2
1. الطالبة الجامعيّة “يانغ دام-هي”
“آآاااه!”
صرختْ صرخةً مذعورة وهي تنتفض من نومها، لتتشقلب الأغطية عن جسدها النحيل، وترفع نصفها العلويّ فزعةً، قبل أن تقع عيناها على أركان الغرفة المألوفة، فتُدرك أنّ كلّ ما عانته كان مجرّد حلمٍ لا أكثر… عندها فقط، انطلقت من صدرها زفرة طويلة مثقلة بالارتياح.
“تبا… مجددًا؟! نفس الحلم الوغد! تباً لهذا الكابوس!”
كان حلمًا عنه هو. لم يكن كابوسًا من طينة الرعب الدمويّ أو الأشباح، بل على العكس… كان رومانسيًّا في جوهره، لكنّه رعبٌ من نوعٍ آخر: رعبٌ يَبعث القشعريرة في عظامها ويُغرق جبينها بعرقٍ بارد.
ذلك أنّه، وإن كان رومانسياً، فإنّه كان مستحيلًا”. حبًّا لا يُكتب له أن يتحقق، حلمًا مشوبًا بالخزي والعار والخذلان، كابوسًا من اليأس المطلق. وحتى في الواقع، وحتى في العوالم الافتراضيّة، لم تكن دام-هي تتمنّى أن تختبر مجددًا مثل تلك المشاعر التي تعصر القلب حدّ التحطيم… فما بالها تعود إليها عبر الأحلام، وكأنّ القدر يُصرّ على أن يجعلها تراجع جراحها مرارًا؟
“رجاءً… رجاءً، دعني أنسى…!”
كانت “يانغ دام-هي” قد بلغت الخامسة عشرة يوم ذاقت لأول مرّة مذاق الحبّ. مشاعرها الغضّة حينها اندفعت كما لو كانت عوامة صغيرة تُقذف بين أمواجٍ هائجة، تُساق بلا هدنة إلى المجهول. وأثناء رحلة مدرسيّة، وفي لحظة تهوّر، جرفها الطيش إلى الاعتراف بقلبها، فلم تسمع ردًّا لطيفًا أو رفضًا رقيقًا، بل كلماتٍ جارحةً حادّةً كالسكاكين.
لم يكن ذلك “فشلًا” في أوّل حبّ… بل كان انهيارًا كاملًا. كانت كعوامةٍ تنجرف بأملٍ نحو ميناء بعيد، فإذا بها تسقط دفعة واحدة من فوق هاوية صخرية شاهقة، تتحطّم أشلاءً في قاعٍ لا قاع له.
ومنذ ذلك الحين، ظلّت تجربتها تلك غائرة في عظامها، تستيقظ بين الفينة والأخرى في صورة كوابيس… لم تكن أحلامًا حالمةً بالتحقق، بل كوابيسَ من النوع الذي يُمزّق القلب من جديد.
“هل هو بسبب هذه الشقّة؟ منذ أن انتقلتُ إليها وكأنّ الأرواح تُحاصرني، والأحلام تزداد سوادًا.”
لوّحت بيديها في الهواء، وكأنّها تطرد قوى خفيّة لا تُرى، مردّدة بصوتٍ مرتفع: “هووي! هووي!”، علّها تطرد ما يتربّص بروحها.
وبما أنّ النوم قد جافاها، دفعت نفسها إلى النهوض. سحبت الستائر، فاندلعت أشعّة الشمس كالسيوف في عينيها، فغمغمت متأفّفة، قبل أن تمدّ ذراعيها في استرخاء طويل، وتفتح النافذة على مصراعيها. هواء الصباح البارد اندفع كنسمةٍ منعشة تُزيل ما تبقّى من كوابيس الليل.
هذه الشقّة ظلّت فارغة وقتًا طويلًا، إذ كان يقطن بجوارها أحد العرّافين، مُمارسًا الطقوس الروحانية، فتهيب الناس السكن بجواره. لكن بالنسبة إلى “دام-هي”، التي تربّت مع جدّتها في معبد، بين البخور والتعاويذ، لم يكن في الأمر ما يُرهبها، بل كان الأمر صفقةً جيّدة، خصوصًا وأنّ الإيجار قُصّ منه الكثير لهذا السبب.
وبينما تُرتّب الفراش وتلتقط خصلة شعرٍ ساقطة، خطت نحو الحمّام. جسدها كان غارقًا بالعرق، ربما بفعل حرارة الليل… وربما بفعل الحلم الجاثم على صدرها. فتحت الدش، اختبرت بيدها حرارة الماء، وما إن صار فاترًا، حتى تركت خيوطه تنهمر على جسدها، كأنّها أمطار خلاصٍ تغسل عنها أدران الكوابيس.
ما كان يُعجبها في هذا المنزل أنّ الفواتير مُدمجة مع الإيجار: ماء وكهرباء، بلا قلق ولا حساب. غنّت بصوتٍ خافت تحت رذاذ الماء، إلى أن أتمّت حمّامها، ثم أغلقت الصنبور. لكنها حين مدّت يدها لتأخذ منشفة، لم تجد واحدة.
“آه… لقد غسلتُها أمس ولم أجمعها. العيش وحيدة له عيوبه ومحاسنه أيضًا.”
عصرت الماء من شعرها بيديها، ثم فتحت الباب بحذر، وقدماها تتحرّكان على أطراف الأصابع خشية أن تبلّل الأرض، متّجهة إلى حبال التجفيف. أمسكت منشفة جافة ومسحت جسدها، وفي تلك اللحظة دوّى رنين الهاتف.
لفّت المنشفة حول شعرها المُبلّل، والتقطت الهاتف لترى اسم المتّصل: كانت جدّتها، المرأة التي ربّتها منذ كانت في الثالثة الإعداديّة وحتى نهاية المرحلة الثانويّة، الأمّ الثانية في حياتها.
“مرحبًا، جدّتي.”
ـ “دام-هي… أنتِ بخير يا ابنتي؟”
كانت قطرات الماء لا تزال تتساقط منها على الأرض، ومع ذلك لم يكن لديها ما تُخبر به جدّتها من أحداثٍ تُذكر.
“أنا بخير. لماذا؟”
ـ “لقد رأيتُ الليلة حلمًا سيئًا… فقررتُ أن أنظر في طالعكِ بعد طول غياب، ووجدتُ أمرًا أربكني.”
“أربككِ؟ ماذا تقصدين؟”
ـ “شيء ما يتقدّم نحوكِ… لكنّي لا أعرف كُنهه. أهو إنسان؟ طاقة؟ حدثٌ قادم؟ لا أعلم. لكن قولي لي… هل جاءكِ في الآونة الأخيرة من يطلب مالًا، أو يُلحّ في رجاء؟”
“لا، يا جدّتي. وهل تظنّين أنني أملك المال لأُقرض أحدًا؟ كان حلمًا سيّئًا، أليس كذلك؟”
ـ “ربّما… لكن قلبي غير مرتاح. اسمعي، انتبهي من الماء في هذه الفترة. أشعر أنّ مجرى الماء قد جرف شيئًا نحوكِ… ولا أعلم أهو خير أم شر. على كلّ حال، خذي كيس الملح وانثريه عند الأبواب.”
“حسنًا…”
ـ “لا تقوليها بلسانكِ فقط! نفّذي ما أقول!”
صرخت الجدة بقوة عبر الهاتف، حتى اضطرت “دام-هي” إلى إبعاد الجهاز عن أذنها متأفّفة، قبل أن تضحك وتردّ:
“سأفعل، سأفعل… ها أنا أخرج حالًا لرشه. لا تقلقي، أنا بخير فعلًا.”
ـ “ولا تنشغلي بحظوظ الناس بعد الآن. أنتِ لا تملكين موهبة العرافة. توقّفي، كي لا تجلبي لنفسكِ الشرّ.”
“حسنًا… لقد نسيتُ الأمر أصلًا. يا إلهي، لم تتّصلي بي منذ زمن، والآن تُغرقينني بالعتاب.”
ـ “أغلقي الخط يا هذه.”
“حسنًا، جدّتي… وأنتِ، هل…”
لكن الخط انقطع قبل أن تُكمل. تأفّفت وهي تنظر إلى شاشة الهاتف المطفأة.
“آه… لا تزال متعجّلة كعادتها.”
هزّت رأسها مبتسمة، وألقت الهاتف على الفراش. ثم ارتدت ملابسها، واتّجهت إلى المطبخ. فتحت الخزانة وأخرجت كيس الملح، عاقدة العزم على تنفيذ ما أوصتها به جدّتها.
دون أن تُصفّف شعرها المُبتل، انتعلت نعليها، وفتحت باب الشقّة. كان المنزل في طابقٍ ثانٍ ضمن مبنى صغير، مما جعله عرضةً للأصوات الخارجية. نزلت الدرج بخفّة، وتفقّدت الساحة أمام الباب الخارجي. لم يكن هناك أحد.
فتحت الباب، وأخذت تُنثر الملح في الجهات الأربع، سريعًا، بخفّةٍ تشبه طقوسًا مقدّسة. وما إن همّت بالعودة، حتى فُتح الباب المجاور فجأة.
تجمّدت في مكانها لحظة، لترى أمامها جارها، العرّاف الذي قيل إنّه تلقّى حديثًا “نزول الروح”، يحدّق فيها. ارتبكت، ثم لوّحت بيدها بابتسامةٍ صغيرة.
“آه… المعذرة. هل تعرفين كيف تقتلين الحشرات؟”
أوقفها صوته الملهوف.
“حشرات؟ أحقًا ظهر شيء؟”
“نعم! أنا على وشك الإغماء. لقد نشرت إعلانًا أطلب فيه عاملًا لقتلها، لكن بما أنّ بيتي هذا دار طقوس، لم يتجرّأ أحد على الردّ! هل أستطيع أن أطلب مساعدتكِ؟ رجاءً، عليّ أن أبدأ صلاتي قريبًا.”
“أه…”
لم تكن دام-هي تُحب الحشرات، لكن…
“كنتُ مستعدًّا لدفع ثمانية آلاف وون، لكنّي سأجعلها عشرة… لا، خمسة عشر ألفًا! فقط خلّصيني منها!”
’خمسة عشر ألفًا لحشرة؟’ فكّرت دام-هي. ثمنٌ مغرٍ يكفي لتُواجه خوفها.
“حسنًا… سأجرّب. فلنمضِ.”
ضمّت كيس الملح تحت ذراعها، وخطت إلى الداخل، إلى بيتٍ يتصاعد منه عبق البخور… وكأنّها تعبر عتبةً إلى قدرٍ مجهول.
لحُسنِ الحَظّ، لم يُعثر على الدَّخيل الحقير داخل مَعبدٍ مُقدَّسٍ مُكرَّسٍ لِعبادةِ الحاكم، بل وُجدَ في غُرفةِ استحمامٍ وضيعة، الأمرُ الذي جعل القبضَ عليه أيسرَ قليلًا. غير أنّ فرحة “دام-هي” باصطياد تلك الحشرة البغيضة لم تدم طويلًا؛ إذ ما لبثت أن أدركت بأنّ بيتها الملاصق لذلك المكان قد يكون مَأوى لرفاقه أو لقرينته المختبئة في الظلال. ارتعشت أنفاسها، وغصّت بعبرةِ قلقٍ خانقٍ وهي تَسأل نفسها: (أين يكون أصدقاؤه المقيتون مختبئين؟ أي زاوية مظلمة تضُمّهم؟ تباً…).
بيدٍ مثقلة بالانزعاج، قبضت “دام-هي” على مبلغ خمسة عشر ألف وون، وعادت إلى منزلها، حيث وضعت كيس الملح في خزانة المطبخ، ثمّ أسرعت إلى غسل يديها كمن يريد محو أثر شرٍّ لاصقٍ. وحين نفضت قطرات الماء عن كفيها، مسحت بعينيها زوايا الجدران الحادة، كأنّها تتوقع في كل لحظة أن يخرج كابوسٌ آخر من جحره.
“إنه شعور غريب… وكأنّ شيئًا رهيبًا على وشك الحدوث.”
تمتمت بذلك وهي تمد يدها إلى الثلاجة، تستخرج منها قنينة ماء بارد. أدارت غطاءها ببطء، ورفعتها إلى شفتيها لترتشف… لكن جرعة واحدة باغتتها بسعالٍ مفاجئ جعلها تنثر الماء بعنف. في تلك اللحظة، تردّد في رأسها صوت جدتها العجوز، وصيتها القديمة: “إيّاكِ والماء… الحذر منه دائمًا.”
ضحكت بسخرية شاحبة، قبل أن تمسح قطرات الماء المتلألئة على ذقنها، وتحدّق في جدارٍ ساكن كأنّه يبادلها نظراتٍ غامضة.
✦ ✦ ✦
“دام-هي، هنا!”
لوّحت “هي-سون” بذراعها عاليًا، مُنادِيةً باسمها بأعلى صوت وهي تجلس في زاوية المقهى. كان صوتها صاخبًا إلى درجة أنّ بعض الزبائن، الذين كانوا مستغرقين في القراءة بسماعات الأذن، رفعوا أبصارهم صوب “دام-هي” في آنٍ واحد.
“اخفضي صوتكِ قليلًا…”
تمتمت بارتباكٍ، وهي تُسرع بخطواتها لتجلس قبالتها، تحاول إخفاء الانزعاج الذي غمرها حين أصبحت فجأة محطّ الأنظار. التفتت حولها تبحث بعينيها، فقد قيل لها إن “أون-كيول” سيكون برفقتها، لكن مقعده كان خاليًا.
“أين كيم أون-كيول؟”
“ذهب إلى الحمّام. لست أدري، هل يقضي حاجته أم ماذا؟! إنه يتأخر بشكلٍ مريب.”
وقبل أن تكتمل كلماتها، جاء صوته من خلفها فجأة، حادًا مازحًا:
“ها أنا ذا، أيتها الغبية.”
كان “أون-كيول” قد عاد من الحمّام، فمد يده المبتلة ومسح وجه “هي-سون”، التي شهقت في اشمئزاز، ثمّ رفعت قبضتها لتسدد له لكمة غاضبة.
“هل جننت؟! أتحبّ أن تموت؟ كيف تجرؤ على مسح وجهي بيدٍ غسلت بها قذارتك؟”
قهقه ساخرًا وهو يرفع حاجبيه:
“قلت لك لم أفعل شيئًا. مجرد غسلٍ لليدين.”
جلس متثاقلًا على مقعده، بينما كانت “هي-سون” تحدّق فيه بعينين ضيّقتين، تُمسك أنفها بيدها كما لو أنها تقي نفسها من رائحة كريهة.
“تفوح منك رائحة قذرة.”
“كذب! لا رائحة ولا شيء. غسلت يدي فقط.”
ردّ بنبرةٍ مُستفَزّة، فما كان منها إلا أن تردّ بخبث:
“وهل يستغرق غسل اليدين وقتًا طويلًا كهذا؟ ماذا كنت تفعل؟ هل كنت تستقي الماء من بئر عتيقة؟”
زفر “أون-كيول” بمللٍ، ملوّحًا بيده كمن يطوي صفحة حديثٍ عقيم:
“آه… لا جدوى من الكلام معك.”
ثم نظر إلى “دام-هي” مباشرة وسأل:
“بالمناسبة، في أي ساعة بالضبط اجتماع القسم؟”
أخرجت “دام-هي” هاتفها، نقرَت على الشاشة سريعًا، ثم قالت:
“الساعة السادسة والنصف. ينبغي أن نتحرك الآن.”
ابتسم “أون-كيول” بارتياح وقال:
“أخيرًا! لقد حبستني هذه هنا طويلًا، لم أستطع العودة إلى المنزل بسبب يون هي-سون. لكن على الهامش، ما الذي يجبر طالبة في إجازة دراسية على حضور مناسبة جامعية؟”
أجابته “هي-سون” باستخفاف، رافعة ذقنها بعناد:
“وما المشكلة؟ الإجازة لا تسلبني اسمي كطالبة. أنا طالبة حتى وإن كنت في عطلة. أفهمت؟”
لم يشأ “أون-كيول” أن يجرّ الحوار إلى متاهة جدل، فهز رأسه نافيًا، ثم وجّه بصره إلى “دام-هي”:
“سأغادر الآن. إن طرأ شيء، راسليني.”
كان “أون-كيول” يدرس في كلية إدارة الأعمال، بينما “هي-سون”، زميلة “دام-هي” في نفس الدفعة، كانت قد علّقت دراستها هذا العام. وفي حين كان من المقرر أن يحضر طلاب قسم اللغة الفرنسية آدابًا نشاطًا في الجامعة، سبقت “هي-سون” الجميع إلى المكان، ثم جرّت “أون-كيول” معها إلى المقهى، تنتظر وصول “دام-هي”.
غادر “أون-كيول” أخيرًا، متعب الملامح، وهو يلوّح بيده بتثاقل، حقيبته على كتفه. عندها نهضت “دام-هي” و”هي-سون” بدورهما، لتتجها معًا نحو موعدٍ كان ينتظرهما، لا يدريان بعد أي فصول من القدر سيفتح بابه أمامهما.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"