الفصل الثامن.
“لا ينبغي أن تتحدث مع مريض على هذا النحو.”
قال الطبيب سيميل ذلك وأنا كنت أسأله عمّا يؤلمه.
أيّ مجنون هذا؟
ينبغي أن نعرف موضع الألم قبل أن تغرز إبرك القذرة في بطنه، أيها الأحمق.
“…”
في داخلي كنت هادئاً متّزناً، لكن لم يكن بوسعي أن أُظهر ذلك للخارج.
فالأطباء هم تجسيد لتلك التربية القائمة على التلمذة، أليس كذلك؟
وإن كنت في الحقيقة لست بحاجة إلى التعلّم من أمثالهم…
لكن، لعلّ هذه المدرسة هي الوحيدة التي قبلت طالباً آسيويّاً وأتاحت له أن ينال رخصة الطب.
“لا، تمهّل قليلاً.”
في تلك اللحظة، تكلّم الدكتور ليستون.
ورغم نبرته الهادئة، ارتجف سيميل وتراجع خطوة إلى الوراء.
كان لا يزال قابضاً على السكين، وهذا ما يبرّر خوفه،
فقد كانت تتقاطر منها قطرات دمٍ حمراء.
وأقول الحق، حتى أنا تراجعت خطوتين.
ـ لو قال كلمة أخرى، لقطعتُ ساقه أوّلاً ـ
لم يكن هذا النوع من التفكير غريباً في جوّ كهذا.
“أنت تسأل بأسلوبٍ متقن. يبدو أنّك تعلمت في جوسون، أليس كذلك؟ شيء جديد؟”
لحسن الحظ، كان الدكتور ليستون مفعماً بروح الفضول العلمي.
هو في ذاته تجسيد لتلك النزعة الاستقصائية.
وقد سمعت أنّ السكين التي يحملها ليست إرثاً عائليّاً، بل صنعها خصّيصاً بطلبٍ منه.
سكين ليستون الشهيرة.
تبدو كسلاحٍ من لعبة بلود بورن*، لكنّها في الحقيقة مشرط جراحي قادر على بتر ساق إنسان في أقلّ من ثلاثين ثانية.
م. لعبة فيديو أكشن من طراز الـار بي جي
وحين تأمّلت ذلك، لم أدرِ أكان يُثني عليّ أم يتهكّم، لكنّها كانت عادته المعهودة.
“جرّب أكثر قليلاً.”
“نعم، يا أستاذ.”
حين يأمرك الرجل الذي يحمل السكين بأن “تجرّب أكثر”، فماذا عساك تفعل؟
لا أحد يجرؤ على الاعتراض.
رمقني سيميل بنظرةٍ متردّدة بين السكين وبيني وبين المريض، ثم عضّ شفته بقوّة.
كأنّ في صدره كلاماً يريد قوله، لكنه يخشى أن يُحدث جلبة.
حسنٌ، كان ذلك لمصلحتي، فقد ربحتُ بعض الوقت.
“أيها المريض، سأضغط الآن على بطنك.”
“آه…”
بطبيعة الحال، كان الوقت ثميناً لي وحدي،
أما المريض فكان يبدو أسوأ حالاً من ذي قبل.
هل يمكنه النجاة؟
‘على الأرجح لا…’
قد يقول قائل: “كيف لطبيبٍ جرّاح أن يستسلم بهذه السهولة؟”
لكنّ سيميل قال إنّ هذا المريض يشكو آلاماً في بطنه منذ أسبوعٍ كامل.
وفي هذه المرحلة حتى التهاب الزائدة قد يودي بالحياة.
نحن في القرن الحادي والعشرين نستعين بالمضادات والعلاجات الحديثة،
أما هنا، في لندن القرن التاسع عشر، فكلّ ذلك غير متاح.
“هل يؤلمك؟”
“… يؤلم، يؤلم.”
“وحين أترك يدي؟”
“آه!”
“هذا ليس جيّداً.”
ضغطتُ على الجهة اليمنى السفلى من بطنه ثم رفعت يدي، فتأوّه المريض تأوّهاً أشدّ حين رفعتها، ومن ذلك كان يسيراً أن أستنتج أنّ جوف بطنه في فوضى عارمة.
ولو شققناه الآن؟
أما سيكون ما في الداخل خراباً تامّاً؟
“ليس بالأمر الجيّد، أليس هذا واضحاً؟ لهذا ينبغي أن نسحب الدم أولاً لتخفيف الورم.”
وبينما كنت غارقاً في التفكير، كان الدجّال بجانبي، سيميل، يثرثر كالببغاء.
آه…
لو كنت أنا ليستون، لضربتُ رأسه بسكين ليستون نفسه.
لا، لا يجوز ذلك طبعاً، فهذا عصر تُطبَّق فيه القوانين الصارمة.
“ماذا لو فتحنا البطن؟”
وجّهتُ السؤال إلى الدكتور ليستون، لا إلى سيميل المتخرّج من جامعة باريس.
فهذا الرجل، رغم مظهره، مملوء بروح المغامرة.
ألن يشقّ البطن إذن؟ هاه؟
هيا، لنشقّه!
“لا تتفوّه بالحماقات. هذا محرّم.”
أوه…
لم أتوقّع أن يكون محافظاً إلى هذا الحد.
“محرّم؟ لأيّ سبب؟”
سألته بنبرةٍ حذرة خشية أن أثير غضبه.
“إذا شققتَ البطن مات المريض. يموت بحمّى غريبة.”
“حقّاً…؟”
أيها المجنون، ذلك لأنكم تعبثون في جوفه بسكينكم القذر.
لو غسلتموها بالماء وعقّمتموها بالنار قليلاً لما ماتوا هكذا.
‘لا، أتراني مخطئاً؟’
توقّفتُ عن التفكير، ونظرتُ إلى يديّ.
للعين المجردة كانتا نظيفتين تماماً.
بل إنّي غسلتُهما بالصابون، فلا بدّ أنّ معظم الجراثيم قد ماتت.
لكن هل يمكن أن أقول إنّهما معقّمتان؟
هل هما طاهرتان بما يكفي لأدخلهما في جسد إنسان؟
ولا قفّازات معقّمة لدينا… سألجأ إلى يديّ العاريتين.
“لا حاجة لأن تخفض رأسك هكذا. الجهل ليس خطيئة، ما دمتَ طالباً مبتدئاً.”
قال ليستون ذلك وهو في مزاجٍ طيّب، فيما كنت أتأمّل يديّ.
وليس هذا بالأمر النادر؛ فالأساتذة عادةً ما يسرّهم أن يهابهم طلابهم.
وما دام قد ظنّ بي ذلك الظن، فليكن، سأتظاهر بالطاعة.
“على أيّ حال، أصغوا إليّ جميعاً. لا تلمسوا البطن. لكن… أسلوب فحصك كان جديداً. تحديدك الدقيق لموضع الألم… حتى وإن لم نتمكن من الجراحة، فمعرفة هذه الأمور نافع.”
“نعم، سنحفظ هذا عن ظهر قلب!”
كان أسرع المجيبين ذلك الفتى الثريّ.
لا أدري إن كان ثريّاً حقاً، لكنه بدا كذلك في ملبسه ولهجته.
“إذن، نكتفي بهذا اليوم. غداً سأختبركم فيما تعلّمتم اليوم، فراجعوا جيّداً.”
“نعم، يا أستاذ!”
بهذه الكلمات أنهينا الحصّة وخرجنا من الجناح.
غير أنّ في النفس شيئاً من الأسى.
ذاك المريض…
لو أنّي رأيته منذ البداية، لربّما كان له أمل.
بل حتى الآن، رؤيتي له خير من تركه على حاله.
نعم، خير.
‘لكن لا أستطيع أن أجزم مئة في المئة… وفوق هذا، ليست عندي قفّازات.’
الحق أني لم أتقدّم أكثر لأنّي لست واثقاً تماماً من قدرتي على النجاح.
في كوريا، إن أخطأ طالب فالأمر مصيبة،
أما هنا؟
وخصوصاً وأنا الآسيوي الغريب في السنة الأولى؟
سيكون ذلك سبباً كافياً لجلب المتاعب.
“بيونغ.”
“هاه؟”
كنتُ أهمّ بالرحيل حين ناداني جوزيف.
“درس التشريح اختياري اليوم، فلنذهب.”
دعاني إلى الجحيم.
لا، جوزيف… ذاك المكان هو الجحيم بعينه.
“درس التشريح؟ ألا ينبغي أن نطالع الرسوم أولاً؟”
“الرسوم؟ تقصد الكتب؟ أتظنّ أنّ هذا أفضل؟”
“بالطبع، يجب أن تعرف ما الذي تعبث به، لا أن تخوض عشوائياً، أليس كذلك؟”
“وماذا عن الضفدع، كيف يكون هذا عبثا ؟ لقد.جربنا تشريح الضفدع وهو حي ورأينا قلبه ينبض وأحشاءه تتقلّب!”
جوزيف… هذا الرجل…
هو في الأصل خبير جراحة ضفادع، يستطيع تشرّيح ضفدع بيده اليسرى إن شُلّت اليمنى.
لكنه يعمّم الأمور وكأنّها سواء.
“هل البشر كالضفادع؟”
“آه… لعلّك محق. حسناً، فلنطالع الكتاب أولاً.”
الحمد لله، جوزيف ليس عنيداً أكثر من اللازم.
“ذلك الفتى، يتظاهر بالجدّ أمام الأستاذ، فإذا غاب لا يجرؤ أن يدخل قاعة التشريح.”
قالها أحدهم بسخرية.
كان الفتى الثريّ نفسه.
ما عساني أفعل؟
أأحطّمه بالعلم؟
أستطيع، لكن…
‘ربّما لا يفهم شيئاً، فلا يكون للأمر أثر، ثم يغضب ويشتكي لأبيه…’
وماذا لو صاح قائلاً«ثمّة وثنيّ آسيوي في المدرسة!»؟ “
حتى لو تدخّل الأستاذ، فهذه لندن لا أبتون،
وفيها عائلات لا تقلّ نفوذاً عن عائلته.
“لِمَ تختلق شجاراً، يا رجل؟ إن رغبت بالدخول فادخل وحدك. أأنت خائف؟”
لحسن الحظ، جوزيف ذو طبعٍ ناري أيضاً.
فما لم تكن من أولئك العباقرة، فلن تبلغ شأن الدكتور ليستون.
ومع ذلك، فحتى وإن كان أقصر منه، فإنّ جوزيف يتجاوز المئة وخمسة وسبعين سنتيمتراً،
أما هؤلاء الأقزام فلا يزيدون على المئة والستين بالكاد.
“خائف؟ بل متضايق من تصرفاتك، أيها الأصفر.”
“إن نعتَ بيونغ بالأصفر مرّة أخرى…”
“وماذا؟ أتضربني؟”
“إن ضربتك، قد تموت. حينها تصبح جثةً للتشريح بدلاً من أن تُمارس عليه.”
قويّة…
يا لجوزيف، ما أحرّ كلماته!
“أنت…”
لكن رجل لندن المهذّب لا يستطيع مجاراة أبناء أبتون،
إلا إن كان من أحياء فقيرة.
“لـ…”
“ماذا؟ تبكي؟ أتعرف كيف تعمل الغدد الدمعية قبل أن تبكي؟”
“آه…”
“سأذهب لأدرسها أنا، وأنت ابكِ هنا حتى تعرفها بنفسك.”
ربّت جوزيف على كتف الفتى الثريّ وسار نحو القاعة، فتبعته دون أن ألتفت، رغم أني سمعت خلفي شهيقاً خافتاً من البكاء.
كان الأمر مرضياً، لكني لم أرد أن أُشعل ناراً أخرى.
دخلنا القاعة التي تملؤها الكتب.
هي تُسمّى قاعة محاضرات، لكنها لا تضمّ أكثر من عشرين طالباً، فتبدو أشبه بمختبرٍ صغير.
“من هنا إلى هنا مسموح لنا بالمطالعة…”
“كتاب تشريح غراي… ليس موجوداً طبعاً.”
“هاه؟”
“لا شيء، لا تهتم.”
كنت أتوقّع وجود كتب التشريح، لكن لم أجد سوى بعض المجلات الرديئة الطباعة، ورغم أنّ رسومها كانت متقنة، إلا أنّها لم تُظهر سوى العضلات، ولا ذكر فيها للأعضاء الداخليّة أو الأعصاب أو الأوعية الدمويّة.
‘هل أرسمها بنفسي؟’
جوزيف…
أدين له بالكثير، فقد أنقذني من الجوع والضرب،
وفي المقابل، زرعتُ فيه حلماً بأن يصير جرّاحاً… حلماً سابقاً لعصره.
والآن، لا يسعني إلا أن أردّ له الدين.
فأصنع منه طبيباً بحق.
‘لكن ماذا أقول وأنا أرسم؟’
هذا من شعوذة جوسون…
وهنا هنري غراي*، أبو التشريح…
م. والزهراوي يا عيال الكالسيوم تراه مؤسس التشريح بكبره!
يا أيها الناس، هذا هو تشريح غراي!
أيمكن أن أنجو بذلك؟
لو فعلتُ، لساقوني إلى الساحة وأحرقوني حيّاً بوصفـي ساحراً… بل ابنًا للشيطان نفسه.
‘وفوق هذا، لا أتذكّر الرسوم كلّها لأرسمها بلا مرجع…’
إذن عليّ أن أكون عبقرياً في درس التشريح.
عندي المهارة، وربما أقدر على الرسم إلى حدٍّ ما، لكن…
‘أن أدخل هناك وألمس جثةً متعفّنة بيديّ العاريتين…؟’
أمرّ مقزّز.
لكن طالما أنّ طلاب الطب لا يبدون خائفين كثيراً من التشريح، فلعله ليس بتلك الخطورة.
“هيه، أأنت بخير؟”
ارتفع صوتٌ خلفي، فالتفتُّ لأرى طالباً كبيراً ينزف من يده.
كانت الرائحة وحدها كافية لأعلم أنّها من قاعة التشريح.
“آه… لا بأس.”
“ليست إصابةً خطيرة. هذا حسن.”
لا، ليس بحسن!
أتُراك جُرحتَ وأنت تلمس جثّة؟
ستموت حقّاً يا هذا…
“أوقف النزيف وعدْ إلى الداخل.”
“حسناً، سأفعل.”
لا، لا تفعل.
لا ينبغي لكم أن تفعلوا هذا أبداً…
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"