في قصر أنستي العظيم، حيث تتدلى الثريات الكريستالية من السقوف العالية، وتزين الجدران لوحات ملوكٍ مضوا منذ قرون، عاش الكثير في بريق السلطة والجاه… إلا فتاة واحدة بقيت دائمًا في الظل.
اسمها إيفانجلين ميلي.

كان النبلاء ينظرون إليها نظرة باهتة؛ مجرد ابنة زوجة، فتاة بلا قيمة حقيقية. لم تحظَ بدعوات للحفلات الباذخة، ولم يكن لها مقعد في مجالس السياسة. لكنها لم تكن تشكو ولا تبدي امتعاضًا. كل ما فعلته هو أن تبتسم، وتحاول كل يوم أن تكون محبوبة.

 📚  في المكتبة، مملكتها الخاصة

منذ صغرها، كانت المكتبة الملكية ملجأها المفضل. أبوابها الخشبية الثقيلة تصدر صريرًا مألوفًا حين تدفعها، والهواء بارد منعش، مليء برائحة الورق العتيق والحبر.
بين الرفوف العالية، تختفي إيفانجلين لساعات طويلة.

كانت تقرأ بشغف غريب لا يشبه أحدًا في عمرها:

• كتب التاريخ التي تتحدث عن ممالك سقطت بسبب جشع حكامها.

• مؤلفات في السياسة وفنون إدارة الأسواق.

• أساطير السحر القديم، التي كان الآخرون يعدّونها مجرد خرافات.

دفترها الصغير كان دائمًا إلى جوارها. بخط أنيق، ترسم خرائط، وتكتب أفكارًا عن الضرائب والعدالة، وكأنها تستعد لمستقبلٍ مختلف عن ذلك الذي وُضع لها.

دخلت عليها خادمتها المخلصة كلارا ذات مرة، تحمل صينية صغيرة عليها كوب حليب وكعكة.
“مولاتي… لقد نسيتِ تناول الغداء من جديد.”
رفعت إيفانجلين عينيها الحمراء من الكتاب، وضحكت بخفة.
“آه… كنت فقط أقرأ عن إصلاحات الملك إدوارد في التجارة… لو طبقناها هنا، لاختفت نصف مشكلات المزارعين.”
كلارا هزت رأسها، وضعت الصينية قربها:
“الناس يقلقون بشأن طعامهم، وأنتِ تقلقين بشأن سياسة ملوك ماتوا منذ قرون.”
ابتسمت إيفانجلين، وعادت بنظرها إلى الورق:
“ربما… لكن المعرفة لا تموت، يا كلارا.”

🌸 الحديقة الخلفية

بعد الظهر، تجلس في الحديقة مع إخوتها الأصغر سنًا. على العشب الأخضر، تحيط بهم أزهار الياسمين، وصوت النافورة يملأ الجو بالهدوء.

كانت تروي لهم قصصًا من الأساطير، تقلد أصوات الأبطال والوحوش، فتثير ضحكاتهم. أحد إخوتها الصغار، إدغار، كان يصرخ:
“أكملي يا إيفا! ماذا حدث للفارس؟”
فتبتسم وتتابع:
“الفارس رفع سيفه… وقال للملك: العدالة لا تُشترى بالذهب!”

يضحك الأطفال بحرارة، ثم ينام أحدهم في حجرها. في تلك اللحظات، كانت تشعر أنها ليست منسية. إخوتها لم يهتموا بمكانتها، كانوا يرونها الأخت الحنونة فقط.

وفي كل مرة تهب الرياح فجأة لتدحرج الكرة نحوهم، أو تشتعل شمعة صغيرة على الطاولة بلا سبب، تبتسم إيفانجلين بخفية.
قوتها السحرية الصغيرة كانت تظهر رغماً عنها. لم يكن أحد يلاحظ، لكنها كانت تعرف أن النار والريح يجيبونها، كأن دمها مرتبط بقوة غامضة.

🍞 بين الخدم

لم تعرف إيفانجلين التكبر. كانت تدخل المطبخ أحيانًا، تجلس بجانب الخادمات وهن يخبزن، وتساعدهن في ترتيب الصحون.

كبير الخدم، ماركوس، كان يعترض دائمًا:
“مولاتي، هذا لا يليق بكِ! قد تتسخ يداكِ.”
لكنها تجيبه بابتسامتها المعتادة:
“إذا لم أشارككم القليل، فلمن سأكون نافعة إذن؟”

ضحك الخدم، وأحبّوها أكثر. كانوا يعرفون أنها ليست مثل باقي النبلاء، وأن قلبها أنقى من كل الألقاب.

🌑في الليل

حين ينام الجميع، تبقى إيفانجلين مستيقظة قرب النافذة. القمر عالٍ، والمدينة أسفل القصر ساكنة.

كانت تفكر بصوت خافت:
“لو كنتُ في مكان الملك… لخفضت الضرائب عن الفقراء.”
“لو كنتُ في مكان المستشار… لسألت الجنود عن معاناتهم بدلًا من أنام على وسادة من حرير.”

كانت تعلم أن لا أحد سيسمع هذه الأفكار. لكنها لم تستطع كبحها.
ثم نظرت إلى كفيها، فتحت راحة يدها، وتمتمت. شرارة صغيرة من الضوء انطلقت للحظة، قبل أن تختفي.

تنهدت، وأغلقت يدها بسرعة.
“لا يجب أن يراها أحد… سيعتبرونني غريبة.                                                          قلب يحاول أن يُحبه احد

رغم كل محاولاتها، لم تجد دائمًا القبول. في حفلات البلاط، تمر إيفانجلين مثل ظل باهت. يلتفت الجميع نحو فانيسا أرجنتارا بثوبها الباذخ، بينما هي تُنسى كأنها لم تدخل.
ومع ذلك… ابتسامتها لا تفارقها. كانت تبتسم حتى لو تجاهلها الجميع. كانت تحاول أن تكون محبوبة، حتى لو لم يبادلها إلا القليل.

لكن على الأقل… إخوتها والخدم أحبّوها. وذلك كان يكفي لتبقى واقفة.

في تلك الليلة، جلست وحدها على مكتبها، القنديل يضيء وجهها وعيناها الحمراوان تلمعان. بين يديها كتاب مفتوح عن فن القيادة العادلة.
همست لنفسها:
“ربما… ربما يأتي يوم يفهمني فيه أحد.”

لم تكن تعلم أن القدر كان ينسج خيوطه بصمت. وأن حياتها التي بدت بسيطة ومتواضعة… ستنقلب رأسًا على عقب قريبًا.