انتهت الرحلة الطويلة أخيرًا.
أسقط رافائيل والده بيديه، وصعد إلى العرش.
إذًا، هناك نهاية لكل شيء…
جلس على الكرسي الملطخ بالدماء في المكتب، وظل يحدّق في السقف طويلًا.
في النهاية… لم يكن هناك سوى هذا المكان.
رغم الدماء التي أُريقت، ورغم الطريق الطويل الذي قطعه، لم يستطع أن يجزم إن كانت هذه الغاية تستحق كل ما بذله.
كانت الأوراق مبعثرة على سطح المكتب الكبير، وفوقها، وُضعت دعوة واحدة بعناية واضحة.
كانت دعوة إلى حفل ملكي سيُقام في العاصمة قريبًا، ويبدو أن حضوره سيستوجب التعامل مع بعض الأمور المزعجة.
الحفلات كانت دومًا مصدر إزعاج بالنسبة له، لكنه، ولسبب ما، شعر هذه المرة بشيء من الترقب بدلًا من التردد.
تمنّى أن يجد هناك شيئًا يمنح كل هذا معنى.
ولئلا يتشوّش هدفه الأصلي، تعمّد ألا يسمع حتى أصغر الأخبار عن منزل “وينتِرسوار”.
أراد أن يطمئن بأمّ عينه. وإذا سنحت له الفرصة، فسيكون من الجميل أن يتبادل بعض كلمات التحية.
ذلك الدفء الذي ناله في تلك الأيام… كان أول دفء في حياته، وكان كل شيء بالنسبة له.
وبتلك الأمنية البسيطة في قلبه، صعد رافائيل إلى العربة المتجهة نحو العاصمة.
وهناك، سمع خبراً صادمًا زلزل كيانه.
“دوقة وينتِرسوار… توفيت منذ سبع سنوات؟”
لم تكن قد مرّت سوى سنة واحدة على لقائه بها– أو هذا ماكان يظنه… فاشتدّ خفقان قلبه تحت وطأة الذكرى.
حينذاك، عندما وصل إلى قصر الدوق الكبير، ذهب لرؤية طبيبٍ ماهر باستخدام الذهب الذي منحته إياه الدوقة.
في الأحوال العادية، كان ليتجاهل الأمر ويمضي في حال سبيله، لكنه لم يستطع أن يشيح عن لطفها وجهًا.
حذّره الطبيب من أن الكسر قد يخترق أعضاءه، وأكّد مرارًا أن حضوره في الوقت المناسب أنقذ حياته.
لولا تلك المقابلة في ذلك اليوم، لما كانت حالته الجسدية كما هي، بل ربما لم يكن ليوجد أصلًا.
لطالما فكّر أنه سيُسدي لها الجميل يومًا ما…
لكن الدوقة رحلت.
وإنريكا… لا بد أنها كانت في العاشرة من عمرها آنذاك.
الأمر… مؤلم للغاية.
أدار وجهه إلى النافذة، يخفي تعبيره الحزين بقلبٍ مثقل بالأسى.
ظلّ وجه الدوقة الشاحب، حين عالجت جراحه، يراوده بلا انقطاع.
وغرِق في شعورٍ بالذنب… وكأن لطفها الذي منحه إياه عَجَّل برحيلها.
❈❈❈
حين وصل إلى العاصمة، لم يكن يفكر في شيء سوى إنريكا.
رافائيل، الذي وُلد بلا شيء، أدرك الآن أن فقدان ما نملكه أصعب من العدم.
لقد ظنّ، ببراءة، أن دفء تلك اللحظة سيبقى إلى الأبد…
ومع ذلك، لا بد أنها تجاوزت الأمر.
حتى في سنّ صغيرة، كانت تملك روحًا أقوى من روحه.
كل ما استطاع فعله هو الانتظار… آملًا أن تتحقق تلك الفكرة.
لكن الآن، كان عليه أن يستفيق.
فالمشهد السياسي في العاصمة كان عاصفًا.
وكان الصراع على الخلافة محتدمًا، بينما الإمبراطور المُسنّ آثر تجنّب الأنظار والقرارات.
ظلّ رافائيل في حالة تأهّب طوال اليوم، يزِن كل كلمة قبل أن ينطق بها.
كان يومًا مرهقًا لرافائيل، الذي لا يزال جديدًا على عالم السياسة.
“…”
وفي كل ليلةٍ يعجز فيها عن النوم، كان يفرد اللفافة السحرية القديمة أمامه.
أول شخصٍ قال له إنه سيحميه، ولو بجسده الصغير.
هل أصبحت إنريكا ساحرة بارعة؟
كيف تبدو لفافتها السحرية الآن؟
غدًا، في الحفل الملكي، سيتمكن من رؤية وجه إنريكا من جديد.
فخفق قلب رافائيل بعنف.
❈❈❈
قاتلٌ مجنونٌ استولى على العرش بعد أن أطاح بجميع أقاربه من الدم، وطاغية الشمال.
هذا ما كان الناس يتناقلونه عن رافائيل كرونهارت.
لو كان أبًا عاديًا، لكان من الطبيعي أن تبتعد ابنته عنه، ولكن يبدو أن العيش كشخصٍ عادي أمرٌ مستحيل في الأوساط الاجتماعية.
“جلالتك ، أهنئك على اعتلائك العرش. هذه الفتاة هي ابنتي، وقد أقامت مؤخرًا حفل ظهورها الأول في المجتمع… هيا يا صغيرتي، قدّمي نفسك.”
الفتاة التي دُفِعت نحو والدها كانت ترتجف ولم تستطع حتى أن تلتقي بعيني رافائيل.
كانت الموسيقى الراقية تنساب من حولهم، والجو يبدو هادئًا… لكن ما يحدث فعليًا كان مبتذلًا حدّ النفور.
ظلّ رافائيل يتلفت حوله، يخفي خيبة أمله تحت عينيه الباردتين.
الشعر الوردي… لا أراه.
لقد قطع كل تلك المسافة من الشمال فقط ليراها من جديد.
هل يُعقل أنها لم تحضر الحفل؟.
ورغم أنه حاول أن يخفي ألمه، ظلّ الناس يتقاطرون نحوه.
وحين لم يستطع أن يتحكم في تعابير وجهه أكثر، انسحب إلى الشرفة.
جلس على الحاجز، وأغمض عينيه، ليستسلم أخيرًا لهدوءٍ افتقده.
–كحّة.
في تلك اللحظة، وصل إلى أذنيه صوت خافت لشخصٍ يسعل.
قطّب حاجبيه بامتعاض، مستاءً من انقطاع سكينته، ثم جلس منتصبًا وبدأ يبحث عن مصدر الصوت.
“…مستحيل.”
شعور غريب، يشبه الدغدغة، تدفّق إلى صدره فجأة.
كان الصوت يأتي من الأسفل. فأطلّ رافائيل من الطابق الثالث، حيث كان يقف.
وكما توقّع، لمح ظلّ شخص يتحرك في الطابق الثاني.
“عليّ أن أخرج قريبًا… رأسي يؤلمني كثيرًا…”
كانت امرأة تمشي بتوتّر على الشرفة، تتمتم بشيءٍ لم يصل إليه بوضوح.
كان حديثها مع نفسها هادئًا، ولم يكن بمقدور رافائيل، من الأعلى، أن يسمعه بوضوح.
–كح، كح.
بدأت تسعل من جديد، وانحنت إلى الأمام.
رأى خصلات شعرٍ كثيفة تتمايل مع حركتها.
ثم، عندما رفعت رأسها—توقف الهواء المحيط برافائيل عن الحركة.
وجنتان وعينان ورديتان كما لو صُبغتا بسحق بتلات الورد، وشفاه صغيرة ممتلئة.
إنها إنريكا وينتِرسوار.
مع كل تنهيدةٍ كانت تُطلقها، بدا وكأن أوراق الأشجار في الخارج تهمس معها.
رموشها الطويلة كانت ترتجف مع كل رمشة من عينيها الواسعتين.
وكأن كل نور الدنيا قد تجمّع في عينيها المتلألئتين كالجواهر.
رافائيل، الذي طالما شعر بأحاسيس متداخلة حين فكّر بإنريكا…
ما بين الشوق والشفقة تجاه تلك الذكرى الحارقة، كانت تتراكم في قلبه مشاعر معقدة لم يكن قادرًا على تسميتها بعد.
كانت أفكار رافائيل طويلة وعميقة…
ومنذ اللحظة التي رآها فيها من جديد، ترسّخت مشاعره تجاهها.
خصلات شعرها الوردي انسابت وانعكست في عينيه الزرقاوين، اللتين بدا وكأنهما تجسدان الشتاء.
شتاؤه، الذي ظنّه أبديًا، بدأ يتحوّل إلى ربيع.
ورغم كل ذلك، كانت إنريكا تعقد حاجبيها وتفردهما مرارًا، وكأنها تصارع أمرًا لا يفهمه.
ظهر ضوءٌ خافت عند أطراف أصابعها، ثم اختفى فجأة.
ولم يُدرِك رافائيل إلا بعد لحظات أن ذلك الضوء كان سحرًا.
إنها إنريكا التي قالت له ذات يوم إنها ستصبح ساحرةً عظيمةً.
لكنها الآن، ولسببٍ ما، لم تكن قادرة حتى على توليد ذرة طاقةٍ سحرية.
“أرجوك، فقط مرة واحدة… فيرمونت …”
ظلت تتمتم برجاء وهي تحاول استخدام سحرها مرارًا وتكرارًا، ثم سرعان ما تخلّت عن المحاولة.
انزلقت دمعةٌ على وجنتها وهي تعضّ على شفتها، وكأنها غاضبة من العجز الذي حلّ بها.
وانقبض قلب رافائيل.
إنريكا كانت أجمل من أي امرأةٍ رآها في حياته، لكن حين حوّل نظره بعيدًا عن جمالها، بدأ يلاحظ أشياء أخرى.
مثل خدّيها النحيلين، ومعصميها الرفيعين، وأظافرها المتّسخة المأكولة التي تدل على توترٍ دائم.
وعيناها… لم تعودا تلمعان بالحياة كما كانتا من قبل.
أراد رافائيل أن يهبط إليها في تلك اللحظة… أراد أن يقول:
لا بأس يا إنريكا… لا تبكي.
وجودك في ذلك الوقت… كان سحرًا بحد ذاته بالنسبة لي.
وربما… لا يزال كذلك حتى الآن.
لكنه لم يكن واثقًا مما إذا كان وجوده سيمنحها أي عزاء. فقد تذكّر المرأة التي ارتجفت لمجرد التقاء عينيها بعينيه في قاعة الحفل.
تلمّس جيبه، متسائلًا عما إذا كان هذا هو التصرف الصحيح.
حتى أخرج لفافة السحر الدفاعي التي كان يحتفظ بها اليوم.
لفافةٌ أسقطها عمدًا من الطابق الثالث، فتلاعب بها النسيم إلى أن وصلت عند أقدام إنريكا.
نظرت إنريكا، التي تفاجأت بورقةٍ سقطت فجأة على الأرض، حولها بحذر ثم التقطتها.
لم يكن بإمكانه رؤية تعابير وجهها من الأعلى، فلم يستطع أن يعرف إن كانت قد تعرّفت عليها أم لا.
لكنها سرعان ما فتحت فمها وقالت:
“من هناك؟”
تنحنح رافائيل، وأجاب بصوت هادئ:
“أعتذر يا آنسة… أعتقد أن شيئًا يخصني سقط هناك عن طريق الخطأ.”
“هذه ممتلكاتك؟”
فتحت إنريكا مروحتها أولًا، وأخفت بها عينيها الحمراوين من البكاء. وبعد أن فكّرت لبرهة، قالت بصوتٍ مرتجف:
“إن كنتَ قد اشتريتها من مكانٍ ما، فاذهب وأعدها. هذا تقليد… أسوأ من رسمة طفل صغير.”
ابتسم رافائيل… كانت طريقتها في الكلام طريفة، وكأنها لا تعرف أنها هي من رسمت هذه اللفافة بنفسها. ومع ذلك، لا تزال تحمل روحًا نبيلة.
لكنها ستعرف عاجلًا أو آجلًا. قال في نفسه وهو ينقر لسانه.
“لقد حصلت عليها في الشمال قبل سنوات. ألا تعرفينها؟”
“الشمال؟”
توقّع رافائيل أن تدرك هويته في تلك اللحظة.
لكنها أجابته متسائلة:
“لا أعلم بمن تخلط بيني وبينه، لكني لم أزر الشمال من قبل.”
صوتها لم يكن يبدو كمن يتعمّد إخفاء الحقيقة.
لم تكن ذكرى طفولة نُسيت فحسب… بل وكأنها قد مُسِحت تمامًا.
تركت الشرفة مسرعة، تاركةً خلفها رافائيل المرتبك، الذي لم يستطع أن ينبس ببنت شفة.
وسرعان ما أُعيدت اللفافة إلى رافائيل، في يد خادمٍ لا يعرف شيئًا عن وقعها في قلبه.
❈❈❈
“وفقًا للخدم العاملين في العائلة، كانت قد صُدمت جدًا من وفاة والدتها لدرجة أنها نسيت معظم ذكرياتها من الطفولة…”
مرّت أسبوعان منذ أن عاد رافائيل من الحفل الذي التقى فيه مع إنريكا.
عاد إلى الشمال. بدأ رافائيل بجمع المعلومات حول سنوات إنريكا الماضية التي لم يكن يعرفها.
بعد وفاة الدوقة، كانت إنريكا منهارة جسديًا وعاطفيًا. وكأن هذا يُثبت حقيقة الأمر، فقد توقفت عن الظهور في المجتمع وقضت معظم وقتها في المنزل. وعندما كانت تخرج، كانت تقضي وقتها بصمت في زاوية من قاعة الحفل، تبدو قلقة.
كلما تعمّق في معرفة المزيد، أصبح عزمه أقوى.
كان يفكر في الزواج من إنريكا.
الآن جاء دوره ليرد لها دفء ذلك اليوم الشتوي. لا، في الحقيقة، كان قد أراد فعل ذلك منذ أن سمع عن وفاة الدوقة.
كان سيفعل أي شيء ليجعل إنريكا سعيدة مرة أخرى.
ومع ذلك، بدا مساعده، ميلوا، غير راضٍ عن القرار، وبعد أن أخبره بكل المعلومات التي جمعها، أضاف رأيه الشخصي.
“هل من الضروري أن يكون هذا الزواج؟ منذ أن اقترحت على الآنسة وينترسوار، أصبحت مطالب الدوق تتزايد كل يوم.”
“…”
“ناهيك عن المهر الضخم. والأهم من ذلك استخدام ابنته في صفقات تجارية. هذا كثير جدًا.”
“احترس مما تقول.”
سرعان ما فتح رافائيل فمه ليجيب.
“ألم يقولوا إن الدوق مشهور بالعناية بابنته المريضة؟”
“نعم، هذا صحيح، لكن…”
“لو كان لي ابنة مثلها، لما كنت لأقبل تزويجها. أفهم ذلك.”
هز ميلوا رأسه كما لو كان قد شاهد مشهدًا غريبًا، ثم أغلق الباب خلفه.
لكن رافائيل بقي وحيدًا.
لم يكن وعدًا فارغًا. كان مستعدًا لفعل أي شيء من أجل إنريكا.
أولًا وقبل كل شيء، يجب أن تحاول استعادة صحتها.
كان سيتزوج ليعتني بها، لكنه كان واثقًا أنه إذا رفضت، فلن يظهر أمامها مجددًا.
إذا قال رجل آخر إنه يحبها، فسيشعر بالحزن، لكنه سيفهم.
لكن إذا حدثت معجزة وأعربت عن مشاعرها نحوه…
كان رافائيل يأمل أن يحدث ذلك بالفعل.
ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يفكر في زواجه المقبل. كانت ابتسامة أشبه بالربيع.
< نِهاية القِصة الجَانبية للجُزء الأوّل >
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 98"