1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ لَا سَهْلَ إِلَّا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلًا، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحُزْنَ إِذَا شِئْتَ سَهْلًا، فَاسْهُلْ عَلَيْنَا أَمْرَنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ خَيْرًا فَأَتْمِمْهُ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَأَبْعِدْهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَرْحَبًا، أَنَا أَحْمَدُ.
انْتَقَلْتُ إِلَىٰ بَارِيسَ مُنْذُ بِضْعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي الْوَاقِعِ أَنَا مُصَابٌ بِالْأَرَقِ، لِذَلِكَ أَتَمَشَّىٰ فِي وَقْتِ النَّوْمِ فِي شَوَارِعَ مَدِينَةِ بَارِيسَ الْجَمِيلَةِ. فِي أَحَدِ الْمَرَّاتِ، وَأَنَا أَمْشِي فِي شَارِعِ فُنْدُقِ لَارَاسَ، رَأَيْتُ فِي نِهَايَةِ الشَّارِعِ ظِلًّا ضَخْمًا يَبْدُو أَنَّهُ شخص مُسَلَّحٌ. كَانَ هَٰذَا أَوَّلَ شَخْصٍ مُسَلَّحٍ رَأَيْتُهُ فِي بَارِيسَ، فَقَرَّرْتُ الرُّجُوعَ وَإِكْمَالَ الطَّرِيقِ فِي الشَّارِعِ الَّذِي بَعْدَهُ. رَغْمَ أَنَّ فُضُولِي وَشَغَفِي كَانَا يَحُثَّانِنِي عَلَى الذَّهَابِ إِلَىٰ ذَلِكَ الشَّخْصِ، وَلٰكِنَّ وَلِحُسْنِ الْحَظِّ قَاوَمْتُ مَشَاعِرِي وَلَمْ أَذْهَبْ.
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي، نَشَرَتِ الصُّحُفُ وَالْجَرَائِدُ جَرِيمَةً قَدْ حَصَلَتْ فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فِي شَارِعِ لَارَاسَ، حَيْثُ عَثَرَتِ الشُّرْطَةُ عَلَىٰ جُثَّةِ امْرَأَةٍ فِي الْعِشْرِينِيَّاتِ مَقْطُوعَةِ الْأَطْرَافِ وَالرَّأْسِ، وَقَدْ رُمِيَتِ الْأَطْرَافُ وَالرَّأْسُ فِي حَاوِيَةٍ بِجَانِبِهَا. تَذَكَّرْتُ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُسَلَّحَ، فَقَرَّرْتُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي سُلُوكَ طَرِيقٍ آخَرَ. وَفِعْلًا قَدْ تَنَزَّهْتُ هَٰذِهِ الْمَرَّةَ فِي حَدِيقَةِ الْأَمْبَارِ.
كَانَ الْجَوُّ بَارِدًا جِدًّا، وَالْأَشْجَارُ الْخُضْرُ تَمْتَدُّ إِلَىٰ مَا بَعُدَ نَاظِرِي، وَنَسِيمُ الْهَوَاءِ الْبَارِدِ يَخْتَرِقُ مَلَابِسِي لِيَصِلَ إِلَىٰ عِظَامِي. وَفَجْأَةً، سَمِعْتُ صَوْتَ تَكَسُّرِ أَغْصَانِ أَشْجَارٍ يَأْتِي مِنْ وَرَائِي، وَبِسُرْعَةٍ الْتَفَتُّ إِلَى الْخَلْفِ وَتَفَقَّدْتُ الْمَكَانَ حَوْلِي. وَلِحُسْنِ الْحَظِّ قَدْ تَأَكَّدْتُ أَنِّي أَمْشِي وَحْدِي وَلَا أَحَدَ بِالْقُرْبِ مِنِّي يَسْتَطِيعُ سَمَاعَ صَرْخَاتِي؛ أَيْ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ كُنْتُ فِي أَكْثَرِ وَضْعٍ مِثَالِيٍّ لِلرِّوَايَاتِ الْمُرْعِبَةِ، وَلَيْتَنِي لَمْ أَفْكِرْ فِي ذَٰلِكَ.
وَبَعْدَ الْمَشْيِ الطَّوِيلِ، قَرَّرْتُ الِاسْتِرَاحَةَ عَلَىٰ أَحَدِ مَقَاعِدِ الْحَدِيقَةِ. جَلَسْتُ عَلَىٰ مَقْعَدٍ كَانَ بِجَانِبِي، وَحَالَمَا جَلَسْتُ أَحْسَسْتُ بِبُرُودَةٍ غَيْرِ طَبِيعِيَّةٍ قَدْ تَسَلَّلَتْ إِلَىٰ عِظَامِي، وَشَمِمْتُ رَائِحَةَ شَرَابِ الْقَهْوَةِ السَّاخِنِ دَاخِلَ أَنْفِي، رَغْمَ أَنَّهُ لَا يوْجَدُ أَيُّ فِنْجَانِ قَهْوَةٍ بِالْقُرْبِ مِنِّي. وَبَعْدَ الِاسْتِرَاحَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي الْأَشْجَارِ، قَرَّرْتُ إِكْمَالَ النُّزْهَةِ. وَعِنْدَمَا وَقَفْتُ وَنَظَرْتُ إِلَىٰ بَابِ الْحَدِيقَةِ الْبَعِيدِ، لَاحَظْتُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَجِبُ عَلَيَّ مُلَاحَظَتُهُ: لَقَدْ رَأَيْتُ نَفْسَ الظِّلِّ الَّذِي لَمَحْتُهُ الْبَارِحَةَ يَقِفُ أَمَامَ بَوَّابَةِ الْحَدِيقَةِ، وَبِيَدِهِ جُثَّةُ إِنْسَانٍ مَقْطُوعِ الْأَطْرَافِ. لَا أَعْرِفُ كَيْفَ لَاحَظْتُ ذَٰلِكَ، وَلَٰكِنَّ بَيْنَمَا يُدْرِكُ عَقْلِي الْمَوْقِفَ، سَارَعَتْ قَدَمَايَ إِلَىٰ دَاخِلِ الْحَدِيقَةِ بَيْنَمَا كُنْتُ لَا أَزَالُ أُحَدِّقُ بِهِ. وَبَعْدَ الرَّكْضِ لِمُدَّةِ خَمْسِ دَقَائِقَ، تَسَلَّقْتُ جِدَارَ الْحَدِيقَةِ وَهَرَبْتُ إِلَى الْخَارِجِ.
بَعْدَهَا، تَوَقَّفْتُ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ لِالتِقَاطِ أَنْفَاسِي، وَنَظَرْتُ إِلَى الْخَلْفِ لِلتَّأَكُّدِ أَنَّهُ لَمْ يُلَاحِقْنِي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِخَيْرٍ. فِي هَٰذَا الْيَوْمِ، قَرَّرْتُ الْعَوْدَةَ إِلَى الْمَنْزِلِ، رَغْمَ أَنَّ السَّاعَةَ لَمْ تَتَجَاوَزْ مُنْتَصَفَ اللَّيْلِ. وَعِنْدَمَا وَصَلْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ وَدَلَفْتُ إِلَى الدَّاخِلِ وَتَأَكَّدْتُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَلَىٰ مَا يُرَامُ، دَخَلْتُ إِلَىٰ غُرْفَةِ النَّوْمِ لِإِجْبَارِ نَفْسِي عَلَى النَّوْمِ. وَقَبْلَ أَنْ أَجْلِسَ عَلَى السَّرِيرِ وَأَسْتَلْقِيَ لِأَغُوصَ فِي الْأَحْلَامِ، تَحَطَّمَ الزُّجَاجُ بِحَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ قَدْ رُمِيَتْ مِنَ الْخَارِجِ! كَانَتِ الْحَجَرَةُ مُرْفَقَةً بِوَرَقَةٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهَا: “أَنْتَ التَّالِي، لِذَٰلِكَ لَا تُخْبِرْ أَحَدًا”. لَمْ أَعُدْ أَفْهَمُ أَيَّ شَيْءٍ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْعِبَارَةِ، وَشَعَرْتُ أَنَّ أَنْفَاسِي قَدْ أَصْبَحَتْ ثَقِيلَةً، وَقَلْبِي بَدَأَ بِالْخَفَقَانِ بِسُرْعَةٍ جُنُونِيَّةٍ، وَقَدَمَايَ لَمْ تَعُدَا تَقْوِيَانِ عَلَىٰ حَمْلِي، وَأُذُنَايَ قَدْ بَدَأَتَا بِالطَّنِينِ. شَعَرْتُ أَنَّ السَّقْفَ سَيَنْهَارُ وَيُصْبِحَ أَرْضًا، وَأَنَّ الْأَرْضَ سَتَنْهَارُ وَتُصْبِحَ سَقْفًا! بِاخْتِصَارٍ، شَعَرْتُ أَنَّ الدُّنْيَا سَوْفَ تَنْقَلِبَ رَأْسًا عَلَىٰ عَقِبٍ.
وَبَعْدَ التَّحَدِيقِ فِي الْوَرَقَةِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ذَهَبْتُ إِلَى الشُّرْفَةِ وَنَظَرْتُ إِلَى الْأَسْفَلِ لَعَلِّي أُلْمِحُ مَنْ قَامَ بِرَمِي الْحَجَرَةِ، وَلٰكِنْ لِلْأَسَفِ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا فِي الشَّارِعِ، وَكَأَنَّ هُنَالكَ وَحْشًا ابْتَلَعَ النَّاسَ مِنْ هَٰذَا الشَّارِعِ.
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي، وَجَدَتِ الشُّرْطَةُ مَقْبَرَةً لِأُنَاسٍ عَدِيدِينَ مَقْطُوعِي الرَّأْسِ وَالْأَطْرَافِ فِي الصَّبَاحِ، بِالْقُرْبِ مِنْ حَدِيقَةِ الْأَمْبَارِ التي كنت أتنزه فيها بالأمس. وَسُمِّيَتْ هَٰذِهِ الْجَرِيمَةُ “جَرِيمَةَ الْجَزَّارِ الْمَجْهُولِ” وَأُلْحِقَتْ بِالْجَرِيمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. كَثَّفَتِ الشُّرْطَةُ مُجْهودَاتِهَا فِي النَّهَارِ، بَيْنَمَا كُنْتُ أَنَا أَعْمَلُ فِي مَحَلِّ الْخِيَاطَةِ الَّذِي لَطَالَمَا اعْتَدْتُ الْعَمَلَ فِيهِ. لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا كَبِيرًا، بَلْ كَانَ أَشْبَهَ بِغُرْفَةِ نَوْمٍ صَغِيرَةٍ مَمْلُوءَةٍ بِالْمَلَابِسِ وَأَغْرَاضِ الْخِيَاطَةِ، وَكَانَتِ الْمَكِنَةُ وَالْكُرْسِيُّ فِي مُنْتَصَفِ الْمَحَلِّ.
عِنْدَمَا انْتَهَيْتُ مِنَ الْعَمَلِ هَٰذِهِ الْمَرَّةَ، لَمْ أَذْهَبْ إِلَى الْمَنْزِلِ، بَلْ قَرَّرْتُ الْمَشْيَ مُبَاشَرَةً، رَغْمَ عَدَدِ الْجَرَائِمِ الَّتِي فِي هَٰذِهِ الْمَدِينَةِ. لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ لِإِكْمَالِي لِهَٰذِهِ النُّزْهَةِ اللَّيْلِيَّةِ، سِوَىٰ أَنِّي أُحِبُّ غَرَائِبَ اللَّيْلِ وَأَكْرَهُ النَّوْمَ (مُصَابٌ بِالْأَرَقِ). مَرَرْتُ هَٰذِهِ الْمَرَّةَ فِي شَارِعِ مُتْحَفِ الْفَنِّ الزُّجَاجِيِّ، فَقَرَّرْتُ الدُّخُولَ لِلْمُتْحَفِ، رَغْمَ أَنَّهُ يُغْلَقُ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، وَهَٰذَا وَقْتٌ مِثَالِيٌّ لِلْعَوْدَةِ إِلَى الْمَنْزِلِ وَإِجْبَارِ نَفْسِي عَلَى النَّوْمِ.
دَلَفْتُ إِلَى الْمُتْحَفِ وَرُحْتُ أَتَأَمَّلُ فِي اللَّوْحَاتِ الَّتِي اصْطَفَّتْ عَلَىٰ شَكْلٍ مُسْتَقِيمٍ، ثُمَّ أَدْرَكْتُ أَنِّي مَا زِلْتُ فَقَطْ فِي سَاحَةِ الِاسْتِقْبَالِ. دَخَلْتُ بَعْدَهَا إِلَى الْقِسْمِ الرَّئِيسِيِّ لِلَوْحَاتِ الْفَنَّانِينَ الْقُدَمَاءِ. كَانَ هَٰذَا الْقِسْمُ مَكْتَظًّا بِالنَّاسِ، وَلَمْ أَتَمَكَّنْ مِنْ رُؤْيَةِ أَيٍّ مِنَ اللَّوْحَاتِ الْمَعْرُوضَةِ، لِذَٰلِكَ قَرَّرْتُ الدُّخُولَ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانَوِيِّ لِلْفَنِّ الَّذِي يَبِيعُ لَوْحَاتِ الْفَنَّانِينَ الْجُدُدِ.
وَعِنْدَمَا دَخَلْتُ، تَفَاجَأْتُ أَنَّ الْقِسْمَ جَمِيعَهُ خَالٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يُوجَدْ سِوَىٰ مُوَظَّفٍ وَاحِدٍ يَقِفُ فِي نِهَايَةِ الْقِسْمِ، وَظَهْرُهُ مُوَاجِهٌ لِوَجْهِي. ذَهَبْتُ إِلَىٰ ذَلِكَ الْمُوَظَّفِ وَقُلْتُ لَهُ:
ـ”اِحْم.. اِسْتَمِيحُكَ عُذْرًا، هَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تُرِيَنِي اللَّوْحَاتِ الْمَعْرُوضَةَ لِلْبَيْعِ؟”
انْتَظَرْتُ قَلِيلًا لَعَلَّهُ يُجِيبُنِي، وَلَٰكِنَّهُ لَمْ يُدِرْ لِي ظَهْرَهُ حَتَّىٰ! فَقُلْتُ لِنَفْسِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْنِي، لِذَٰلِكَ رَدَّدْتُ نَفْسَ الْعِبَارَةِ وَلَٰكِنْ بِصَوْتٍ أَعْلَىٰ مُنْتَظِرًا الْإِجَابَةَ مِنْهُ أَوْ حَتَّىٰ إِشَارَةً. وَلَٰكِنَّ الصَّمْتَ كَانَ هُوَ الْجَوَابَ! فَقُمْتُ بَعْدَهَا بِالنَّقْرِ عَلَىٰ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ، وَإِذَا بِهِ يَسْتَدِيرُ لِيُظْهِرَ وَجْهَهُ الَّذِي جَعَلَنِي أَتَجَمَّدُ مِنَ الرُّعْبِ مِنْهُ! كَانَ وَجْهُهُ مَلِيئًا بِالْحُبُوبِ وَالْبُثُورِ الَّتِي عَلَىٰ وَشْكِ أَنْ تُفَقِّسَ، وَكَانَتْ عَيْنَاهُ بَيْضَاوَيْنِ لَا سَوَادَ فِيهِمَا، وَشَعْرُهُ يُشْبِهُ شَعْرَ الْقُنْفُذِ الصَّغِيرِ، وَلَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَوَاجِبَ، وَلِسَانُهُ مَمْدُودٌ إِلَى الْخَارِجِ بِطَرِيقَةٍ مُرْعِبَةٍ. ثُمَّ بَدَأَ بِالتَّلْوِيحِ بِلِسَانِهِ، وَإِذَا بِي أَرَىٰ أَنَّ لِسَانَهُ قَدِ امْتَدَّ، وَظَلَّ يَمْتَدُّ حَتَّىٰ لَمَسَ رَأْسِي وَبَدَأَ يَتَحَسَّسُهُ! شَعَرْتُ وَقْتَهَا بِقَشْعَرِيرَةٍ سَرَتْ فِي جَسَدِي، وَلَمْ يَعُدْ عَقْلِي يَسْتَطِيعُ عَلَىٰ فَهْمِ أَيِّ شَيْءٍ يَحْصُلُ أَمَامِي. وَإِذَا بِي أَسْمَعُهُ يَقُولُ: “يَبْدُو أَنَّكَ لَمْ تُخْبِرْ أَحَدًا بِمَا رَأَيْتَ، أَحسَنْتَ! تَابِعْ ذَٰلِكَ إِلَىٰ أَنْ أَقْتُلَكَ”. وَكَانَتْ هَٰذِهِ آخِرَ جُمْلَةٍ سَمِعْتُهَا قَبْلَ أَنْ أَفْقِدَ الْوَعْيَ وَأَقَعَ أَرْضًا فِي قِسْمِ الْفَنِّ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ إِلَّا أَنَا وَهَٰذَا الْوَحْشِ.
بَعْدَ بِضْعِ سَاعَاتٍ، اسْتَيْقَظْتُ فِي نَفْسِ الْقِسْمِ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا أَمَامِي، حَتَّىٰ ذَٰلِكَ الْوَحْشَ قَدْ ذَهَبَ. كَانَتِ الْأَنْوَارُ مُطْفَأَةً، وَلَا يُوجَدُ سِوَىٰ ضَوْءِ الْقَمَرِ الَّذِي يَتَسَلَّلُ مِنْ نَافِذَةِ السَّقْفِ الْكَبِيرَةِ. حَدَّقْتُ قَلِيلًا بِاللَّوْحَاتِ الَّتِي أَمَامِي، وَإِذَا بِي أَرَىٰ لَوْحَةً قَدْ تَحَرَّكَتْ رُسُومُهَا! لَمْ أُصَدِّقْ مَا رَأَيْتُهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، حَتَّىٰ أَمْعَنْتُ النَّظَرَ، وَإِذَا بِي أَرَىٰ أَنَّ هَٰذِهِ اللَّوْحَةَ هِيَ فِي الْوَاقِعِ مِرْآةٌ، وَإِنَّ الرَّسْمَةَ الَّتِي تَحَرَّكَتْ هِيَ الْوَحْشُ الَّذِي يَقِفُ خَلْفِي مُعْطِيًا ظَهْرَهُ لِي!
وَبَعْدَمَا اسْتَوْعَبْتُ كُلَّ شَيْءٍ، بَدَأْتُ بِالرَّكْضِ قَبْلَ أَنْ يُلَاحِظَ الْوَحْشُ اسْتِيْقَاظِي. وَبَعْدَ دَقِيقَتَيْنِ مِنَ الْجَرْيِ، نَظَرْتُ إِلَى الْخَلْفِ وَلَمْ أَجِدْهُ. بَدَأْتُ بَعْدَهَا بِالْمَشْيِ بِبُطْءٍ شَدِيدٍ وَأَنَا أَضَعُ كَفَّيَّ فِي جَيْبَيْ مِعْطَفِي الْأَسْوَدِ، وَالتَفَتُّ يَمِينًا وَيَسَارًا بَحْثًا عَنْ مَخْرَجِ الْمُتْحَفِ. وَبَعْدَ بُرْهَةٍ مِنَ الْبَحْثِ، وَجَدْتُ بَوَّابَةَ الْمُتْحَفِ، وَلَٰكِنْ يَبْدُو أَنَّ هُنَاكَ مَنْ وَجَدَنِي قَبْلَ أَنْ أَجِدَهَا! نَظَرْتُ إِلَى الْخَلْفِ، وَإِذَا بِي أَرَى الْوَحْشَ يَرْكُضُ بِجُنُونٍ خَلْفِي! فَسَارَعَتْ قَدَمَايَ بِالْهَرَبِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْبَوَّابَةِ. فِي الْوَاقِعِ، كَانَ هَٰذَا الْمَشْهَدُ سِبَاقًا، وَالْفَائِزُ فِيهِ يَنَالُ مُرَادَهُ.
وَبَعْدَ دَقِيقَةٍ مِنَ الْجَرْيِ، تَمَكَّنْتُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَوَّابَةِ، وَلٰكِنْ لِلْأَسَفِ كَانَتْ مُغْلَقَةً! فَنَظَرْتُ إِلَى وَرَائِي وَرَأَيْتُ أَنَّ الْوَحْشَ قَدِ اقْتَرَبَ مِنِّي كَثِيرًا! بَدَأْتُ بِالْبَحْثِ عَنْ شَيْءٍ ثَقِيلٍ لِكَسْرِ زُجَاجِ الْبَوَّابَةِ وَالْهُرُوبِ. كَانَتِ الْمِطْفَأَةُ هِيَ أَقْرَبَ شَيْءٍ مِنِّي، فَجَلَبْتُهَا ثُمَّ حَطَّمْتُ الْبَوَّابَةَ وَخَرَجْتُ. وَفِي لَحْظَةِ خُرُوجِي، تَمَكَّنَ الْوَحْشُ مِنْ إِمْسَاكِ مِعْطَفِي! شَدَدْتُ مِعْطَفِي بِقُوَّةٍ لَعَلِّي أَسْتَعِيدُهُ مِنْ يَدَيْهِ الْقَذِرَتَيْنِ، وَلَٰكِنِّي اسْتَسْلَمْتُ لِقُوَّتِهِ، فَقُمْتُ بِخَلْعِ مِعْطَفِي وَرَمْيِهِ عَلَىٰ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكْمَلْتُ الرَّكْضَ فِي الشَّوَارِعِ؛ لَا إِلَىٰ مَرْكَزِ الشُّرْطَةِ، بَلْ إِلَى الْمَنْزِلِ، لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الشُّرْطَةَ لَنْ تُسَاعِدَنِي.
وَبَعْدَ الرَّكْضِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، تَمَكَّنْتُ مِنَ الْهَرَبِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْمَنْزِلِ. دَلَفْتُ إِلَى الدَّاخِلِ، أَغْلَقْتُ جَمِيعَ الْمَدَاخِلِ، ثُمَّ رَمَيْتُ نَفْسِي فِي دِفْءِ السَّرِيرِ، وَسَافَرْتُ إِلَىٰ عَالَمِ الْأَحْلَامِ بِدُونِ أَيِّ صُعُوبَاتٍ، لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِي، وَرُبَّمَا الْأَخِيرَةِ…
فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَجْرًا…
فَتَحْتُ عَيْنَيَّ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ صَبَاحًا، وَقُمْتُ بِإِلْقَاءِ نَظْرَةٍ سَرِيعَةٍ عَلَى الْغُرْفَةِ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى السَّرِيرِ. وَعِنْدَمَا أَغْلَقْتُ عَيْنَيَّ، لَمَحْتُ بِطَرْفِ إِحْدَاهُمَا ظِلَّ الْوَحْشِ فِي الشُّرْفَةِ. عُدْتُ لِفَتْحِهِمَا بِسُرْعَةٍ وَنَظَرْتُ إِلَى الشُّرْفَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا. قَرَّرْتُ النَّوْمَ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَعِنْدَمَا الْتَفَتُّ كَانَ الْوَحْشُ يَجْلِسُ أَمَامِي يُحَدِّقُ بِي، وَوَجْهُهُ مُلْتَصِقٌ بِوَجْهِي وَنَتَشَارَكُ الْأَنْفَاسَ نَفْسَهَا. وَبَعْدَ ذَٰلِكَ شَمِمْتُ رَائِحَةَ فَمِهِ الْكَرِيهَةَ الَّتِي جَعَلَتْنِي أَتَجَمَّدُ مِنَ الْخوف. وَعِنْدَمَا أَخْرَجَ لِسَانَهُ وَأَمْسَكَ رَقَبَتِي بِهِ، صَرَخْتُ حِينَئِذٍ صَرْخَةً مَدَوِّيَةً جِدًّا، لِدَرَجَةِ أَنَّ كُلَّ الْأَشْخَاصِ فِي السَّكَنِ قَدِ انْتَبَهُوا إِلَىٰ هَٰذِهِ الصَّرْخَةِ وَتَجَمَّعُوا حَوْلَ شَقَّتِي.
بَيْنَمَا أَنَا قَدْ سَقَطْتُ غَائِبًا عَنِ الْوَعْيِ، لِأَنَّ الْوَحْشَ قَدْ هَرَبَ وَأَخَذَ مَعَهُ يَدِي. دَخَلَ جَمِيعُ النَّاسِ بَعْدَمَا حَطَّمُوا بَابَ الشَّقَّةِ، وَوَجَدُونِي مَقْطُوعَ الْيَدِ وَغَائِبًا عَنِ الْوَعْيِ، وَآثَارُ الدِّمَاءِ مُنْتَشِرَةٌ فِي أَنْحَاءِ الْغُرْفَةِ. وَلَاحَظَ الْبَعْضُ رَائِحَةً كَرِيهَةً قَدْ كَانَتْ مُوجُودَةً فِي الشَّقَّةِ. وَبَعْدَ دَقَائِقَ، وَصَلَتِ الْإِسْعَافُ وَتِمَ نَقْلِي إِلَى الْمُسْتَشْفَى.
وَعِنْدَمَا اسْتَيْقَظْتُ، وَجَدْتُ الشُّرْطَةَ تَجْلِسُ بِجَانِبِي. لَمْ يَنْتَظِرُوا أَنْ أَهْدَأَ قَلِيلًا وَأَرْتَاحَ، بَلْ قَامُوا بِاسْتِجْوَابِي. فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا رَأَيْتُ، وَفِي عَيْنَيَّ نَظَرَاتٌ مُرْعِبَةٌ تَدُلُّ عَلَىٰ أَنَّ الْوَحْشَ الَّذِي رَأَيْتُهُ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا عَادِيًّا، بَلْ كَانَ شَيْئًا أَعْمَقَ. وَلَٰكِنْ لِلْأَسَفِ لَمْ تَأْخُذِ الشُّرْطَةُ بِأَقْوَالِي، وَتِمَ وَضْعِي فِي مُسْتَشْفَى الْمَجَانِينِ.
وَعِنْدَمَا دَخَلْتُ وَرَأَيْتُ الطَّبِيبَ الَّذِي سَيُشْرِفُ عَلَيَّ، ارْتَعَشَ جَمِيعُ جَسَدِي بِسَبَبِ شَكْلِ الطَّبِيبِ الَّذِي يُشْبِهُ ذَٰلِكَ الْوَحْشَ كَثِيرًا، غَيْرَ أَنَّهُ يَمْلِكُ سَوَادًا فِي عَيْنَيْهِ. وَفِي مَوْعِدِ الِاسْتِشَارَةِ الطِّبِّيَّةِ مَعَ هَٰذَا الطَّبِيبِ، بَدَأْتُ أُخْبِرُهُ بِهَٰذِهِ الْقِصَّةِ فِي كُلِّ اسْتِشَارَةٍ، وَكَانَ هُوَ دَائِمًا يَسْتَمِعُ لِي وَيُصَدِّقُنِي؛ لَيْسَ لِأَنَّهُ طَبِيبٌ، وَلَا لِأَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَلَا لِأَنَّنِي مَجْنُونٌ، بَلْ لِأَنَّ هَٰذَا الشَّخْصَ الَّذِي أُخْبِرُهُ بِالْقِصَّةِ هُوَ نَفْسُهُ الْوَحْشُ الَّذِي يَتَجَوَّلُ فِي اللَّيْلِ…
وَهَٰكَذَا أَصْبَحَ الْجَزَّارُ أَكْثَرَ شَخْصٍ أَتَحَدَّثُ مَعَهُ في حياتي.

حديقة الأمبار

المتحف

زقاق الفندق
Chapters
Comments
- 1 - جحيم في باريس (الأول و الأخير) منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 1"