حين شارفت حكاية رافاييل على نهايتها، كانت عيناي منتفختين من كثرة البكاء.
تلك كانت محبة وُلِدت في صمت، في لحظات لم أكن أعلم بوجودها.
قصة تتغلغل فيها مشاعر أطول وأشد مما توقعت.
حتى في أكثر أوقاتي بؤسًا، كان هناك من يحبّني بذلك القدر.
لو أنني أدركت في وقت أبكر أنّ الحب قد يكون كذلك، وأنّ هناك من أحبّني حقًا، لكان الأمر مختلفًا…
“لا تبكي أكثر من ذلك.”
كم راق لي صوت رافاييل العطوف في تلك اللحظة.
رغم كل ما عاناه، لا يزال قادرًا على منح الحب للآخرين.
أظنّني سأظلّ أحبه إلى الأبد.
لكن ما يحزّ في نفسي أنني لا أملك أي ذكريات عن طفولتي.
رافاييل في صغره؟ لا بدّ أنه كان لطيفًا وظريفًا إلى حد لا يُصدق.
لكن، بعد وفاة والدتي، صُدمت لدرجة أنني فقدت معظم ذكرياتي السابقة.
“أمّي… أفتقدها.”
تمتمت فجأة.
في الحكاية التي رواها رافاييل، كانت أمّي شجاعة وحنونة إلى حد لا يُوصف.
لكنني الآن لا أستطيع احتضانها، ولا حتى التحدث معها.
كل ما يمكنني فعله هو أن أعيش كل يوم بشجاعة.
حتى إذا التقيت بها مجددًا يومًا ما، سأتمكن من سرد كل ما فات بصوتٍ مفعمٍ بالحياة.
رافاييل احتواني بين ذراعيه كمن فهم تمامًا ما يجول في خاطري.
حضنه الذي كان باردًا لكنه يمنحني الطمأنينة، أصبح الآن دافئًا أيضًا.
ذلك الاختلاف منحني شعورًا بالرضا، فضحكت بهدوء وغرقت في أحضانه أكثر.
ويبدو أنني غفوت دون أن أدرك ذلك.
❈❈❈
“هممم…”
استيقظت بعينين مثقلتين بالنعاس، أبحث عن رافائيل كعادتي.
بما أنّ الشمس لم تشرق بعد، قررت أن أحتضنه وأنام قليلًا بعد.
لكنني لم أجده، رغم أنني تحسست الفراش مرارًا.
عندها فقط أدركت غيابه، فنهضت من السرير بشعرٍ أشعث.
“رافائيل؟”
ناديت اسمه، لكن لم تأتِ أي إجابة، مما يعني أنّه ليس في الغرفة.
هل ذهب إلى المكتب أو ساحة التدريب باكرًا هكذا؟
لقد استمر حديثنا حتى قرابة الفجر، لذا بالكاد حصل على قسط من النوم.
–طق، طق.–
في تلك اللحظة، وصلتني أصوات عبر النافذة.
كان المطر يتساقط بخفة.
ما إن أدركت ذلك، حتى شعرت بقلقٍ خفيف يتسلل إلى صدري.
رافائيل كان يقول إنّ جسده يضعف دائمًا في الأيام الممطرة،
وأنه كثيرًا ما يرى الكوابيس حين يحلّ الليل.
“إلى أين ذهب يا ترى؟”
ارتديت معطفًا بسرعة فوق ملابسي الخفيفة وخرجت من الغرفة.
ولم يكن من الصعب العثور عليه.
حين مررت من الباب الخلفي المؤدي إلى حديقة الدوقية،
لفت انتباهي ظلّ ضخم يصعب تجاهله.
هل كان رافائيل مهتمًا بمشاهدة الحديقة من قبل؟
تساءلت باستغراب، ثم فتحت الباب.
“رافاييل؟”
نعم، كان هو.
ربما لأنه الصباح، كانت خصلات شعره مبعثرة قليلًا،
وكان يرتدي قميصًا خفيفًا بدلًا من زيه الرسمي.
يبدو أنه كان يقف تحت مظلة صغيرة فوق الباب، يتأمل البعيد متجنبًا المطر.
“لكنه لا يزال وسيمًا كعادته…”
كتمت ابتسامة ارتسمت تلقائيًا على وجهي، وسألته بنبرة فضول:
“ماذا تفعل هنا؟ إنها تمطر أيضًا.”
ما إن أتيت حتى التقت نظراتنا، وكان قد أدار ظهره لي.
بدت عليه علامات الارتباك، مما زاد فضولي.
“هل كنت غير مرتاح بالنوم معي؟ هل هذا ما أخرجك في هذا الوقت الباكر؟”
“يستحيل أن يكون ذلك، إنري.”
ردّ على مزحتي بنفس السرعة المعتادة،
لكنه تردّد حين تعلق الأمر بالإجابة عن سبب وجوده هنا.
ظننت أنّه ربما يحمل همًّا في قلبه،
فهممت بمغادرة المكان من أجله.
“إن لم تكن ترغب بالكلام الآن، فخذ وقتك… سأذهب أولاً…”
لكن رافائيل أمسك بمعصمي بلطف ومنعني من التحرك.
“ابقِ بجانبي، إنري.”
رفعت نظري إليه بدهشة، عندها فقط فتح فمه وقال:
“ذلك الحلم الذي كنت أراه دائمًا في الأيام الممطرة… رأيته مجددًا الليلة.”
“…”
“لكن هذه المرة، شعرت أنّها ستكون المرة الأخيرة.”
كان صوت رافائيل يرتجف بخفوت شديد، بالكاد يُلحظ لمن لم يصغِ بانتباه.
“طوال الوقت، ما إن أفتح عيني حتى أنسى محتوى الحلم تمامًا…”
أصغيت له بصمت، أُمهله الوقت ليكمل حديثه على مهل.
“لكنني رأيتكِ اليوم في الحلم.”
عندها بدأت أدرك ما الذي ينوي قوله.
بدت على رافائيل ملامح التعب، فبقي صامتًا طويلًا قبل أن يتمتم أخيرًا:
“صورة موتكِ بين ذراعي… ربما كانت صادمة إلى درجة أنّ حتى السحر الأسود لم يستطع محوها من ذاكرتي. لذا لا بدّ أنّكِ ظهرتِ في أحلامي كل تلك المرات.”
شعرت وكأن آخر قطعة في أحجية مشاعري قد استقرّت أخيرًا في مكانها.
تذكرت تلك الليلة الأولى من زواجنا، حين استيقظت على همهماته وسألته عنها.
“أين أنت الآن؟”
“في الشمال… أضم امرأة تموت بين ذراعي.”
إذًا كان قراري ذاك جرحًا عميقًا له، لم يندمل قط.
وقد ظل يعاني في دوامة من ذكريات الماضي التي لم أعد أتذكرها أنا نفسي.
لكنني أدركت أنّ الكابوس قد انتهى، وأن المطر سيهدأ قريبًا.
“هل أنت بخير؟”
أومأ رافائيل برأسه. كانت عيناه لا تزالان مبللتين.
لم أحتج إلى وقت طويل لأتخذ قراري. أمسكت بيده وقُدته خارج المظلة.
“…ماذا تفعلين؟ إنري، إن ابتللتِ ستمرضين.”
“وماذا لو مرضت؟ لم يعد هناك ما يستدعي العجلة، أليس كذلك؟ لم أعد أملك زوجًا على وشك الموت!”
قلت ذلك بنبرة مرحة وابتسمت عن عمد أوسع ابتسامة.
“تلك الأحلام لن تعود إليك مجددًا. ولن تعاني في الأيام الممطرة بعد الآن، مما يعني أنك ستتمكن من القيام بأشياء أكثر.”
“……”
“رافائيل، هل تعرف كم هو رائع أن تشرب شوكولاتة ساخنة وتقرأ كتابًا في يوم ماطر؟”
حدّق فيّ بدهشة دون أن يردّ.
“أو أن تدفئ جسدك بحساء كريمي مطهوّ على نار هادئة… أو حتى تستنشق رائحة الغابة المبللة بالمطر.”
“يبدو… رائعًا حقًا.”
“إذًا، فلنخُض في المطر الآن. ستحبّه كما أحببت كل تلك الأشياء.”
شدَدتُ على ذراعه أكثر هذه المرة.
وأخيرًا، بدأ جسده يستجيب ويتحرك، بعدما ظلّ جامدًا لوقت طويل.
تمسكت بيده بقوة، وركضت به إلى الخارج، أضحك كطفلة تنوي اللعب.
كانت قطرات المطر الباردة تنطّ على ساقيّ كلما خطوت.
سرعان ما خلعت معطفي، ولم يبقَ عليّ سوى فستاني البنفسجي الرقيق.
دخلنا أعمق الحديقة، في موضع لم يكن يمر به أحد.
كانت الشمس تشرق ببطء، بينما ظلّ المطر يتساقط ويتلألأ تحت ضوءها.
كان مطرًا شمسِيًّا، يُطلق عليه اسم “مطر الثعالب”.
وامتلأت الحقول بأزهار برية نمت دون أن تمسّها يد بشر.
مشهد فاتنٌ للغاية.
بدأت أركض وأدور تحت المطر، أشم عبير الزهور.
ثم رميت جسدي عمدًا في بركة ماء صغيرة، وشرعت ألعب برذاذها.
كان وجه رافائيل لا يزال متجهمًا، لكن رؤيتي بتلك الحالة جعلت ملامحه ترتخي تدريجيًا.
“تعال بسرعة، رافائيل!”
دعوته، فاقترب مني متظاهرًا بالعجز عن الرفض.
“تعالَ نرقص…– كياا!”
فجأة، رفعني بين ذراعيه من تحت ركبتيّ وألقى بي في الهواء.
“هل هذا ممتع حقًا؟”
سألني ثم بدأ يدور بي كما يفعل الآباء مع أطفالهم.
كانت الدوّامة أسرع وأقوى بكثير من رقصي وحدي، مما جعلني أضحك وأصرخ في آن واحد.
“آه! هاها… كفى، كفى!”
حين تعبنا من الركض، جلست على الأرض في الحقول وأنا أتنفس بصوت مرتفع.
كم مضى من الوقت منذ أن ضحكت من قلبي بهذا الشكل؟
“……”
وبينما كانت الأزهار تملأ المكان، خطرت لي فكرة، فبدأت أحرّك يدي بنشاط.
اقترب رافائيل مني وراح يراقب أصابعي تعمل.
“ما هذا؟”
“إنها تاج زهور. إذا ربطتِ السيقان بهذا الشكل، يمكنك صنع أساور وخواتم أيضًا.”
بدا أن الشرح راق له، فأراد أن يصنع شيئًا بنفسه، وبدأ يحاول بحذر.
كان منظره وهو يعبث بالزهور لطيفًا على نحو غريب.
ثم كسر الصمتَ صوته المنخفض:
“من البداية، كان زواجنا خطأ. حتى لو كنت خائفًا من أن تتركيني، لم يكن ينبغي أن أكذب.”
“……”
“أفكّر الآن أنّني، سواء في الماضي أو بعد عودتي بالزمن، كنت مشغولًا بإخفاء الأمور لدرجة أنني لم أطلب يدك بشكل لائق قط.”
كانت نبرة صوته تعبّر عن ندم عميق. تبادلنا النظرات.
“أنا سيئ في هذه الأمور، ولا أعرف كيف أقولها. ربما سيبدو طلبي سخيفًا جدًا، لكن…”
انحنى رافائيل برأسه وابتسم بخجل. كانت أذناه تزدادان احمرارًا مع ارتفاع الشمس في السماء.
“تزوجيني، إنري.”
ثم وضع في إصبعي البنصر الأيسر خاتمًا مصنوعًا من زهرة يانعة.
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 117"