاذ أيضًا إلى حفل الشرب بعد اجتماع بداية الفصل؟”
“لا أذكر شيئًا عن العام الماضي… لعلّي أسرفت في الشراب حتى محيت الذاكرة.”
“فلنجلس إذن في أبعد مكان ممكن عن طاولة الأستاذ.”
“أوافق… وبكل حماسة.”
اندفعت “هي-سون” بخطواتٍ عريضةٍ كإعصارٍ يقتحم صمت الحانة، تشقّ صفوف الأجساد الصاخبة بجرأةٍ جارفة، حتى استقرت في ركنٍ قصيّ بعيدٍ عن الأعين. كان الطاول الطويل هناك موحشًا، كأنّه فمٌ فقد أسنانه، ينزف فراغًا يلوّح بإغواءٍ صامت. وفي اللحظة التي كادت فيها “دام-هي” أن تهوي إلى مقعدها، دوّى رنين هاتفها كجرسٍ يعلن قدوم قدرٍ غامض.
رمقت الشاشة بنظرةٍ عابرة، ثم التفتت نحو صديقتها:
“هي-سون، سأخرج قليلًا لأرد على المكالمة.”
“حسنًا، تعالي مباشرة بعد أن تنتهي.”
انسابت خارج الحانة بخطواتٍ حذرة، تتوغّل في الممر المعتم، حتى انقطع عنها صخب الموسيقى وضحكات الطلبة. هناك، رفعت الهاتف إلى أذنها:
“مرحبًا، جدتي.”
― “دام-هي، هل رششْتِ الملح كما أوصيتكِ آخر مرة؟”
“نعم، جدتي. أهذا سبب اتصالكِ بي؟”
― “جزء منه فقط… لا شيء حدث، أليس كذلك؟”
“لا شيء على الإطلاق. لا تقلقي. كل هذا بسبب ذلك الحلم، أليس كذلك؟”
― “صحيح… لكن الأهم أنّني في الحلم رأيت القمر. كان قمرًا أسود… واليوم هو ذلك اليوم نفسه.”
ارتجفت أنفاسها للحظة، ورفعت بصرها إلى السماء الداكنة.
― “عودي إلى المنزل مبكرًا الليلة… لا نعلم ما قد يحدث.”
ابتسمت بسخريةٍ خفيفة، كأنها تحاول طرد ثقل الكلمات:
“أوامركِ أوامر، يا زعيمتي. لكن يا جدتي، الأحلام في النهاية مجرد سراب… حتى لو حلمتِ بالرئيس، فلن تفوزي باليانصيب. لا تقلقي كثيرًا، سأتصل بكِ حالما أعود.”
أغلقت الهاتف وأعادته إلى جيبها. لكن خطاها توقفت، وعيناها صعدتا مجددًا نحو الأفق. القمر الأسود… ذلك القمر الجديد في مطلع الشهر القمري، حيث الليل يبتلع النور كله. السماء انحدرت إلى بنفسجيّ داكنٍ يشبه ستارة مسرحٍ تستعد لانفتاحها على مشهدٍ مجهول.
“قمر جديد…”
تمتمت، ثم زفرت هازئة، وهزت كتفيها باستخفاف. استدارت عائدة… لتجد نفسها فجأة أمام بابٍ آخر. باب حانةٍ مطابقة لتلك التي خرجت منها، نسخة كابوسية مكرّرة: المقاعد نفسها، الأضواء نفسها، الطاولات نفسها. كأنها انعكاسٌ من عالمٍ آخر.
لكن “هي-سون” لم تكن هناك. جلست “دام-هي” في ركنٍ قصيّ، وسحبت هاتفها لترسل رسالة:
[أين أنتِ؟]
[هي-سون: علقتُ مع قائدة القسم ^^؛ طلبت مساعدتي. سآتي حالًا ^^..]
ابتسمت ابتسامةً صغيرةً باهتة، وأعادت الهاتف إلى جيبها. سكبت لنفسها كوب ماء، وارتشفت ببطء، بينما عيناها تلتهمان الوجوه الغريبة حولها. معظمهم كانوا وجوهًا لم ترها من قبل، ربما طلابًا جددًا. لكنّ الغرابة كانت في أن الرجال يملأون المكان، وكأنهم جيش، على عكس قسمها المعروف بندرة العنصر الرجالي.
‘أهذا حقًا قسمنا؟ حتى مباريات كرة القدم في مهرجانات الجامعة لم نستطع المشاركة فيها لقلّة اللاعبين… لكن هنا؟ جيش كامل يقف أمامي!’
وبينما كانت تتأملهم، دوّى صوت أجش يخترق الضجيج:
“يا للعجب! طالبة جلست معنا!”
اقترب رجل يحمل زجاجة خمر، وجهه متوردٌ وصوته كالرعد:
“كم مرة قلت للطلاب الجدد أن يبدّلوا أماكنهم؟ لكنهم يخافون، يتكدّسون هناك في الزاوية الأخرى لأن الرجال أكثر. مستقبل قاتم… قاتم حقًا! لكن اليوم! ها نحن ذا، شعاع نور يسطع فوق طاولتنا بوجود هذه الزميلة المشرقة! المستقبل صار مشرقًا الآن!”
قهقه آخر ساخرًا:
“كفاك ثرثرة، بسببك يفرّون قبل أن تفرغ الكؤوس. اصمت واشرب.”
ضحك الأول ضحكةً متوجعة:
“آه، أصبت قلبي… لكن لا بأس، لنشرب إذن! لحظة! زميلتنا بلا كأس؟ أسرعوا، أحضروا لها كأسًا!”
وفي لحظة، كان أمامها كأس، ورجل يرتدي قميصًا أسود يملؤه بالخمر، بابتسامةٍ مريبة. ارتطمت الكؤوس ببعضها كأجراسٍ معدنية، ثم ارتفعت لتشرب دفعة واحدة.
ارتشفت هي ببطء، مترددة، لكن صوتًا جهوريًا دوّى:
“أيتها الزميلة! الكأس الأولى دائمًا تُشرب دفعة واحدة!”
ارتبكت، وابتلعت الشراب دفعةً واحدة، غير مصدّقة أنهم يعاملونها كما لو كانت طالبة جديدة.
“أي سنة أنتِ؟” سألتها عيون أحدهم.
“أنا… في السنة الثانية.”
قهقه بصوتٍ عالٍ:
“أي سنة؟ ما هذا الكلام الفارغ! نحن هنا لا نعرف سوى كلمة واحدة: زملاء! لا وجود لتلك الطبقات السخيفة! لا تصدقي الشائعات عن العقوبات والاجتماعات الطارئة! كلها أكاذيب!”
‘ما الذي يقوله هذا الأحمق؟ ثمة خطبٌ ما هنا…’
وقبل أن تكمل أفكارها، صرخ رجل آخر وقد دسّ ملعقةً ملتهبة في فمه:
“آخ! تبًا! لهيب جهنمي! لساني يحترق!”
سقطت الملعقة من يده، وتطاير المرق الأحمر كدمٍ غزير، تتناثر قطراته لتلطّخ قميص “دام-هي” الأبيض الجديد.
‘تباً! هذا القميص اشتريته خصيصًا لهذا اليوم… والآن؟ تبعثر في لحظة!’
قفزت واقفة، وجهها يتجهم:
“هل أصابكِ مكروه؟”
“آه… هل تلوثت ملابسكِ؟”
“نعم… عليّ أن أغسله فورًا وإلا لن يزول الأثر.”
هرعت بخطواتٍ متسارعة نحو المطبخ، أو ما ظنّت أنّه المطبخ، علّها تجد سائل تنظيف. لكن الممر قادها إلى دورة مياه الرجال، مظلمة كقبوٍ منسيّ.
‘تباً! لا لوحات إرشادية، ولا نور!’
التفتت لتغادر بسرعة… لكن وقع خطواتٍ ثابتةٍ اقترب. جاء رجل يسير من الطرف الآخر، بخطواتٍ بطيئةٍ واثقة. مرّ بجوارها، قريبًا جدًا، حتى شعرت بأنفاسه الباردة تلامس وجنتها. رفعت عينيها نحوه للحظة، لتلتقط ظله الضخم: طويل القامة، عريض المنكبين، جسده كجدارٍ صيغ في معابد القوة، مهيبًا كتمثالٍ خرج للتو من صرحٍ أسطوري.
‘هل هو من المستجدّين في قسمنا؟ ياله من شخص سيجعل “يون هي-سون” تعود فورًا من انقطاعها!‘
تملّكتها الرغبة العاجلة في إبلاغ “هي-سون”، لكن قبل ذلك كان عليها العثور على المطبخ. استجمعت أنفاسها، وسارعت بخطواتٍ متعجّلة.
في المطبخ، استعارَت “دام-هي” منظّفًا ثم اتّجهت نحو الحمّام. بلّلت مكان البقعة التي أصابتها من مرق الـ جامبونغ، ثم أخذت تفركها. كانت البقعة أصغر من حبة شامةٍ على كفّها، غير أنّها إذ استعملت المنظّف وأعادت الكرّة بالماء والفرك، فإذا بقماش قميصها قد ابتلّ بمقدار ثلاثة قبضات كاملة.
‘قالت جدّتي دومًا إن أحذر من الماء… وهذا لا شكّ أنّه كان من ضمن تحذيراتها. أنا من أخطأ حين بلّلت القماش.‘
تأمّلت انعكاسها في المرآة، وزفرت بانزعاج، ولسانها يضغط بين أسنانها في تذمّرٍ خافت. كان حالها هذا لا يُطاق، ورأت أنّ العودة إلى المنزل خير من أن تبقى على هذه الهيئة. فتركت الحمّام وغادرته.
حين عادت إلى مقعدها، لم يظهر بعد أثرٌ لـ “هي-سون”. تُراها ما زالت عالقة عند ممثّل الفصل؟
جلست “دام-هي”، وأخرجت هاتفها، وشرعت في كتابة رسالة إليها. لكنّ الرجل الجالس قبالتها بادرها بالسؤال:
“هل ثيابكِ بخير؟ هل أزلتِ البقعة تمامًا؟”
رفعت رأسها فجأة، متوقّفة عن كتابة رسالتها.
“آه… نعم، أنا بخير. شكراً.”
بادلت نظراته لبرهة، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة مرتبكة. وما إن ارتسمت ابتسامتها الخفيفة حتى انعكس في عينيها بريق ضاحك، فاشتعلت وجنتا الرجل حمرةً في لحظةٍ خاطفة.
“لكن، يبدو أنني حتى الآن لا أعرف اسمك. لم تقدّمي نفسكِ بعد، أليس كذلك؟”
“آه، أنا… اسمي هو—”
ولم تكد تكمل جملتها حتى اقترب أحدهم من الطاولة.
“أيها السنباي، إن “يونغ-مين” يريد أن يراك قليلًا. يقول إن الأمر متعلّق بلقاء المحاربين القدامى.”
كان الصوت منخفضًا، عميقًا، رنّانًا في نعومةٍ مهيبة. فالتفتت أنظارها بلا وعي نحو مصدر الصوت. رفعت رأسها لترى رجلًا لم يكن موجودًا هناك منذ قليل.
وفي اللحظة التالية، أدركت “دام-هي” من خلال ملبسه أنّه الرجل ذاته الذي اصطدمت به عابرًا في الرواق حين ضلّت طريقها قبل قليل.
“……آه؟”
تدلّى فمها دهشةً، وتحوّل علامة الاستفهام المعلّقة في ملامحها إلى علامة تعجّب حين التقت عيناها بعينيه.
عينان طويلتان ضيّقتان، أنف بارز شامخ، وملامح باردة تحمل صرامة خاصّة لا تُشبه غيره. لقد كبر كثيرًا عمّا كان عليه في سنوات الإعدادية حين كان يشبه ثمرة كرزٍ يانعة، لكنه لا يزال يُعرَف من النظرة الأولى.
يا للجنون! أهو “ميونغ هيون-كي”؟!
ذاك الذي لم تشأ أن تراه حتى في كوابيسها… قد خرج الآن أمامها حيًّا في جسدٍ من لحمٍ ودم.
التعليقات لهذا الفصل " 3"