“صورة للدوق الأكبر؟”
لم يكن في الصوت الذي طرح السؤال أي إحساس بالإحراج أو التردد. شعرتُ وكأنني تنفستُ الصعداء بسبب ردة فعل كايل.
“الآن بعد أن فكرتُ في الأمر، لم أرَ وجهه من قبل قط.”
“أفهم ذلك، وبما أنكِ ترغبين بذلك، فسأبذل قصارى جهدي للحصول عليها.”
“يقولون إنه أشقر، أهذا صحيح؟”
“نعم، على الأرجح.”
راقبتُ تعابير وجه كايل بعناية وأنا أتحدث إليه. كان هادئًا وودودًا كعادته، ولم ألحظ عليه أي شيء غير مألوف.
“أين كنتَ الليلة الماضية؟ سمعتُ أن شيئًا مهمًا قد حدث.”
“آه، كنتُ حقًا أرغب في رؤيتكِ شخصيًا في حفل عشاء الفائزين.”
نقر كايل بلسانه وتحدث وكأنه محبط حقًا.
“لم يكن لدي خيار، فقد كانت هناك أمورٌ طارئة.”
“إذًا، ما الذي جرى؟”
خرج صوتي على غير قصد بنبرة تنمّ عن التوتر. كنتُ أول من صُدم بذلك، فسارعتُ للاعتذار إلى كايل.
“آه، أعتذر. لم أنم جيدًا مؤخرًا، لذا يبدو أنني أصبحتُ أكثر حساسية.”
“لا بأس، إنري. بالأمس، كنتُ أساعد في تدريب الفرسان.”
“…”
“ثمة حملة مهمة قادمة، وبما أنني قائد الفريق، لم يكن بوسعي تفويت التدريب. إن أردتِ، يمكنكِ سؤال باكوس…”
“لا، لا داعي لذلك. آسفة جدًا.”
كان كل شيء على ما يرام حتى لحظات قليلة مضت. كدتُ أن أفسد كل شيء بسبب فكرة غريبة خطرت في بالي فجأة.
“الآن، انسي ذلك.”
إن لم يكن لديك حس فكاهي جيد عادةً، فلا تجازفي.
اقترحتُ بابتسامة متكلفة:
“هل نذهب إلى مكتبكِ لنُنهي الحديث عن الصحيفة؟”
“إنها فكرة جيدة.”
انشغلتُ بالتحرك سريعًا للهروب من هذا الجو.
ولذلك، لم ألحظ أن تعابير كايل قد تصلبت وهو يتبعني.
❈❈❈
لحسن الحظ ، بدت عملية تجنيد الصحيفة تسير بسلاسة. صادف أن أحد أصدقاء كايل القدامى يعمل في “كويست”، إحدى أكبر وأهم الصحف نفوذًا.
اختفى العائق الفوري الذي كان علينا حله، لكن رغم ذلك، بقيت المشاعر المتشابكة عالقة في داخلي.
تجولتُ قليلًا، ثم اتجهتُ نحو المكتبة حيث يقيم فيرمونت.
هل يعود الأمر إلى العلاقة الخاصة التي تربط بين المستدعى والساحر؟
كما حدث بالأمس، ما إن رأينا بعضنا حتى بدأنا بالتذمر.
عندما تكون أفكاري مشوشة بهذا الشكل، يكون هو أول من يخطر في بالي.
“فيرمونت….”
ناديتُ اسمه برفق بينما كنتُ أبحث عن القط.
“اللورد فيرمونت؟”
حاولتُ تغيير الطريقة التي أناديه بها، لعلّه يتعمد الاختباء عن الأنظار، لكن المكتبة الواسعة ظلت صامتة. بحثتُ في كل زاوية وركن حتى شعرتُ بالتعب قليلًا، وأخيرًا وجدته.
“…”
يا للعجب، إنه لا يزال بشريًا اليوم.
كان فيرمونت نائمًا، مستندًا إلى الحائط في وضع غير مريح. إحدى ساقيه ممدودة بالكامل، بينما الأخرى مثنية عند الركبة بدلًا من بسطها. وكانت يداه متشابكتين، لدرجة أن مجرد النظر إليهما جعلني أشعر بالتصلب.
كانت هناك كومة من كتب السحر والنظريات المختلفة مكدسة على الأرض.
“أنتَ دائمًا تعاني بسببي.”
بعد أن نظرتُ إليه بشيء من الشفقة، تململ قليلًا ومدّ ساقيه المثنيتين.
وفي تلك اللحظة، لاحت لي رؤية شيء غريب بعض الشيء.
لمحتُ ما بدا وكأنه كدمة زرقاء على الجزء الداخلي من الكمّ الفضفاض في ذراعه اليسرى.
“ما هذا؟”
للحظة، شعرتُ بأن قلبي سقط في جوفي، لكنني توقفتُ عن التفكير في الأمر، إذ أدركتُ أنه لن يحب أن أحقق في ذلك أكثر.
بدلًا من ذلك، حاولتُ النهوض مجددًا وأنا أُهدئ خفقات قلبي…
“أوه، يا إلهي!”
عندما رفعتُ رأسي، كان يحدق بي بعينين ذهبيتين متوهجتين. رغم أنني لم أكن مدركة لأي خطأ ارتكبته، شعرتُ بصدمة وصحتُ كمن أُمسك متلبسة بجريمة لم ترتكبها.
“لو أنكِ استيقظت في منتصف الليل، ألم يكن من الأفضل أن تعطيني إشارة على الأقل؟ ماذا كنتِ تفعلين؟”
“شعرتُ أنك نائم في وضع غير مريح، فكنتُ أمدّ ساقيك.. لماذا تستجوبني؟”
تساءلتُ إن كان كايل، الذي غضب مني دون سبب سابقًا، قد شعر بما أشعر به الآن.
شعرتُ بالأسى وكأنني أُسيء فهمي، فعبستُ وتحدثتُ بنبرة متذمرة.
ثم حدث أمرٌ غريب.
سمعتُ صوت الريح وهو يتساقط، واخترق الطنين أذنيّ. تفاجأتُ بهذه الاستجابة غير المتوقعة، ففتحتُ عينيّ وحدّقتُ في فيرمونت.
“أوه، لقد ضحك…”
ارتسمت ابتسامة على شفتي هذا الرجل الحاد الطباع. كان الأمر غريبًا جدًا لدرجة أنني لم أستطع حتى تخيّله في ذهني.
ما رأيته بالفعل لم يكن غريبًا، بل كان رقيقًا وهادئًا بطريقة تلامس المشاعر. الشفتان اللتان كانتا دومًا تعابسهما، انحنتا للأعلى. الشيطان، الذي كانت ملامحه كلها تبدو حادة وحساسة، لا يبتسم إلا أمامي.
كان لذلك تأثيرٌ كافٍ لمسح جميع الأحداث التي مررتُ بها خلال ذلك اليوم من ذهني. لكن سرعان ما شعرتُ بألم حادّ على جبهتي، كما لو أن هذا الشعور اللطيف لم يكن مسموحًا لي بالاستمرار فيه.
“آه!”
“ما الذي تحدقين فيه بهذا الانتباه؟”
فيرمونت، الذي ضربني ضربة خاطفة، نهض سريعًا من مكانه. نعم، هكذا كان دائمًا هكذا.
تلقيتُ ضربة على جبيني بلا سبب، ولم أستطع العثور على الكلمات للرد عليه.
“أنتَ… يومًا ما سأجعلك تندم على هذا…”
“لنجعل ذلك اليوم هو اليوم.”
“ماذا؟”
فيرمونت، الذي بدا كما لو أنه لا يستطيع التخلي عن كونه الشيطان، رتّب ملابسه الطويلة التي بدت فوضوية بشكل ملحوظ، ثم قال:
“سنبدأ الآن تدريبًا واقعيًا، أمسكي عصاكِ واتبعيني.”
“هكذا فجأة؟”
“قلتِ إنكِ ستعاقبين الدوق، بل وتعبثين مع العائلة الملكية. إن صادفتِ عدوًا في منتصف الطريق، هل ستطرحين هذا السؤال أيضًا؟”
في النهاية، لديه موهبة في جعل المرء يكره كلماته حتى وهو يفكر في مصلحته.
أخذتُ خطوتي الأولى على مضض، ثم أسرعتُ للحاق بفيرمونت وهو يسير للأمام.
❈❈❈
“لنذهب معًا!”
إلى أي مدى علينا الذهاب؟
أمرني فيرمونت بإلقاء تعويذة التخفي علينا معًا، ثم غادرنا قصر الكونت وبدأنا في التوجه نحو التل.
“إن واصلنا السير هكذا، سأكون قد استُنفدت طاقتي قبل حتى أن أبدأ القتال!”
“يجب أن تبني بعض القدرة على التحمل.”
أكثر ما شعرتُ بالاستياء حياله هو أنني لم أستطع دحض كلامه، لأنه كان صحيحًا تمامًا.
الخياطة طلبت مني أن أكتسب بعض الوزن، لكن إن استمررتُ بهذا الشكل، فسأخسره مجددًا.
عندما كنتُ على وشك فقدان أنفاسي، توقف فيرمونت، الذي كان يسير أمامي. كنا في غابة مهجورة.
وما إن حاولتُ التقاط أنفاسي، حتى مرّ شيء سريع بجانب أذني.
كان سهمًا هوائيًا صنعه بالسحر.
“لا، هذا جنون…!”
لو لم أُدِر رأسي في اللحظة الأخيرة، لكنتُ قد أُصبتُ مباشرة.
“كيف تفعل هذا دون حتى أن تُعلمني أنك ستبدأ؟”
“هل تعتقدين أن أحدًا في الواقع سيُعلمكِ بلطف قبل أن يبدأ الهجوم؟”
“هاا!، أشعر بالغضب لأن هذا صحيح!”
على عجل، ألقيتُ تعويذة دفاعية وأنشأتُ حاجزًا قويًا أمامي.
السهم التالي الذي طار نحوي اصطدم بالحاجز وارتد بعيدًا.
‘ رائع! ‘
قبضتُ يديّ بحماس وهتفتُ داخليًا.
رغم أنني كنتُ أحفظ الصيغة في كل مرة، إلا أنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها حاجزي يصد هجومًا بالفعل.
رؤية النجاح بأم عيني زادت من ثقتي في إلقاء السحر.
فورًا، ألقيتُ تعويذة تقييد تستهدف أطراف فيرمونت.
لوّح بيده ليبددها، لكنه ربما لم يكن يدرك أن تعويذة عالية المستوى قد أُلقيت كخدعة.
أثناء انشغاله بالدفاع ضد السحر التقييدي، تحرك السحر الأرضي الذي ألقيته بصمت تحت التربة كأنه خلد يحفر. تحركت التربة الدوارة بسرعة وأحاطت بكاحليه.
(خُلد إسم حيوان)
“…!”
كان رد فعل فيرمونت سريعًا لدرجة أنه نجا بساق واحدة، لكن قدمه اليمنى ظلت محاصرة. استغللتُ الفرصة وألقيتُ المزيد من سحر الأرض، مما جعل الأرض تتموج وترتفع، مُشكلةً دوامة ترابية.
في تلك اللحظة، حرّك فيرمونت شفتيه بصمت وألقى تعويذة غير منطوقة. رسم الريح بأطراف أصابعه وصنع رمحًا كبيرًا مزّق الدوامة.
ولكن، بدا أنه لا يزال غير قادر على تحرير قدمه اليمنى.
عندما كنتُ أستخدم السحر مستعينةً بقوة الطبيعة، شعرتُ وكأن روح الطبيعة ترقص بفرح داخلي. وربما لأن هذا لم يكن قتالًا حقيقيًا، كنتُ أشعر بسعادة غامرة.
بمزاجي المفعم بالحيوية، ألقيتُ تعويذة نارية، مُحدثةً ألسنة لهب في جميع الاتجاهات. وفي خضم ذلك، احترقت بعض خصلات شعر فيرمونت الطويل.
قطّب الرجل حاجبيه بجدية، ثم صنع رمحًا من الماء وألقاه نحوي. رغم أنني تمكنتُ بطريقة ما من تفكيك الرمح الحاد في الهواء، إلا أنني لم أستطع تفادي صاعقة الماء التي تبعته.
سرعان ما غمرتني المياه، وبدا مظهري كفأر مبلل.
بعد تبادل الهجمات لفترة طويلة، بدأت حرارة المعركة تتلاشى تدريجيًا.
أولًا، أنا، التي أُنهِكتُ تمامًا، استلقيتُ على العشب.
“كان سيكون رائعًا لو قاتلنا هكذا في مأدبة الصيد.”
لكن بدلًا من الندم على الماضي، علينا الاستعداد للمستقبل. شعرتُ بأنني قد أتحسن قليلًا.
بدأتُ في تحليل القتال، أراجع أخطائي ونجاحاتي لهذا اليوم في ذهني.
في تلك اللحظة، اقترب فيرمونت، نظر إليّ من الأعلى، ثم سأل:
“هل تشعرين بتحسن الآن؟”
“هاه؟”
“جئتِ إليّ لأن شيئًا سيئًا حدث، مثل البارحة.”
“ليس بالضرورة… كيف عرفتَ؟”
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 56"