“إنريكا.”
رنّ صوتٌ عزيز مألوف داخل فضاءٍ يلفّه الضباب وتغشاه غشاوة رمادية.
كان من السهل إدراك أن ما يحدث الآن ليس إلا حلمًا.
وفجأةً، استعاد عقلي ذكرى. لقد حلمت بحلم كهذا من قبل، حتى قبل أن أستعيد قوتي السحرية.
حينها، كنت قد فقدت ذاكرتي بالكامل، فلم أتمكن من تمييز صاحب الصوت.
لكنّ الأمر كان مختلفًا الآن.
كيف لي ألّا أتعرف إلى هذا الصوت الذي أحنّ إليه بشدة؟
“…أمي.”
تمتمتُ شاردةً، ثم أفقت على الفور وشققتُ الضباب من حولي.
أسرعت في خطواتي، ألتفت يمنةً ويسرةً، أبحث بعينين متلهفتتين.
كنت أعلم أنها مجرد رؤيا، لكني أردت رؤيتها، ولو لوهلة.
كان الصوت قريبًا، ولكنني لم أتمكّن من العثور عليها رغم محاولتي.
وبينما أركض في الضباب القاتم بحثًا عن أمي، نطقتُ برجاء:
“لقد مر وقت طويل… أرجوكِ ، أظهري…”
لكن لم أجد حتى ظلًا يشبهها. وبدلًا من ذلك، جاءني سؤال، كأنّه ردٌ من بعيد:
“هل أنتِ سعيدة الآن؟”
توقفتُ فجأة عن الركض.
كنت أعرف جوابي سلفًا. هل جاءت فقط لتتأكّد من ذلك؟
إن كان الأمر كذلك، فيجب أن أجيبها بأقصى ما أملك من سعادة.
“نعم… أنا سعيدة جدًا.”
لا يزال الضباب يحجب الرؤية، لكن ثقلًا كان يجثم على قلبي قد تبدّد.
ثم استيقظتُ ببطء من النوم…
كان صباح يوم الحفل.
‘ يا له من حلمٍ غريب…’
هل كانت أمي ترغب في حضور الحفل أيضًا؟
كان صباحًا مختلفًا عن المعتاد. شعرت بانقباض خفيف في صدري ولم أرغب بالنهوض من السرير.
بينما كنت أحدّق في السقف شاردة الذهن، بادر رافائيل بتحيتي.
“هل نِمتِ جيدًا؟”
ثم، كعادته، طبع قبلة خفيفة على جبيني بعد التحية.
شعرت بدغدغة. ابتسمت بخجل وأومأت برأسي، ثم شعرت أن ثمة شيء غير طبيعي.
“ذهبتَ إلى ساحة التدريب مجددًا هذا الصباح، أليس كذلك؟! حتى أنك غيّرت ملابسك كي لا أكتشف الأمر!”
“…كيف عرفتِ؟”
الآن وقد نظرت إليه، بدا واضحًا أنه استحمّ لإخفاء آثار التمرين، فشعره كان ناعمًا. لكن لم يكن ذلك ما كشفه.
“أستطيع أن أرى أن ذراعك أصبحت أكثر امتلاءً من الليلة الماضية. قلتُ لك إن النوم لا يقل أهمية عن التدريب…”
رغم ملاحظتي، لم أستطع إخفاء نظرة الرضا التي تسللت إلى وجهي.
وسرعان ما استغل رافائيل نقطة ضعفي قائلًا:
“ما زال الوقت باكرًا… يمكننا الاسترخاء قليلًا بعد.”
ثم جذبني برفق لأستلقي على ذراعه المتينة. كان الإحساس بعضلاته الصلبة يدعوني إلى الاستسلام للنوم مجددًا.
لكنني طردت شعور النعاس وتذكّرت الحفل المنتظر اليوم.
لقد مرّ الوقت بسرعة خاطفة. مضى شهران منذ أن أخبرني فيرمونت بأنه سيرحل.
وخلال هذه الفترة، شغلت نفسي بالكثير من الأمور.
أولًا، أنقذت ضحايا المزاد، وساعدتهم على التعافي جسديًا ونفسيًا.
بعضهم أدلى بشهادته أمام المحكمة، مما سهّل محاسبة النبلاء المتورطين.
وفي الأوقات المتبقية، تعلّمت إدارة شؤون الدوقية، وقمت بتوظيف خدم جدد، ودرست أساليب إدارة الإقليم.
وصارت أيّامي مزدحمة لا مجال فيها للراحة. ناهيك عن أنني كنت مسؤولة عن تنظيم الحفل اليوم.
“سيكون يومًا حافلًا إذًا.”
“لكنه سيكون ممتعًا أيضًا.”
حين لاحظ رافائيل القلق في نبرتي، بادرني بكلمات باعثة على الطمأنينة.
حين رأيت وجهه المتفائل، استجمعت قواي ونهضت من السرير دفعة واحدة.
“همم، ما الذي عليّ فعله الآن؟”
لكن ما إن نطقت بذلك، حتى أدركت أنه لم يعُد هناك وقت للتباطؤ.
سيُقام الحفل في دفيئة الحديقة.
ونظرًا لبرودة نهاية الخريف، كنت أنوي توزيع أحجار سحرية صغيرة تمنح الدفء بدلًا من المدافئ.
ليست باهظة الثمن، لكنها تمنح الدفء طيلة مدة الحفل، وتصلح كهدية أيضًا.
وقد صنعتُ تلك الأحجار السحرية بنفسي.
اليوم عليّ التأكد من أنها تعمل جيدًا، بالإضافة إلى مراجعة الزينة وتنسيق المقاعد.
“آآه، ساغادر الآن. وداعاً حبيبي ، أحبك!”
ودّعته بتلك العبارة التي لم تَعُد تُشعرني بالحرج كما في السابق، وغادرت الغرفة.
أما رافائيل، فنهض أيضًا وارتدى زيه الرسمي، ولوّح لي مودّعًا.
❈❈❈
وكأنّ المخاوف التي راودتني كانت بلا داعٍ، فقد جرت الاستعدادات للحفلة بسلاسة.
وحين أنهيتُ تفقد كل شيء بدقة، وأعددتُ نفسي أيضًا، بدأ الضيوف بالتوافد شيئًا فشيئًا.
وكان من بينهم وجهٌ مألوف أبهجني رؤيته.
“يا إلهي، يعقوب! أتيت إلى الحفلة!”
إنه الفتى الذي أنقذناه، سارة وأنا، في أول مأدبة حضرناها.
كنتُ قد أرسلت دعوةً قبل عدّة أشهر إلى الأطفال الذين التقيتُ بهم في البرج.
ولأنّهم على الأرجح يحملون ضغينة ضد النبلاء، ظننتُ أنهم قد لا يحضرون هذه الحفلة.
لكنّ يعقوب جاء مع الفتى الذي ساعدني في البرج.
“مرحبًا، سموّكِ. أشكركِ جزيل الشكر على دعوتكِ لنا اليوم.”
تحدّث الفتى ممثلًا عن الأطفال. وبما أنني أذكر أسلوبه الجاف سابقًا، فقد بدا تغيّره هذا لطيفًا للغاية.
“هاها، لا بأس، تحدّث براحتك. لا أحد هنا سيؤنبك.”
وحين قلت ذلك لأريحه، أجابت فتاةٌ كانت تقف إلى جانبه بدلًا منه:
“لكن يا أختي، لقد قضى أخي الليلة الماضية بأكملها يتدرّب على هذه التحية!”
“أوي، كفّي عن الكلام، أرجوك!”
ضحكتُ مطولًا على حوارهما الظريف، ثم انتبهتُ إلى أمرٍ تغيّر.
فالفتى المريض الذي كان يسعل بعد كل جملة، يبدو أنّ سعاله قد خفّ كثيرًا.
كنتُ قد طلبت من طبيب عائلة الدوق أن يهتمّ به خصوصًا، ولحسن الحظ، بدا أن الأمور تحسّنت.
وفي تلك اللحظة، تقدّم يعقوب خطوةٍ وقال لي:
“شـ… شكرًا، جزيلًا.”
وبفضل الفتى الذي كان يعرف أنّ يعقوب من جزيرة أجنبية، وجدنا طريقة للتواصل معه بصعوبة.
وحين عبّر يعقوب لاحقًا عن رغبته في تعلّم لغتنا، بدأ مؤخرًا بأخذ دروس لذلك.
رغم أنني سمعت بالأمر مسبقًا، فإن رؤيته يتحدّث أمامي كانت مدهشة ومؤثرة.
كنتُ أودّ لو أضمّهم جميعًا إلى صدري، لكن قد يشعرون بالحرج.
فقررت أن أملأ أطباقهم بنفسي بما لذّ وطاب.
“هيا، كلوا قدر ما تشاؤون اليوم! خذوا من هذا، ومن ذاك!”
“إنه كثيرٌ جدًّا، أختي!”
وبينما كنت أراقب الأطفال يأكلون حتى امتلأ بطونهم، التفتُّ حولي.
وفي غمرة اعتنائي بهم، كانت أعداد الضيوف قد زادت بشكلٍ ملحوظ.
رأيت صوفيا وفرانسيس يتبادلان الحديث بودّ.
“هل ما زلتَ لا تريد لقاء تلك الآنسة؟”
“نعم، أبدًا! لا أريد أي علاقة بها مطلقًا!”
تذكّرت حين ظننت أن صوفيا هي البطلة الأصلية، وحديثي مع فرانسيس آنذاك، فابتسمتُ لنفسي.
لم أكن أتوقع أبدًا أن الأمور ستؤول إلى هذا الحال.
هرولتُ بخفة نحو الاثنين الذين أحبّهم، وسألت:
“عن ماذا تتحدثان؟”
الحفلة المليئة بمن أحبّ، كانت ممتعة لأقصى حد.
الجو معتدل ومنعش، والموسيقى عذبة، والأطعمة شهية ومتنوعة.
وحين وصلت الحفلة إلى منتصفها وبلغت أوجها، استطعت أخيرًا العثور على بطل هذا اليوم المخفيّ.
“فيرمونت!”
كان على هيئة قطة، وقد اختبأ في ركنٍ ناءٍ من الحديقة، خارج الدفيئة، لأنه لا يحبّ نظرات الآخرين إليه.
وقد عانيت في البحث عنه بسبب ذلك.
وحين رآني، قفز نحوي بفرح.
“هل تستمتع بالحفلة؟ لقد خُصص هذا اليوم لكَ منذ البداية.”
“أنا راضٍ تمامًا. وأنتِ، ماذا عنكِ؟”
“أنا أيضًا أستمتع.”
كان الطبق الذي بجانبه مليئًا بأصناف الأطعمة البحرية.
لم أستطع كتم ابتسامتي، لكنني فجأةً شعرت بالهدوء.
فقد تذكرت أن فيرمونت سيعود إلى عالم الشياطين بعد انتهاء هذه الحفلة.
ويبدو أنه كان يفكر في الأمر أيضًا، إذ لم ينبس ببنت شفة. مشينا معًا مبتعدين عن الدفيئة، داخل الحديقة.
“هذا…”
وحين هممتُ بالكلام، فاجأني فيرمونت -وقد عاد إلى هيئته البشرية- بإمساكه بيدي.
دهشت من تصرفه المفاجئ، لكن سرعان ما اتّسعت عيناي دهشة.
فالندوب التي تركتها الجروح التي تسببتُ بها أثناء استدعائي له، والتي بقيت آثارها باهتة على يدي، بدأت تختفي شيئًا فشيئًا.
وبما أن فيرمونت ليس من الأرواح المتخصصة في سحر العلاج، فلا بد أن هذا قد استهلك الكثير من طاقته السحرية.
هل كان يتدرّب على هذا النوع من السحر لأنه انشغل بتلك الندوب؟
وبعد أن زالت الندوب تمامًا، ترك يدي وقال:
“انتهى كل شيء، إنريكا.”
“……”
“لن أكون موجودًا بعد الآن، لذا… عيشي دون أن تراق دمائكِ مجددًا.”
قال ذلك بصوتٍ غمره التحرّر والسكينة.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 119"