الفصل الخامس: القبول في مدرسة الطب
فجأةً، وثب عليّ قومٌ ذو ملامحٍ خشنةٍ فأمسكوني.
“لا بدّ أن نقطع ساقك! أترى؟ لقد تعفّنت، أليس كذلك؟”
وما إن صاحوا بذلك، حتى رأيت الدكتور روبرت ليستون، وبغير تطهيرٍ ولا تخدير، يلوّح أمام عيني بسكّينٍ ملطّخةٍ بالدماء.
كان الرجل أطول مني بكثير، غير أنّه بدا في هذا اليوم أشبه بالعملاق.
أأقول كان بحجم بيتٍ كامل؟
“سينتهي الأمر في ثلاثين ثانية.”
لكن حين قال إنّه سينتهي، خُيّل إليّ أنّما يقصد حياتي هي التي ستنتهي.
“هلمّ بنا نقطع؟”
رفع الدكتور روبرت ليستون سكّينًا يليق بضخامة جسده، ثم هوى به نحوي.
“أ-أرجوك، أنقذني، سحقا!”
صرختُ واستيقظتُ لأجد وجه جوزيف محدقًا بي.
كان ينظر إليّ بعينين مملوءتين بالشفقة.
“ما الذي تفعل بحق خالق الجحيم؟”
بحق خالق الجحيم؟
هل قال حقًا “بحق خالث الجحيم”؟
كنت قد خرجت للتوّ من حلمٍ عجيب.
وبالطبع لم أقل ذلك بصوتٍ مسموع.
لو قلتُ مثل هذا، لظنّ الجميع أنّي أحمق، أليس كذلك؟
فلو أنّ أعظم جرّاح في زمانه، الدكتور روبرت ليستون نفسه، قال إنّه سيبتر ساقي، لوجب عليّ أن أقبل ممتنًّا ولا أصرخ.
“لقد رأيتُ حلمًا غريبًا.”
“أأنت بخير؟ تبدو أرقَّ حسًّا مما تبدو عليه.”
‘أرقّ حسًّا؟’
‘آه….’
حتى وأنا طالب طب، كانوا يقولون إنّي جرّاحٌ بالفطرة.
في تدريبات التشريح، وحتى حين أُساعد في غرفة العمليات، لم أكن أتوتر قط. لم أُخطئ يومًا، بل أديت كل شيء بإتقان.
“منذ ذلك اليوم، صارت تراودك الكوابيس بكثرة، أليس كذلك؟”
‘أقرّ بذلك.’
‘حتى أنا، كانت تلك الجراحة صادمةً حقًا.’
‘أنت مدهش بحق……؟’
‘حتى لو لم يكن لك أدنى علمٍ بالطب، أما كان المشهد وحده مرعبًا؟’
‘كيف تنام ملء جفنيك دون شرابٍ أو مسكّن؟’
‘حقًا….’
‘لعلّك جرّاح بالفطرة كذلك.’
‘ولأن كان أطباء هذا العصر موضع شكٍّ إن كانوا حقًّا يعالجون الأمراض أو ينقذون الأرواح، فقد كنتَ جسورًا.’
“ما زلتَ تنام جيدًا.”
“نعم، حسنٌ أن تنام جيدًا. وإن كنت تُجهد نفسك بسببي، فلا حاجة. فالجرّاح لا ينال أجرًا وافرًا، أليس كذلك؟”
“آه، نعم، سمعتُ ذلك أيضًا.”
كنتُ مولعًا بالجراحة حتى بدوتُ إنسانًا آخر.
حتى في كوريا، لم تكن الجراحة ميدانًا ذا مستقبلٍ باهر.
تذكّرتُ ما قاله رئيس القسم: بينما يقود الأطباء الآخرون سيارات مرسيدس أو بي إم دبليو، على الجرّاح أن يُعدّ نفسه لقيادة سوناتا إن أراد ولوج هذا المجال.
ومع ذلك، فالجرّاح طبيب، وله حدٌّ أدنى من المكانة.
‘لكن في هذا العصر، حتى ذلك لم يكن موجودًا.’
‘بل كان الجرّاحون أقلّ الناس أجرًا في المستشفى.’
‘لا مقارنةً بالأطباء فحسب، بل أقلّ حتى من عمّال المستشفى.’
“لو تفكّر في المال، فالأفضل أن تعمل مع والدي.”
كان جوزيف مصيبًا.
لو فكرتُ في المال، فالأولى أن أحمل جرار النبيذ.
وقد ترددتُ في ذلك زمنًا.
‘أفأختار الطب الباطني إذن؟’
الطب الباطني.
كان يُنظر إليه بعينٍ أرفع.
‘لكن حين بحثتُ فيه، علمت أنهم لم يسمعوا حتى بالدكتور فليمنغ مكتشف البنسلين؟’
م. ناشب في كل مكان حتى في الطب، واللي ما يعرفه تذكر معي قاعدتي فيلمينغ لليد اليمنى واليسرى
يعني ذلك أنهم بلا مضادّات حيوية، فبأي أمراضٍ يتعاملون؟
‘وفوق ذلك، كان علمي بالباطنة محدودًا للغاية.’
فقد نسيتُ كل ما درسته وأنا طالب، إذ كنتُ متفرغًا لأصير بروفيسور جراحة.
ثم بلغني أنّك إن بلغت مهارة الدكتور روبرت ليستون، كسبت مالًا وفيرًا.
وإن كان راتب المستشفى ضئيلًا، فالمرضى يدفعون.
‘أيمكنني… أن أصير الأفضل هنا؟’
كل ما تحتاجه رخصةٌ فقط.
وكان هذا فكري.
“لا، سأكون جرّاحًا.”
“حسنًا، شكرًا لك. فلنعمل معًا إذن.”
“حسنًا. أنذهب الآن؟”
“نعم، هلمّ بنا.”
فما أسرع هذا الرجل حين وصلنا إلى أَبتون، إذ قدّم طلبه في الحال.
وبفضل الدكتور روبرت لِيستون، الذي بدا مستعجلاً – ولعلّه كان بحاجة إلى مال الرعاية – تمكّنا من الالتحاق بمدرسة الطب على الفور.
وكيف كان شأن السكن؟
ذهبنا لنراه مرة، لكنهم سمّوه سكنًا، وما هو إلا جحيمٌ، فتركناه.
ولو علمنا بما تكون عليه بيوت الإيجار في لندن، لدخلنا بلا تردّد.
فقد كنا في جحيمٍ تحت الجحيم.
“احذر.”
“نعم. أترى وجهي؟”
“لا. لكن ماذا ستفعل حين يأتي الصيف؟”
“لكلّ حادثٍ حديث.”
ولحسن الحظ، لم يكن حيًّا فقيرًا خالصًا.
ولقد ظننتُ أنه لا بأس أن نعيش في حيٍّ بائس ما دمنا شبابًا بلا مال.
لكن حين سمعت أنّ تسعين بالمائة من الجثث التي تُستعمل في دروس التشريح تأتي من الأحياء الفقيرة، لا المستشفيات، تركتُ الفكرة سريعًا.
وبالطبع، لم تكن أحياء الناس العاديين مريحة.
“أوه…”
“وطئتُ نجاسةً.”
“ستزول بالمشي.”
“تبا・・・・・・”
كانت الأكوام النجسة متناثرة في الطرقات مشهدًا معتادًا.
م. دا تلطيف الاوروبيين وخصوصا لندن لغاية حريق لندن العظيم كانو عايشين في قمة القذارة
وتساءلتُ أول الأمر لمَ يتغوّط الناس أمام بيوت غيرهم.
وإذ كنتُ آسيويًا، وجوزيف من الكويكرز، خفتُ أن نكون هدفًا.
لكن ظهر أنّ قضاء الحاجة في كل مكان عادةٌ يومية، وما كان أمام البيوت إلا محض صدفة.
وما كان ذلك مريحًا.
قومٌ لا حياء لهم.
“لا تنظر في عيونهم.”
“نعم، أسرع الخُطا.”
وأيمكنني حقًا أن أصفهم بالقوم الساقطين؟
بل هو أمرٌ أكبر من ذلك.
لم يكن مهمًّا أنهم لا يفهمون سبابي بالكورية.
فلا ينبغي لك أن تُطيل النظر في وجوه العمال المملوءة سخطًا.
ولِمَ؟
لأنك قد تموت.
“آه… وصلنا. أأكون متوترًا كل مرة أذهب فيها إلى المدرسة…….”
لستُ أدري أأعدّه حظًّا حسنًا أم لا.
لكن الكلية كانت قريبة على الأقل.
كان يجب أن أطمئنّ كلما رأيتُ البوابة.
غير أنّ الطمأنينة لم تدم إذ سرعان ما انقلبت يأسًا.
“آه… ها نحن ذا.”
أما جوزيف فكان وجهه مشرقًا.
‘لا شك أن عقله مملوءٌ بالزهور.
مع أن حاله قد صار أسوأ، كيف يبتسم هكذا؟
أولًا، الرائحة نتنة.
لقد وطئتَ نجاسةً آنفًا.
وليست نجاسة كلبٍ، بل نجاسة إنسان!
صرير-
وما لبثنا ونحن نمشي متثاقلين حتى بلغنا قاعة المحاضرات.
فلما فتحت الباب، وجدتُ نفرًا من الفتيان.
وبما أنّ نظام القبول لم يكن مستقرًا بعد، كان ثَمَّ رجال أكبر سنًّا، بعضهم فوق الثلاثين.
وكانوا تعارفوا قبل دخول كلية الطب من خلال صفوف تمهيدية.
“مرحبا. اسمي جوزيف ليستر، من أَبتون.”
وكان لزامًا أن نعرّف بأنفسنا.
فلو بدأتُ أنا، لاشتبهوا في أمري، لذا كان جوزيف يتقدّم.
ومع ذلك، كانت العيون كلّها عليّ.
وبعد أن فرغ جوزيف، عرّفني كذلك:
“هذا صديقي اسمه تاي بيونغ، وللتخفيف قولوا بيونغ……. أبواه كانا في طريقهما إلى ماكاو مع الأب آيدن تيرنر، فانتهى بهما المقام في لندن، وهو رجل من جوسون نشأ هنا. قد يبدو مختلف الوجه، لكنه بريطاني مولودٌ وتربى هنا.”
كان لا بدّ من ذكر خلفيةٍ موجزة.
ولو قلنا إنّه استقرّ بمعونة كاهنٍ إيرلندي كاثوليكي، لربما بدا غريبًا لكن دون عداوة.
ثم إنّ هؤلاء طلاب طب، يطمحون لإنقاذ الأرواح، أليس كذلك؟
“أيُّ بريطانيٍّ هذا وهو آسيوي؟ أهذا معقول؟”
آه، بدا أنّ الأمر ليس كذلك.
التفتُّ فرأيتُ شابًا متعجرفًا جالسًا.
نعم، لعله في سني.
“ما شأن هذا القرد….”
لم أجب، بل أخذت أتفحّص هيئته.
‘ملابسه؟ فاخرة.’
ومع أنّ جودة الصناعات ترتفع بفضل الثورة الصناعية، إلا أنّ الفاخر لا يُضاهى.
لا سيما المواد التي يجلبها نبلاء الإمبراطورية البريطانية من أقطار الأرض.
‘وشعره أيضًا… هذا الفتى…. لعله ابن ثراء.’
وكان هذا مقلقًا.
في هذا الزمان، قد يستعمل الأثرياء القوّة إن أرادوا.
أما في أَبتون، فكان جوزيف درعي، لكن هنا…….
صرير!
وفيما أنا أُفكّر، انفتحت الباب فجأةً حتى خلتُه سيتحطّم.
فالتفتُّ فإذا برجلٍ ضخمٍ يخطو.
كان الدكتور روبرت ليستون.
“ما هذا؟ كنتُ أودّ أن أعرّف بكم، لكنكما سبقتما.”
ثم وقف بيننا، وضرب أكتافنا بكفّين عظيمتين كأغطية القدور.
“هذا جوزيف. وهذا بيونغ. صديقان سيَدرسان معكم، فارحبوا بهما.”
ثم أمرهم:
“رحبوا بهما.”
“نعم. أهلًا، أيها الأصدقاء!”
فجأةً، ارتفعت التصفيقات والتهاليل.
وكان أوّل المصفقين الفتى الثري الذي نعَتني بالقرد.
“هكذا أحبّ.”
“نعم!”
وكانت عيناه مبتسمتين وجسده يرتجف.
‘آه…… لقد ذاق بطش الطبيب.’
فلو أن رجلًا يشقّ الناس أمامكم يأمركم، ألن تخافوا؟
وليس هو بفتيٍ مثلي قد عاش ثلاثين عامًا.
“ادخلوا.”
“آه، نعم.”
حتى أنا ارتعت.
ذاك الرجل…….
مخيف قبل أن يلتقط السكّين.
هو رجلٌ مُفزع.
“اليوم تبدأ الدروس المنتظمة. لا أعلم كم منكم سيتخرج، لكن ادعوا واجتهدوا.”
بدا أنّه يشير إلى نظام الإعادة.
فمن كرّر كثيرًا طُرد، أليس كذلك؟
‘لكن لِمَ يبدو الأمر وكأنك… ستموت قبل أن تتخرج……؟’
ولم يكن المتكلم وحده من يبدو كذلك، بل المستمعون أيضًا.
كان في الجوّ شيءٌ من الرهبة، كأننا في ساحة حرب.
ثم بدأت المحاضرة، فأصغيتُ.
أول ما فعلتُ أن أخرجت لوح الطباشير الصغير.
وكنت أتساءل: أسيعلّمونني شيئًا لا أعلمه؟
لكن قد تكون أمورٌ نسيتها لطول العهد بالدراسة.
“أهم ما ينبغي للجرّاح علمُ التشريح. ومع ذلك، قد يصعب النظر فيه وقت الجراحة.”
لكن المحاضرة بدت غريبة من أولها.
‘جراحة بلا اعتبار للتشريح…..؟؟’
أليس هذا غريبًا حتى على العامّة؟
تبا.
وما كدتُ تبا حتى جاء سببٌ وجيه:
“وذلك لانعدام التخدير. سواء أسقيته شرابًا أو ضربته على قفاه، فإنه يفيق حين تشرحه.”
‘آه..:
نعم، لا تخدير في هذا العصر.
أي أنك تشق لحم المريض وهو صاحٍ.
كم يكون الألم؟
أمرٌ يصعب تصوره.
لم أفعل شيئًا كهذا قط.
“إن فكرتَ مليًّا أثناء الجراحة، مات المريض. سيموت يقينًا. فمتى أمسك الجرّاح بالسكين، لزمه أن يسرع. ومع ذلك، يجب اعتبار التشريح. لا تفصيل، لكن اعتبار. ولهذا عليكم بدراسة التشريح أشدّ الدراسة. لتستحضروه في لحظةٍ، فلا بد أن يُطرق في الأذهان طرقًا!”
ثم توقّف الدكتور ليستون وضرب اللوح.
فانطبع أثرٌ لم يكن قبلُ.
وبدا كأنه لن يزول.
إذ قد كُسر.
‘إن غفلتُ، هلكتُ.’
وأيقنتُ أنّي لا يجوز لي النوم ولو لم يكن ثمة جديد أتعلمه.
—
بيونغ كل خاتمة فصل يجيب سيرة النوم او الاغماء
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات