“من الجيد أننا مررنا من هنا. نحن في طريقنا إلى الشمال، وإنريكا تحب رؤية بحيرات الغابة.”
“البحيرة هنا جميلة جدًّا.”
قالت الطفلة ذات الشعر الوردي، وتُدعى إنريكا، متّبعةً والدتها.
“أوه، لو لم يكن الأمر كذلك، لا أدري ما كان سيحدث الآن.”
ربّتت الدوقة على شعر ابنتها، وقالت بنبرة يعلوها القلق.
‘ هذا أمرٌ معتاد بالنسبة لي، فلا داعي للقلق.’
نظر رافائيل إلى الأم وابنتها، وابتلع الكلمات التي أراد أن يقولها.
“من هذا؟ يبدو صغيرًا جدًّا. أمي، هل أنتِ من عالج جراحه؟ ألم يقل المعلم إنكِ لا يجب أن تستخدمي السحر؟ متى ستذهبين إلى المبيت؟”
كانت الطفلة، إنريكا، لا تتوقف عن تحريك شفتيها، تثرثر بلا توقف عمّا يجول في خاطرها.
قطّب رافائيل حاجبيه عند تعليقها بأنه يبدو صغيرًا.
“لستُ صغيرًا، سأبلغ الثانية عشرة هذا العام.”
“أنت أكبر مني بثلاث سنوات فقط، هاه؟ إذًا، لماذا كنت وحدك في الغابة؟”
شعر رافائيل بالانزعاج وهو ينظر إلى هذه الطفلة المشرقة.
أطفال لم يذوقوا الألم قط. أطفال تربّوا خلف ظهر أبوين يحبّانهم ويحميانهم.
ورغم أنه كان يعلم أن ما يشعر به ليس سوى عقدة نقص نابعة من ماضٍ مؤلم… فقد كره هذا الشعور.
كأنني أشاهد الحياة التي حُرمت منها.
“أنتِ لا تعرفين.”
نطق رافائيل أخيرًا بلهجة حادّة تجاه ابنة الدوقة، رغم أنها أنقذت حياته.
ظنّ أن الدوقة ستغضب، لكنها فقط ابتسمت بهدوء، وحاولت تهدئة إنريكا.
“لا بدّ أنه مرهق الآن. دعيه يسترح قليلًا، إنريكا.”
“حسنًا، أمي.”
“لابدّ أنكِ انزعجتِ حين أوقفتُ العربة فجأة. هل أصبتِ في مكانٍ ما؟”
“أوم، ظهري يؤلمني! لذا، اشتري لي مثلجات في طريق العودة!”
نظر رافائيل إليهما بطرف عينه، متظاهرًا بعدم الاكتراث.
“لقد تناولتِ المثلجات مرتين هذا الأسبوع. لا يمكنكِ مرةً أخرى…”
“وأنت أيضًا، أيها الأخ، تناول المثلجات! سأشتريها لك بنقودي التي وفّرتها!”
قالت إنريكا بابتسامة مشرقة، متجاهلة تذمّر والدتها.
فأجابها رافائيل بصوت بارد:
“من الواضح أنكِ تتصنّعين الأمر، فلم لا تتوقّفين عن التصرف كطفلة مدلّلة؟ والدتك لا تبدو سعيدة كثيرًا.”
وبعد أن تفوّه بكلماتٍ تهاجم بها طفلةً أصغر منه، أدرك رافائيل ما فعله وبدأ يندم فورًا.
احمرّ وجهه خجلًا، لأنه يعلم تمامًا أن تصرّف الطفلة لم يكن خاطئًا.
كانت غلطته وحده. قلبه القبيح لم يستطع أن يتقبّل اللطف كما هو، وبدلًا من ذلك غار من طفلة.
كان على وشك أن يفتح فمه ليقول إنه سيغادر العربة.
“أنا مدلّلة قليلًا، هذا صحيح. لكن لا بأس! أمي ساحرة قوية جدًّا. هي فقط متعبة الآن، لكنها ستتحسّن قريبًا. لقد قرّرت أن تعيش معي بقية حياتها.”
“…”
“هل سبق وأن كنت مدلّلاً؟”
كان صوتها نقيًّا، خاليًا من أي خبث. تردّد رافائيل، ثم أجاب:
“أمي توفيت. ووالدي لديه أطفال كُثر غيري، لذا لا يهتم إن متّ أو بقيت حيًّا.”
كانت هذه أول مرة يفصح فيها عن أمرٍ كهذا لأحد. نظر إليهما بطرف عينه، ثم خفَض بصره.
‘ أشعر أنني قلت شيئًا لا داعي له. فهم لن يفهموا على أيّ حال. ‘
“إذًا، سأعتبر كلامك مزحة.”
في تلك اللحظة، فتحت إنريكا فمها، بعكس ما كان يظنه عنها، وقالت:
“سأُصبح ساحرة قوية جدًّا مثل أمي. وقتها، سأكون قادرة على حماية شخص واحد على الأقل!”
“…”
“فقط انتظر، حسنًا؟”
كان حديثها الواثق بعيدًا كل البعد عن القوة الحقيقية… لكن، لسببٍ ما، لم يزعج رافائيل ذلك.
ابتسم ابتسامة خافتة.
لم يتذكّر حتى متى كانت آخر مرة ابتسم فيها…
“من الذي ستحمينه، وأنتِ لا تتجاوزين حجم حبّة الفول؟”
وفي تلك اللحظة، سُمع صوت شيءٍ ارتطم بجسمٍ صلب.
“ما الأمر الآن؟”
لقد كان مذهولًا لدرجة أنه لم يدرك إلا بعد لحظات أن الصوت الذي سمعه كان صوت ضربة إنريكا له.
“أوه، يا إلهي، يا إلهي. أنا آسفة جدًّا. عليكِ أن تعتذري بسرعة له!”
كان صوت الدوقة المضطرب يتردد خافتًا في أذنيه.
قطّب رافائيل حاجبيه، وحدّق في إنريكا بعينين ممتلئتين بالدهشة.
“لستُ حبّة فول!”
كانت الدموع تتجمّع في عينيها الزهريتين الكبيرتين، على وشك الانهمار.
“أوه، لا… ما أقصده هو…”
لم يسبق لرافائيل أن شعر بالإحراج هكذا في حياته من قبل. قال وهو يحسّ بعرق بارد يسيل على جبينه:
“أعني… كنت أتحدث عن حبّة فول ضخمة جدًّا…”
حتى وهو يسمع نفسه، بدا صوته كأغبى صوت وأتفه عذر في العالم.
لكن إنريكا، على طريقتها الطفولية، بدت وكأنها صدّقت كلامه، وبدأت دموعها تنحسر ببطء.
“… حقًّا؟”
هزّ رافائيل رأسه بسرعة. وكعقوبةٍ على أنه كاد يجعلها تبكي، اضطر إلى مشاهدة عرض دُماها حتى وصلوا إلى متجر المثلجات في وسط المدينة.
❈❈❈
كانت المثلجات وجبة خفيفة مشهورة في الشمال، لكنها كانت بعيدة كل البعد عن عالم رافائيل.
ولأنه يجربها لأول مرة، لم يكن يعرف أي نكهة يختار أو كيف يطلبها حتى.
وبينما كان يتردّد في الاختيار، تقدّمت إنريكا بشجاعة وقالت:
“من فضلك، أعطني نكهتين من الفراولة! أيها الأخ، نكهة الفراولة هي الأفضل في هذا المتجر!”
“إنريكا، عليكِ أن تتركي له حرية الاختيار.”
وبّختها الدوقة بنبرة أمّ حازمة، لكن رافائيل هزّ رأسه على الفور وقال:
“لا بأس، تعجبني أيضًا.”
في الواقع، كان ممتنًّا لإنريكا لأنها أخرجته من الموقف المحرج.
وسرعان ما ظهرت مخروطا مثلجات ورديان اللون. وكانت صورة الطفلة ذات الشعر الوردي والعينين الورديتين والمثلجات الوردية مدهشة حقًّا.
أخذ رافائيل المثلجات من يد إنريكا وعضّ منها قضمة.
كانت المثلجات التي تذوّقها لأول مرة في حياته… حلوة جدًّا.
“ما رأيك؟”
رفَع رافائيل شفتيه قليلًا لإنريكا، التي سألته بعينين متلألئتين. كانت عضلات وجهه ترتجف، فقد كانت هذه الابتسامة غريبة عليه.
وكان يفكر في داخله:
‘ كأنني آكل شعرك. ‘
❈❈❈
جاء وقت العودة، حتى وإن لم يكن يرغب في ذلك. خطّط رافائيل لأن يطلب من الدوقة أن تُنزله عند ضيعته ثم يرحل.
أما إنريكا، فكانت منشغلة برسم شيءٍ ما على ورقة صغيرة طوال الطريق في العربة.
كان من الجميل لو سمع ثرثرتها أكثر قليلاً… لكنه شعر بالحسرة.
تبيّنت هوية “الشيء” حين نزلوا من العربة.
“هاك، هذه لفافة سحرية دفاعية! استخدمها عندما تكون في خطر!”
ورغم أنها دُعيت بـ”لفافة”، إلا أنها كانت في الحقيقة مجرد رسمة تبدو كأنها خربشة.
“لن تنجح في شيء، لكن سيكون جميلًا إن شكرتني فحسب.”
لم يعرف رافائيل كيف يرد، فالتفت إلى الدوقة الواقفة خلفه، فابتسمت له وهمست له دون صوت:
“هذه هي اللفافة السحرية من إنريكا، التي ستصبح ساحرة عظيمة. تَقبّلها بامتنان!”
قالت إنريكا بصوت عالٍ، غير منتبهة إلى همسة والدتها. لكن نبرتها الواثقة لم تكن مزعجة كما كانت في البداية.
حين أخذ رافائيل اللفافة وقال شكرًا، توقّفت العربة فجأة.
تبعت الدوقة رافائيل إلى الخارج، وناولته كيسًا صغيرًا.
“عليك أن تذهب لتلقي العلاج حين تصل إلى المنزل، حسنًا؟ يمكنك استخدام هذا.”
“لا حاجة لي به، مثل هذه الأشياء…”
كان الكيس الذي ناولته إياه تملأه عملات الذهبية.
هزّ رافائيل رأسه رافضًا، لكن الدوقة أصرّت على إعطائه الكيس، ثم صعدت بسرعة إلى العربة.
“اعتنِ بنفسك دائمًا.”
“أراك لاحقًا، أيها الأخ!”
لوّحت إنريكا بيدها طويلًا من نافذة العربة. ثم تحرّكت العربة من جديد، وسرعان ما غابت عن ناظره.
ظلّ رافائيل يراقب العربة وهي تبتعد وتبتعد، حتى أصبحت نقطة صغيرة في الأفق.
شعر باهتزاز غريب، وثقل طفيف في قلبه. ثم تمتم بهدوء:
“نعم، لنرَ إن كنا سنعيش…”
فلنتمسك ونواصل العيش بعناد. فقد شعر بأن عليه أن يتأكد بنفسه مما إذا كانت تلك الطفلة الصغيرة ستصبح حقًّا ساحرة عظيمة.
وإن لم تُفلِح، فسيسخر منها كما يشاء.
❈❈❈
وهكذا، وُلد لدى رافائيل هدف… لم يكن هدفًا في الحقيقة. فبعد أن تأكّد أنه لا مفرّ من هذا المكان، لم يعد مجرد الصمود كافيًا.
نام أقلّ، وأكل أكثر. بنى عضلاته وتعلّم فنون السيف. وقرأ كل كتاب وقعت عليه يداه لينال المعرفة.
دفع نفسه إلى أقصى الحدود، وبنى قوته شيئًا فشيئًا.
الفتى الذي كان بالكاد يتحمّل الحياة، أصبح الآن شابًّا… وبدأ بالردّ.
تخلّص من بعض إخوته الذين ظلّوا يراقبونه منذ صغره.
كانت هناك لحظات شعر فيها بأن كل شيء أثقل من أن يُحتمل، وتعب إلى حدّ لم يعد يقدر فيه على الشعور بشيء… لا راحة، ولا ندم.
وفي كل مرة يحدث فيها ذلك، كان رافائيل يُخرج اللفافة السحرية المهترئة، ويتأملها.
رغم مرور السنوات، لم يكن هناك شيء يمنحه السلام في قلبه سوى تلك الذكرى.
كان الخطّ المعوجّ يرسم الابتسامة على وجهه بمجرد النظر إليه، وله قدرة غريبة على تهدئته، حتى بعد يوم حافل بالتوتر.
أنا الآن في التاسعة عشرة… إذًا لا بد أنها في السادسة عشرة.
لا شك أنها أصبحت فتاة شجاعة ونبيلة محبوبة.
حتى حين كانت صغيرة، كان وجهها ممتلئًا وظريفًا… فلا بد أنها أصبحت أكثر جمالًا الآن.
كيف ستتعامل مع الرجال الذين يغازلونها؟.
أتمنى لو أتمكن من ركلهم جميعًا…
و كأن أحدهم ضربه بمطرقة على رأسه.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐••
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 97"