الفصل السادس
كان ما كُتب على اللوح الأسود المتهالك بعض الشيء في علم التشريح… مقنعاً على نحوٍ غير متوقّع.
لقد أدهشني ذلك حقاً.
‘لا سيّما… ما يتعلّق بأطراف الجسد، فقد كان بالغ الإتقان.’
‘أكان السبب أنّه اعتاد قطعها؟’
إنّ تشريح الذراع والساق كان بمستوى عالٍ.
والحقّ أن تشريح الأطراف أيسر من سواه، إذ لا أعضاء داخليّة فيه، بل عضلات وعظام وأربطة فحسب.
غير أنّ ما رأيته من قبل كان صادماً إلى حدٍّ يجعل امتلاك هذا الأستاذ لهذه الدرجة من المعرفة أمراً عجيباً عندي.
“حسناً، ما عرضناه اليوم لم يكن سوى لمحة عامّة. فلننتقل الآن إلى معمل التشريح.”
“نعم، أيّها الأستاذ!”
وبعد حديثٍ متواصل دام قرابة ساعتين بغير انقطاع، مضى الدكتور روبرت ليستون مباشرةً إلى معمل التشريح.
‘بحسب مقاييس القرن الحادي والعشرين… ألسنا مجرّد طلّاب تمهيد للطب؟’
طالب تمهيدي يشرع في تدريبات التشريح؟ أيُّ وتيرةٍ جنونية هذه؟
‘لا بأس.’
لم يكن ثمّة متّسع للشكوى.
ولم يكن من الممكن أن يكون.
فكُلّ ما يخطر ببالي هو أن أصبح طبيباً بأسرع وقت، وأن أنير هذا العصر البدائي.
وليس ذلك بدافع العلوّ أو الكِبر، ولكن لأنّ معرفة هذا الزمان بالطبّ ضئيلة أشدّ الضآلة.
“هلمّوا، ادخلوا.”
“أوه…”
“أوه…”
حتى معمل التشريح ذاته كان مثيراً للسخرية.
‘أيّ عقلٍ في الأرض يرضى أن يدخل الناس معمل تشريح بثيابهم العاديّة؟ ومع هذه الرائحة الكريهة؟
أكانوا عاجزين عن التفكير بأبسط درجات الكمال؟’
“ما بالكم واقفين؟”
“نعم… حاضر.”
بطبيعة الحال، لم يكن بوسعي أن أقول ما في نفسي.
فهكذا كان حال القوم هنا، وأخطر من ذلك أنّ الدكتور روبرت ليستون كان مهيباً مرعباً.
‘لو امتنعتُ عن الدخول، ماذا عساه يصنع؟ أألقى حتفي؟’
‘لا… لا. إن نحن باشرنا ذلك بأيدينا العارية… لهلكنا نحن أيضاً.’
حين دنوتُ من سائر الطلّاب الذين سبقونا بسنة أو سنتين، متبعين الدكتور ليستون، علمت بالفطرة:
إنّ جثّةً معروضةً على هذا النحو تُنبت شتّى الجراثيم، فإن أصابتنا، أهلكتنا.
لا مضادّات حيويّة في هذا الزمان، ولا تعقيم حقيقيّ.
والذي أبقى الناس أحياء إلى الآن – وفي مقدّمتهم الدكتور ليستون –ليس إلّا محض حظّ.
“اليوم ستراقبون فقط. فالجراحة الأوّلى أعسر ممّا تبدو.”
كان الأمر المطمئن الوحيد أنّه لن يتوجّب علينا لمس الجثّة اليوم.
“هذه هي الساق. وهذا العضو من الجسد أكثر ما نجري فيه العمليات. لقد أبصرتم من قبل، أليس كذلك؟ سنقطع الفخذ هكذا.”
حتى الطلّاب الأقدم لم يُسمح لهم بالممارسة اليوم.
ضغط الدكتور ليستون بيدٍ على الفخذ، ثم شقّ اللحم والعضل بضربة سريعة من يده الأخرى.
‘مجنون.’
فحتى لو كان جسداً ميّتاً، لا ينبغي أن يُشقّ النسيج بهذه السهولة.
“أستطيع بتر جسدٍ حيّ في ثلاثين ثانية. وعليكم ألّا تتجاوزوا خمس دقائق، وإلّا قضى المريض نحبه…”
لمحتُ الوجوه حولي مشدوهة بمهارة سكين الدكتور ليستون العجيبة.
أمّا جوزيف، فقد تمتم كعادته: “أودّ أن أصير مثله.”
غير أنّ دهشتي كانت من أمرٍ آخر.
صرير—
انفتح الباب.
في ذلك الموضع، اقشعرّ بدني.
“أيّها الأستاذ، لدينا مريض.”
لكنّ الداخل كان مألوفاً لديّ.
لا أعرف اسمه، غير أنّه مساعد الدكتور ليستون.
“حقّاً؟ فلنذهب إذن.”
وما إن ذكر المريض حتى تناول الدكتور ليستون بكل بساطة المشرط الذي استعمله آنفاً، وتبعه مساعده.
-طهّره على الأقل!
أردتُ أن أصرخ، غير أنّ…
جسده هائل.
وفوق ذلك، بيده سكين.
‘أن أراه يجرح غيري شيء، وأن يمسّني بها شيء آخر!’
‘السبيل الوحيد لتغيير هذا كلّه أن أصير طبيباً ذا شأن، فأُصلح ما أراه.’
أمّا الآن، فلم يكن لي خيار.
لستُ نبيلاً عظيم المنزلة، إنّما غريب من المشرق.
وجودي هنا لم يكن إلّا بفضل آل ليستَر، وغرابة تسامح الدكتور ليستون.
‘أفأغضبُه؟ ذلك محال.’
“ما بالكم واقفين؟ اتبعوني!”
إذ سرحتُ في خواطري، صاح بنا المساعد.
‘آه… أفنحن أيضاً ذاهبون؟’
إذن، ليس ثمّة مرحلة تمهيدية في الطب، بل يباشر المرء الممارسة السريريّة فوراً.
وهذا منطقيّ، فالمدارس الطبيّة لم يطل عهدها، بل الأعجب أن يكون لها منهج منظّم.
وفي “أبتون”، كان غير الأطبّاء – ممّن لا يصلحون البتّة – يعالجون المرضى.
فإن كان ذلك في لندن، فكيف بسائر البلاد؟
على امتداد بريطانيا، لا يكاد يكون ممّن يعالجون المرضى من درس الطبّ أصلاً.
“آه، لعلّها أوّل مرّة لكما هنا؟”
وما أسرع ما بلغنا المستشفى. لقد كان متّصلاً بالمدرسة تقريباً.
“نعم.”
قال المساعد مخاطباً جوزيف بلهجة ودّ، كأنّه يعرف أنّه ابن بيتٍ ثري.
وهذا بديهيّ، فقد دفع مالاً وفيراً ليلتحق.
“في لندن من المرضى ما يملأ المستشفى دائماً. مشقّة عليهم، ولكنها لنا فرصة عظيمة للتعلّم.”
“أوه…”
وأشار المساعد بعينين يلمع فيهما الحماس إلى أرجاء المستشفى.
كلّ غرفة تضمّ عشرة إلى عشرين مريضاً.
بل إنّ غرفة بستّة أسرّة قد تُعدّ مزدحمة، فكيف إذا حُشر فيها عشرون؟
وإذ عبرنا، أبصرتُ رجلاً ممسكاً بطنه يتلوّى ألماً.
لم يُشخّص بعد، غير أنّه بيّن أنّه يحتاج إلى جراحة.
أهو حدس الجرّاح؟ لا، بل أمرٌ يراه كلّ ذي عينين.
“آه… آااه!”
“يا أستاذ—”
“لستُ أستاذاً، إنّما مساعد للدكتور ليستون.”
فناديتُه بالأستاذ، وإن كنتُ أعلم أنّه ليس كذلك.
فالناس يطربون حين يُرفعون في اللقب، ولا سيّما إن كانوا تابعين لغيرهم.
وأعرف ذلك، إذ كنتُ مساعداً، فإذا قيل لي “أستاذ” سرّني.
‘إنّه يبتسم.’
حقّاً، ارتسمت على وجهه ابتسامة.
“نعم، أيّها المساعد. ذاك الرجل هناك… يتألّم أشدّ الألم. هل هو بخير؟”
“هم؟ أين؟ آه، هناك؟ تلك ليست حالة جراحية.”
“هاه…؟”
ليست جراحية؟
والرجل يتلوّى على الأرض ممسكاً بطنه؟ وهو على شفا الموت؟
وربّما قرأ المساعد ملامحي فقال باستخفاف:
“سوف يُعالجونه لاحقاً. وإن كنتما تطمحان للجراحة، فلا بأس أن تراقبا، فلن يُبالي أحد.”
“آه…”
“اذهبا وانظرا. يشرف عليه البروفيسور سيميل من باريس. وهو من المتمرسين حقّاً.”
“آه، باريس…”
باريس إذن؟
ولندن على هذا الحال، فكيف بباريس أن تكون أنظف؟
ما كان لي أن أتوقّع خيراً.
فمضيتُ مع الدكتور ليستون إلى فناء المستشفى.
لم يكن الأمر خطّةً، بل هكذا جرت بنا الأقدام.
‘تبا!’
عاد المساعد يقول حين رآني متحيّراً:
“إنّكما محظوظان. فعمليّات البتر ليست مألوفة بهذا القدر… آه، أتذكران ذلك المريض الذي رأيتماه من قبل؟”
‘لا تذكر لي أناسا قد ماتوا، فلن يجرّ ذلك عليّ إلّا كآبة.’
لقد غدوتُ طبيباً لأنقذ الناس، ثم أستاذاً لأنقذ أكثر.
“إنّه حيّ، ومنذئذٍ والمرضى يتقاطرون إلى الدكتور ليستون.”
“ماذا؟ لقد نجا؟”
“نعم، نجا. أليس خبراً سارّاً؟”
‘نجا؟ بعد أن سُقي خمراً قسراً، وبُترت ساقه بسكّين قذر؟’
“أين… أين هو الآن؟”
“ربّما في بيته قريباً من هنا. لِمَ تسأل؟”
“كنتُ أودّ أن أزوره.”
أيُّ قوّة تلك التي يحملها جسد الإنسان ليحتمل مثل ذلك؟
————————
يسوي عملية بسكين قطعت جثة؟؟؟؟ حتى اطباء بني عباس في العصور الوسطى ما سووا هيك!
———
ترجمة موروها
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"