على أي حال، سنيور، وقد أفزعه الآسيويّ ذو الشعر الأسود المتحدث عن “الطاقة”، نهض سريعًا واتجه إلى الخارج.
‘لا إلى المرحاض… أم إلى أين؟’
في الواقع، الحصول على الماء ليس بالأمر الهيّن هنا.
فهناك ماءٌ جارٍ، لكنه لا يجري جيدًا.
وهو غير نقيّ.
إنه في الأساس ماء نهر التيمز، المليء بالمجاري.
في أبتون يمكن شرب ماء النهر، أما هنا…
‘نغليه، لكن هل يجدي ذلك؟’
تبعته بقلق، فرأيته يغمس يده في نافورة وسط الجامعة.
“أيها الكبير…؟”
“نعم؟”
ألا ترى الماء بعينيك؟
إنه متّسخ.
بل حتى قبل أن تراه، رائحته تفضحه.
“الماء الجاري، أليس هذا هو؟”
آه، خطأي.
زلّ لساني.
الماء الجاري… نعم، ما كان عليّ أن أقولها هكذا.
“حسنًا… انتظر قليلًا فحسب.”
“حسنًا، كما تشاء.”
أظنّ أن عينيّ دارتا قليلًا، لكن لسببٍ ما صار مطيعًا.
لا أدري، أهو خائف بعض الشيء؟
صعب التحديد.
قوة الآسيوي ذي الشعر الأسود ما كان ينبغي أن تبلغ هذا الحدّ.
على كلٍّ، هو أمر حسن.
أستطيع معرفة التفاصيل لاحقًا.
إنقاذ حياة المرء هو الأهمّ الآن.
ففكّرت في ذلك، وغليت الماء لتصفية الشوائب.
“أتريد أن تصبّه؟”
“لا، عليك أن تدعه يبرد أولًا. إن صببته هكذا… ستحترق.”
“آه، صحيح. مفهوم.”
“لكن…”
“نعم؟”
“لمَ أنت متحمّس إلى هذا الحد؟ أعني، التقينا اليوم فقط، أليس كذلك؟”
“آه.”
حين قلت ذلك، تردد سنيور لحظة، ثم همس قائلًا:
“حسنًا… الأعراض التي ذكرتها قبل قليل… مات صديقي بها.”
“ماذا؟ مات؟”
“ليس صديقي وحده… بل يموت بعض الناس هكذا كل عام.”
“ماذا… ماذا تقول؟”
“ألست تعلم؟ الطلاب في كلية الطب يموتون هكذا أحيانًا. ظننت أن السبب هو الهواء الرديء هنا. لقد مات عدد غير قليل من طلابنا.”
“أووه…”
فهمت.
الناس يموتون، وما زالوا يُجرون تلك التدريبات!
هؤلاء المجانين…
حتى لو قلنا إنهم من زمنٍ محدود العلم، فلا يمكن وصفهم بالمستقبليين.
لكن إن كانوا يُسمّون أنفسهم علماء، أفلا ينبغي أن يكونوا قادرين على التفكير ولو إلى الوراء؟
إن استمرّ الناس يموتون هنا، ألا يجدر بهم التساؤل عن السبب؟
“لكن ليس الهواء، بل الطاقة، أليس كذلك؟”
“آه.”
كدتُ أتحول إلى الطالب الذي يصفع أستاذه.
موروها. يعني من العصبية على تخلف الدكاترة هديهم قلم
في مثل هذه الحالات، ربما يجوز لي أن أصفعه حقًا…
“لكن، أهذا القدر من الغسل يكفي؟”
“همم، لا. عليك أن تفرك أكثر. سيؤلمك، لكن هل تستطيع التحمل؟”
“لإزالة الطاقة؟”
“…”
ما زلت لم أجد كلمةً أفضل من “الطاقة”، فهززت رأسي مؤيدًا.
ثم فركتُ موضع الجرح بقوة بالماء المغلي.
“آه… آه! إنه ينزف!”
“الطاقة تخرج مع الدم.”
“آه، واو… فهمت. لكن لا رى سوى الدم الأحمر فحسب؟”
أ
“لو كانت الطاقة تُرى، أكان الناس يموتون عاجزين هكذا؟”
“آه، صحيح. ليست مرئية…”
نظرت من حولي دون وعي.
خشيت أن يكون أحد يراقبنا.
لكنها لندن القرن التاسع عشر، والناس الذين أعرفهم لم يُولدوا بعد.
بل لست واثقًا حتى أنّ هذه الأرض هي الأرض نفسها.
ثمة نظريات عن الأكوان الموازية، أليس كذلك؟
“وهل عندك كحول؟”
“كحول؟ لماذا؟ أيفيد شرب الكحول؟”
“الكحول المقطّر نافع لتنظيف الجروح.”
“الكحول…؟ تعني الذي نستخدمه لإشعال النار؟”
“آه، إن كان عندك منه فهو أفضل.”
طبعًا، فرك الجرح بالكحول مباشرة ليس فكرة حسنة.
فالكحول يُطهّر جيدًا، لكنه يضرّ بالأنسجة أيضًا.
إن فركته مباشرة، فغالبًا سيتلف النسيج المحيط تلفًا دائمًا.
لكن هذا أفضل من الموت.
ولأن الكحول غير متاح الآن، واصلت صبّ الماء المغلي لتطهير الجرح.
“آه، آهـه!”
“أتؤلمك؟”
“آه، تؤلمني!”
“اعتبرها الطاقة تصرخ.”
“آه… هذه الطاقة قوية حقًّا!”
“أرأيت؟ لكن بهذه الطريقة ستنجو. ربما لا يكفي مرة واحدة، فلنفعلها كل يوم.”
“كل يوم؟!”
“نعم. واحذر أن يمسّها شيء، خصوصًا الماء هناك. “
“آه، حسنًا.”
ربما صدمة موت صديقه جعلته يطيعني جيدًا.
بل أكثر من ذلك، حتى بعد عودتنا إلى الصفّ، لم يتركني وشأني وأنا أدرس مع جوزيف.
وحين تساءلت عن سبب تصرفه هذا، التفت إليّ فجأة وقال:
“هيه، إن لم يكن الأمر مزعجًا… أودّ دعوتكما.”
“دعوة؟”
“نعم، إلى بيتي.”
لابد أنه قلقٌ جدًا.
يريد أن يبقي قسًّا آسيويًّا يطرد الطاقات الشريرة قريبًا منه.
“وأين بيتك؟”
“هاه؟ آه، في كنسنغتون.”
“لنذهب.”
كما تدين تُدان.
سألته عن مكان بيته فقال كنسنغتون.
بمفهوم سيول، ذاك أشبه بكانغنام، لا، تشونغدام أو أبغوجونغ؟
لا، لا، هذا عاديّ جدًا.
‘ربما هاننام-دونغ… أشبه بقرية الأمم المتحدة.’
سنيور ثريّ إذًا.
وأنا أودّ المبيت هناك أيضًا.
سكننا أشبه بالجحيم.
“هاه؟ سنذهب؟”
قال جوزيف ببراءة وهو يرمش بعينيه، لكن ذلك لم يكن مهمًّا.
“لنذهب. إلى كنسنغتون.”
“كما تريد.”
هذا الفتى يفعل كل ما أقوله.
إنه ولد طيب.
“إذن، ألنذهب الآن؟”
سنيور بدا لطيفًا كذلك.
أو ربما سهل الانقياد.لفصل التاسع
“هيه، سنيور!”
“ما الأمر؟ ما بالك؟ أتشعر بالألم؟”
ليس بي ألم، الأمر وما فيه هذا العالم ليس الناس كلهم من البيض، فثمة أيضًا أناس من العِرق الأصفر.
“الهند… لا أظنّك من الهند، أأنت كذلك؟”
على الأقل، أدرك أنني لست من الهند.
في الحقيقة، ما يقلقني في لندن هو أن يظنّ هؤلاء أنني من الهند.
طبعًا، طبقة النبلاء في الهند ظلت على ولائها لإنجلترا منذ زمن بعيد، وكثيرٌ منهم يأتون إلى هنا للدراسة.
ومن بينهم، بطبيعة الحال، كثيرون أكثر تكبّرًا من الإنجليز أنفسهم.
لكن أنا… لا أبدو هكذا، أليس كذلك؟
لذا كنت قلقًا، غير أنّ هذا السنيور الذي جُرحَت يده أدرك باهتمامٍ عجيبٍ الفارق في ملامحي وملامحعم.
“نعم، أنا من جوسون. كيف عرفت؟”
“آه، عائلتي تعمل في التجارة. في الواقع، ليست عائلتي تمامًا، بل عائلة عمي. على كل حال، كانت لديّ حدس فحسب.”
آه، إذًا هو من أهل التجارة.
لهذا بدا أقلّ تعصبًا من غيره.
يُعاملني كغريب، نعم، لكنه لا ينظر إليّ كما لو كنتُ شيئًا من الأشياء.
حسنًا، ما دامت الحال هكذا، فلعلي أُسعفه.
ولو أني لست واثقًا من نجاته.
“آه، نعم. لكن… ألم تُصَب أثناء التدريب؟”
“بلى. غير أنه… لا يبدو جرحًا خطيرًا. أنا بخير.”
لا تقل ذلك.
لا تقل إنك بخير…
‘ستموت يا رجل.’
‘لكن، ماذا عساني أقول؟ كيف أجعله يتلقى العلاج؟’
“في جوسون، نقول…”
“هاه؟”
في الحقيقة، قبل أن آتي إلى هنا، وبعد أن شهدت عملية البتر الصادمة تبك، سألت الكبار عن حال الطبّ في هذا العصر.
فكان أمرًا مدهشًا.
لا منطق لديهم.
بل في بعض الوجوه، كأنهم تراجعوا إلى الوراء عن العصور الوسطى أو حتى القديمة.
أولئك الذين يُسمَّون علماء أو أطباء عقولهم مغلقة تمامًا.
ربما لو باعوا علمهم نصفيّ النضج ذاك في جوسون، لكان أجدى!
“ثمّة مهن تتعامل مع الجثث. أليس عندكم مثلها؟”
“بلى، موجودة. لكن… لمَ؟ غايتنا تختلف عن غايتهم.”
عادةً ما يحتقر الناس المهن التي تمسّ الأجساد الميتة إذا لم يكونوا يعرفونها حقًّا.
ويبدو أنّ هذا الرجل يرى مثلهم، إذ عُقد وجهه.
ولئلّا تزداد الأمور سوءًا، تابعت سريعًا:
“أولئك الذين في تلك المهن… إن جُرحَت أيديهم، لا يعملون.”
“هاه؟”
“لأنّ ثمة خرافة تقول: إن لامس الجسد الميت الجرح، مات صاحبه.”
“آه؟ ما هذا الكلام؟ أتقول إنّ هذه خرافة؟ أتعني أنني سأتعرّض للَّعنة أو ما شابه؟”
“لا، لا، ليس كذلك.”
تبا.
في لحظة جعلني أبدو دجالاً.
أنا رجل معمد بعلم القرن الحادي والعشرين، أفلا تعلم؟
بنية دماغي تختلف عن بنيتكم تمامًا.
“من خلال الجرح، الجثةُ…”
لكن من العسير شرح الأمر لشخصٍ يجهل كل شيء.
بكتيريا؟
في عصرٍ لم يُبتدع فيه بعد مفهوم الكائنات الدقيقة، لو تحدّثتُ عنها…
ـ “احرقوا ابن الشيطان!”
ـ “إنه شيطان من الشرق!”
لربما صرتُ بطلَ مهرجانٍ لندنيٍّ غير متوقّع.
“ذلك… الطاقة الخبيثة.”
“همم.”
الكلمة التي تعبت في انتزاعها كانت “الطاقة”، وما إن لفظتها حتى ندمت.
لكن الغريب أنّ وجه السنيور تبدّل وصار جادًّا حين سمع كلمة “الطاقة”.
لعل السبب أنّ الطبّ في هذا العصر يتحدث بجدٍّ عن أنّ الهواء الفاسد أو المياه الجوفية الملوّثة تُسبب المرض.
على أية حال، لقد نفع الأمر.
‘أحقًا… نفعت؟’
لو أنني صدمتُ بشاحنة ثانية، هل كنت لأعود؟
فكّرت في ذلك جديًّا لبرهة، لكن بما أنني هنا، عزمت أن أعيش كما ينبغي.
لقد دار فكري في حلقات كثيرة حتى الآن، فلم يستغرق القرار وقتًا طويلًا.
“الجثث تبثّ طاقةً خبيثة. وإذا تأملت الأمر، أليس ذلك بديهيًّا؟”
“همم… يبدو قولًا معقولًا.”
قول معقول؟ هراء!
استخدام كلمة “الطاقة” بهذا الشكل لا يمتّ للمنطق بصلة.
لكنني، خلافًا لما في نفسي، لبستُ أَجَدَّ وجهٍ جادٍّ في العالم، وأرجعتُ شعري الأسود الغامض إلى الوراء، ومضيت أقول:
“لذا، أولًا، اغسل يديك بسرعة. لقد رأيت من مات بعد أن لمسته جثة ويده مجروحة…”
ما رأيت ذلك قطّ.
في كوريا القرن الحادي والعشرين، حتى غير المتخصصين في الطبّ تلقّوا تعليمًا كافيًا يجعلهم حذرين.
وفوق ذلك، في كوريتنا العظيمة لدينا المضادات الحيوية، أليس كذلك؟
حتى لو ازدريتَ البنسلين، فلدينا ما هو أقوى منه بكثير. لا يمكنك أن تموت من مجرد لمس جثة، حتى لو رغبت.
‘أعمل يا دماغي!’
كيف أشرح هذا له؟
“أولًا، الجرح سيحمرّ ويتورم.”
“همم.”
“ثم سيصيبك الحمى… وسينتفخ جسدك، وتفقد وعيك، وفي النهاية تموت.”
“آه… فهمت. إذًا ماذا… ماذا عليّ أن أفعل؟”
تخيّلت ما قد يحدث إن لم يُعالج الجرح وأدى إلى تعفّن الدم.
ولحسن الحظ، ما زالت الحقيقة الأبدية قائمة: الكذبة المفصّلة تجدي نفعًا حتى في إنجلترا القرن التاسع عشر.
“أولًا، اغسل يديك.”
“أغسل؟”
“آه… أعني افركهما تحت ماءٍ جارٍ.”
حقًّا؟ أتجهل معنى غسل اليدين؟
أيها الأحمق… لقد درست الطبّ عامًا أو عامين على الأقل، أليس كذلك؟
أو لعل هيبة الآسيوي الغامض تعمل عملها.
ربما عليّ أن أبتكر إختراعا ما…
كالمروحة؟
نعم، مروحة.
ذاك جيّد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"