“…غير موجود؟ ما الذي تعنيه بذلك؟”
قد يكون الأمر مريحًا بالنسبة لفيرمونت، لكنني لم أكن أنوي إنهاءه بهذه الطريقة.
“سيظل هناك دائمًا في قصر الدوق غرفة دافئة مهيأة لتكون مناسبة للقطط. وسيتم تنظيفها كل يوم.”
قلت ذلك بنبرة حزينة وكأنني أحتج، بينما كنت أراقب تعابير وجهه بحذر.
عندها سألني فيرمونت:
“وبالطبع ستكون هناك وجبات خفيفة، أليس كذلك؟”
“بالطبع، هذا مؤكد!”
رددت بسرعة ورفعت رأسي، ظنًّا أن إجابتي كانت كافية لإقناعه.
أمال رأسه كما لو كان يفكر في الأمر، ثم تمتم قائلًا:
“حقًا لا يمكنني مجاراتك.”
“إذًا… ستأخذ قسطًا من الراحة ثم تعود، أليس كذلك؟ وخلال ذلك سترسل لي رسائل من حين لآخر، صحيح؟”
استغليت لحظة التردد التي أظهرها لأعزز طلبي مجددًا.
هبت نسمة خفيفة، وصوت أوراق الأشجار المتمايلة في الحديقة تسلل إلى الأجواء.
عندها قال فيرمونت، بابتسامة تنسجم مع الطبيعة:
“حسنًا، سأعود.”
وفورًا، تنهدت بعمق.
❈❈❈
استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى أدركت أنه عاد إلى عالم الشياطين.
“يا إلهي، إنه متعجل كما هو دائمًا…”
تمتمت بهدوء، وظللت أحدق طويلًا في الموضع الذي كان يقف فيه فيرمونت.
شعرت كما لو أن ثقبًا ضخمًا انفتح في قلبي. كان ذلك الفراغ مؤلمًا بحق.
رفعت يديّ عاليًا نحو الشمس الدافئة التي أشرقت عليّ بلطف.
بفضله، بفضل من ظل وفيًّا حتى النهاية كمتعاقد، اختفت آثار الجروح التي تكررت كلما استدعيت فيرمونت.
حتى هذه النهاية النظيفة… كانت تشبهه تمامًا.
بعد أن تنزهت قليلًا وحدي في الحديقة، عدت إلى الدفيئة حيث كانت الحفلة لا تزال على قدم وساق.
لكن هناك، وجدت وجهًا غير متوقع تمامًا. خرجت الكلمات من فمي بصدمة.
“هاه؟ أأنت…؟”
“الدوقة كرونهارت.”
كان وجهه كما عهدته دائمًا، يبتسم بخفة وتحمل نبرته مسحة من المزاح.
كان تريستان دايك، الذي لم أره منذ زمن طويل.
“ما هذا اللقب الرسمي؟”
كانت نبرته مهذبة تليق بحفل فاخر كمثل هذا، فأجبته أنا أيضًا بطريقة رسمية، وإن كانت غريبة عليّ.
كنت قد تلقيت منه دعمًا كبيرًا منذ بداية قضية المزاد المتعلقة بعائلة الدوق.
كنت أفكر به من حين لآخر، لكنني ظننت أن اعترافه لي يوم زفافي قد جعل العلاقة بيننا غير واضحة إلى حد يصعب التعامل معه.
كانت الدعوة التي أرسلتها إلى فرانسيس باسم عائلة دايك، وبما أن تريستان أيضًا من تلك العائلة، فقد كان بإمكانه الحضور بكل سهولة.
كنت أظن أن حضوره أمر مستبعد، لكنه جاء فعلًا.
حينها انتقلت نظراتي إلى جانب تريستان.
كانت تقف بجواره امرأة ذات ملامح هادئة مرتدية زيًّا رسميًا.
عندما التقت أعيننا، ابتسمت لي بانحناءة خفيفة.
بادلتها التحية بدوري، رغم الحيرة التي اعترتني.
لاحظ تريستان نظرتي المترددة، فابتسم وقال:
“إنها حبيبتي.”
“آه… هذا رائع حقًا.”
خرج تنهيدة طويلة من صدري تلقائيًا.
شعرت وكأن ثقلًا خفيًّا كان جاثمًا في قلبي قد زال فجأة.
كان اعترافه في ذلك اليوم مؤلمًا للغاية لدرجة أنني كنت أقلق بشأنه كثيرًا.
“أكنتِ تظنين أنني سأقضي حياتي كلها دون زواج وأموت وحيدًا؟”
سألني ساخرًا بنبرة رسمية، كأنه يريد تبديد سوء الفهم.
“ليس تمامًا، لكن… كنت قلقة من أن ذلك قد يحصل، ولو بفرصة ضئيلة.”
تنفّست بعمق عدة مرات وكأنني أزيح عبئًا كبيرًا.
لو كنت مجرد نسمة عابرة في حياته، فذلك جيد.
الآن أشعر أنني كنت أتوهم شيئًا لم يكن موجودًا.
ابتسمت وأنا أحدق في الاثنين معًا، متمنية لهما السعادة من أعماق قلبي.
“جئت فقط لأصطحب أختي، فلا تقلقي بشأن وجودي.”
“لا بأس، يمكنكما البقاء وقتًا أطول. تناولا من الطعام كما تشاءان أيضًا.”
شعرت أن الاستمرار في الحديث قد يزعج حبيبته، فتوقفت عند هذا الحد.
واكتفيت بترك آخر كلمات الشكر في قلبي.
“سمعت بشأن ما حدث مع عائلة الدوق. شكرًا لك على كل شيء خلال تلك الفترة.”
“أنا من أشكرك حقًا.”
لم أعرف ما الذي يمكن أن يشكره مني، لكنني ابتسمت.
عدت إلى رافائيل الذي كان يستقبل زبائن آخرين بقلب خفيف.
لم أدرك ما الذي جرى من حديث خلفي بمجرد مغادرتي.
❈❈❈
“إذًا، لقد انتهى أمرك أيضًا. لم تجد امرأة لتحضرها بصفتها حبيبتك، فطلبت من ابنة عمك أن تتظاهر بأنها حبيبتك؟”
قالت إيلينا، ابنة عم تريستان، ساخرة وهي تزفر ضحكة ازدراء.
كان من الطبيعي أن يكون موضع سخرية، فهو مشهور بكونه عابثًا، وها هو يطلب هذا الطلب من قريبة لا تربطه بها علاقة وثيقة.
“…قلتُ لك إنني لست مستعدًا نفسيًّا بعد.”
“أكنتَ تجرؤ على الوقوع في حب صاحبة السمو الدوقة؟ يا للوقاحة!”
تجاهل تريستان صوت إبنة عمة وحدّق في ظهر إنريكا.
كان يلوم نفسه، يتساءل لماذا كان لا بد أن تكون تلك المرأة تحديدًا.
ومع ذلك، لم يكن أحد يعرف السبب أفضل منه.
“تبدو في غاية السعادة الآن.”
“بالطبع، فصاحب السمو الدوق لا بد أنه يعاملها أفضل منك بكثير.”
ردّت إيلينا بسخرية لاذعة وهي تنظر إلى وجه ابن عمها البائس.
لقد رُفض للمرة الأولى في حياته، وها هو يُقدم على هذا التصرف لمجرد أن يريح مشاعر المرأة التي أحبها.
كان أمرًا لا تستطيع فهمه أبدًا.
فمدّ تريستان يده وعبث بشعر إيلينا.
“آه! ما الذي تفعله؟!”
“يكفي. هيا نذهب لنُرافق شقيقتي.”
❈❈❈
ربما بسبب لقائه بأشخاص من نوعٍ لم يعتد التعامل معهم، بدا على رافاييل بعض الإرهاق.
“آه، إنري…”
ابتسم بسعادة حين اقتربتُ منه، لكن ملامحه تغيّرت فجأة وهو يسأل:
“من الذي التقيتِ به؟”
“هاه؟ لِمَ تسأل؟”
“لأن رائحتكِ مختلف قليلًا عن المعتاد.”
هل يملك حاسة حيوانية؟ شعرتُ بالقشعريرة من الدهشة، وترددت في الإجابة.
لكن ترددي لم يدم طويلًا، فقد كنا قد تعاهدنا مؤخرًا ألا نخفي شيئًا عن بعضنا.
“فيرمونت عاد إلى عالم الشياطين. وبعدها التقيتُ بتريستان دايك… في الواقع، في يوم زفافنا، اعترف لي وطلب أن أهرب معه.”
أبديتُ صراحتي وأنا أندهش من نفسي، دون أن ألتفت حتى إلى ملامح رافائيل.
“طبعًا رفضته حينها، لكن بعد رؤيته اليوم، اكتشفت أنه وجد حبيبة جديدة. أليس ذلك جيدًا؟”
وما إن أنهيت كلامي حتى رفعت بصري ونظرت إلى وجه رافائيل.
يا إلهي… كارثة.
ذلك التعبير الذي رأيته لأول مرة جعله أول ما يخطر في بالي.
هل كان يجب أن أُخفي الأمر؟!.
لكن لا، لم يحن وقت الندم بعد، فبدأت أبرر بتوتر:
“في يوم الزفاف، لم نكن في حالة تسمح بالحديث أصلًا، وبعدها كنا مشغولين جدًّا… لقد نسيت الأمر تقريبًا.”
“فهمت.”
أجاب رافائيل بجملة قصيرة وبنبرة جامدة، ثم استدار مبتعدًا.
أصابني الذعر، فأمسكت بكمّ سترته.
“إلى أين تذهب؟”
“أليس الحديث قد انتهى؟”
لم أره يتصرف بهذه الطريقة من قبل.
بدا الوضع طارئًا وخطيرًا، فسرعان ما نظرت حولي.
لم يمضِ وقت طويل على عودتنا إلى الحفل، لذا بدا لي أن بوسعنا الغياب قليلًا. أمسكته من يده وسحبته مسرعة خارج الدفيئة.
“…ما الذي تفعلينه الآن؟”
حتى أثناء مشينا العاجل نحو الحديقة، كان صوته البارد خلفي يُشعرني بالخوف.
أوصلته إلى مكانٍ مهجور من الناس، وأجلسته معي فوق العشب.
كان المكان ذاته الذي طلب فيه رافائيل يدي للزواج قبل بضعة أشهر.
كانت الشمس تغرب ببطء.
ربما يكون الحفل قد شارف على نهايته الآن.
لكن لم أكن أرغب في إنهاء الحفل بصحبة رافائيل غاضب.
ترددت قليلًا ثم سألته بنبرة حذرة:
“هل غضبت كثيرًا؟ لم أرَك غاضبًا هكذا من قبل.”
رغم محاولتي التحدث بلطف، لم أحصل على أي رد.
هل كان رافائيل يغلق فمه عندما يغضب؟ لم أره غاضبًا من قبل، لذا لم أكن أعلم.
بدأت أشعر بالضيق تدريجيًّا.
أمسكت بذراعه وأرغمته على الالتفات نحوي والنظر في عينيّ.
“ما الذي—”
توقفت فجأة.
كانت عينا رافائيل محمرّتَين. فزعت ولوّحت بذراعيّ قائلة:
“ماذا… لا، الأمر ليس كذلك…”
“لستُ غاضبًا… بل خائف.”
أخيرًا أفصح عن مشاعره.
حدّقت به بدهشة، ثم أدركت.
أجل، هكذا هو رافائيل.
ذلك الأحمق الذي لا يدرك كم هو مميز.
وحينها، كان الحل واضحًا تمامًا.
أملت رأسي نحوه وقبّلته بخفة.
وبالكاد لاحظت ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيه.
“أنا أحبك أنت فقط، رافائيل. دائمًا كنت كذلك. هل تسمع دقات قلبي الآن؟”
كلام طفولي قليلًا، لكن إن أغرقته بالمديح، فلا بد أن يلين.
“بصراحة، من بين كل من حضر الحفل، كنتَ أنت الأجمل. شعرت بالفخر وكدت أطير من السعادة… أ—”
وكما توقعت، لم يُمهلني إكمال الحديث، بل كمّم فمي بشفتيه.
“…..”
وبعد مضيّ وقتٍ لا بأس به، رفع شفتيه عني ثم حملني بين ذراعيه.
“أعتذر… أزعجتكِ.”
قالها بنبرة خجولة، وكأنه يحاول الاعتذار.
ضحكتُ بخفة وقلت:
“إن كنتَ نادمًا، فعد بي إلى الدفيئة حالًا. قد يكونون قلقين علينا.”
وكان قصدي أن يُنزلني، لكنه هزّ رأسه رافضًا.
“سأذهب بهذا الشكل.”
“ماذا؟!”
“سأذهب وأعلن للجميع أنني أحبك. حتى لا تتكرر مثل هذه الحوادث أبدًا.”
ما الذي سمعته للتو؟.
نظرًا لشخصية رافائيل الهادئة، لم أكن أتصور أن يُقدم على شيء كهذا.
لذلك، أيقنت أنه جاد تمامًا.
“لااا! أنزلني!”
صحت وأنا أرفرف بساقيّ في الهواء.
< نِهاية القِصة الرَّئيسية >
__________________________________________
ترقبو الفصول الجانبية قريباً إن شاء الله.♡
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 120"