3
الفصل الثالث
“أُغْغ.”
شعرت أنّي على وشك أن أسقط، غير أنّ عشر سنين من العمل جراحاً قد صَلْبَتْ عودي وثبّتت ذهني.
فهل كان ذلك خيراً؟
لا. بل بسببه اضطررت أن أشهد كلّ ما تلا.
“كم استغرقت؟”
سأل الدكتور روبرت ليستون مساعده بوجهٍ يوحي أنّه يعلم الجواب سلفاً.
فأجاب المساعد مزهواً، وقد أشرق محياه بالكبرياء:
“اثنتان وثلاثون ثانية في البتر، وخمس دقائق تقريباً في الخياطة.”
“فالعملية ناجحة إذن.”
نعم. تلك كنت أستطيع الإقرار بها.
بَتْر ساقٍ بشريّة في اثنتين وثلاثين ثانية؟
لقد راودني خاطر أن أستحضر زملائي القدماء من أطباء العظام ليشهدوا هذا المشهد.
أولئك الذين أفنوا الأوقات الطوال في إتقان فنون البتر… وهذا الرجل قد أتمّها دون نصف دقيقة.
“بلا تخدير، بلا تعقيم… وبيدين عاريتين.”
‘تبا!:’
ما فتئت أشتم وأسب.
ولست بهذا الطبع غالباً.
فلقد احتملتُ حتى الإهانات العنصرية جهاراً دون أن أُظهر جزعاً.
وكيف ذلك؟ لقد ألِفْتُ الصبر على مراتب التسلط في مستشفى جامعي، فما عاد يؤثر فيّ.
لقد فعلت كل ما في الوسع لأرتقي أستاذاً.
‘لكن بيدين عاريتين؟’
مع ذلك، فهذا إفراط.
جراحة بيدين عاريتين؟
لَعَمري، لقد أشبهت ضربات المبارزين أكثر من طبّ الأطباء.
“آه، لكن هل عاش المريض؟”
كان السؤال لم يأتِ بعدُ.
فما زالوا يسألون عن حياة المريض بعد أن أطلقوا على العملية اسم النجاح.
أيّها القرن التاسع عشر… أيُّ عجب أنت!
“هه، تمهّل.”
تمهّل؟ أيها الرجل، أأنت طبيب—؟
ألم يكن لزاماً أن تفتّش على حياة المريض أثناء العملية ذاتها؟
“آه… نعم، إنّه حي. إلى الآن.”
“فهي إذن ناجحة حقاً.”
أومأ ليستون برأسه على جواب مساعده، وألقى بسكين البتر المضرجة بالدم في حقيبته إلقاء المستهين.
لم يُبالِ بما عَلِقَ بها من دم جديد وشحم مطموس.
ولا حتى مسحها.
بل حسبها أوسمة خبرة وميدان.
‘يا ابن الـ..’
“والآن، يا أهل لندن!”
أطلق ليستون ضحكة مجلجلة وصاح.
وقد كان رجلاً ضخماً جَهْوَرِيّ الصوت، حتى كأنّ الساحة كلّها ارتجّت من هديره.
“كما شهدتم، فمهارتي في الجراحة هي الأقصى في لندن كلّها! من أراد قطع ذراع، أو ساق، أو فكّ، فليأتِني! أقطعه في ثلاثين ثانية فقط. والعارفون يعلمون أنّ غيري لا يُنْهِيه بدقيقة ولا بخمس بل بدقائق طوال! أمّا أنا، فثلاثون ثانية لا غير. ثلاثون ثانية من الألم فقط!”
ولئن أصغيتُ إليه، فما قاله كان صحيحاً من وجه.
إذ لم يكن التخدير معروفاً بعدُ في هذا العصر.
‘أمعقول أن لا يكون لهم تخدير ويُقدمون على هذا؟’
لم أتذكر تماما، لكنّي كنت واثقاً أنّ التخدير الحق لم يُعرَف بعد.
وإن سأل سائل: كيف لا يعرف الطبيبُ تاريخ الطب؟
فلديّ عذر.
تاريخ الطب. نعم، هو علم ذو بال.
ويجدر بي أن أعرف؟ ربّما.
لكن في كلية الطب، لكثرة ما علينا من علوم، لم يكن إلا علماً للنجاح أو الرسوب.
يكفينا فيه دليل الامتحان.
“خمس دقائق بتر بلا تخدير، أو ثلاثون ثانية… أجل، ثمّة فرق.”
غير أنّي إذ أنظر إلى المريض، لم أظنّه ناجياً.
“أ….”
قد استعاد شيئاً من وعيه وراح يئنّ، لكن—
لقد شرب الخمر بكثرة قبيل الجراحة.
وقُطِعت ساقه بلا مخدّر.
ولا تعقيم جرى.
وفَقَدَ من الدمّ كثيراً، ولا نقل للدم.
‘سرد أسباب وفاته وحده يطول.’
كنت مرعوباً حتى تَدلّى فمي.
ثم فجأةً رَبَت أحدهم على ظهري.
التفتُّ فإذا هو السيد.
“هاها، كأنّ صبيّ أبتون قد صُدم. أتخاف؟”
أخاف؟
لقد شهدت رجلاً يُمزَّق أمامي وربما هلك.
كيف لا أخاف؟
لكنّ السيد كان يعني صورة المشهد لا نتيجته، ولم أكن غبياً أن أغفل ذلك.
“لا؟ إنّي بخير تام.”
والحق؟ لم يكن هذا بالأمر العسير عليّ.
فقد غدت الجراحة الحديثة بالغة الدقة، غير أنّ—
عمليات الإصابات العاجلة، وطبّ العظام، والجراحات المفتوحة، ما زالت خشنة عنيفة.
ولئن كان ثَمّ فرقٌ في الشعور، فالمعنى قريب.
دعني أقول: قد ألفتُ هذا.
“وأنت يا جوزيف؟ أترغب بعدُ أن تصير جراحاً؟”
التفت السيد إلى جوزيف، بعد أن تطلع مليّاً إلى وجهي.
فإذا وجه جوزيف متوردٌ من الحماسة.
“نعم. أريد أن أكون مثله يا أبي.”
ثم انطلق يثرثر في عجب بما رأى.
‘نعم… ليس هذا بخير.’
لكن إن كان ذاك حلمه، فإني أستطيع أن أهديه السبيل يوماً.
“آه… سيدي؟”
وبينما كنت أفكر، إذ به يتقدم إلى الأمام.
ولم يتردّد، مع ما سال على الأرض من دماء.
ثم كلّم الدكتور ليستون.
“يا دكتور؟”
كان ليستون بوجهه الخشن ومعطفه الملطخ بالدم أقرب إلى زعيم عصابة منه إلى طبيب.
م. بصراحه انتم الاثنين في الغلاف طالعين من عصابة
فمع أنّ الشيخ بدأ بالكلام، اضطرب لمّا التقت عيناه بعينيه.
“هاها، لا تخف. أنا طبيب على كل حال.”
قهقه ليستون كأنّه ألف هذا الموقف.
أبدى ابتسامة ودّية—لكنه لم يمسح الدم بعد.
“ما حاجتك؟”
وأنا قد التقطت الأمر.
قبل أن يرسم تلك الابتسامة، كان ليستون قد فحص ثياب السيد.
وكانت عيناه تتحركان بسرعة كأنّ به صرعاً.
سيد من أبتون، بلدة صغيرة، لكنه أغنى أهلها.
وإن كان يتعب ويشمّ منه ريح العرق، فثيابه فاخرة.
الأطباء… على الأقل بمقاييس القرن الحادي والعشرين، كانوا ذوي ثروة.
فقد أدرك ليستون ذلك.
“آه، ها هنا ابني، وصديقه الأقرب أيضاً.”
“أوه؟”
“أما هذا الواقف بجانبه فمن جوسون، قرب الصين العظمى. وهو نصراني مثلنا.”
“آه.”
ألقى ليستون عليّ نظرة قصيرة، ثم أومأ على كلامه.
وإذ كان السيد غنيّاً، وكلّنا متدينون، فقد رضي.
“وكلاهما يحلمان أن يصيرا جراحين.”
“جراحين؟”
“والمال ليس بعائق. أنا أكفلهما.”
“أوه…”
“وأستطيع أن أمول كرسيّك يا دكتور.”
“هاها… هاهاها! ليس هذا بمقام حديث كهذا. ألا نمشي ونتحادث؟”
“والمريض…؟”
“سيكفيني مساعدي به. هاهاها.”
في اللحظة التي ذُكر فيها المال، تلألأت عينا ليستون.
‘أهو مفلس؟’
كان غريباً.
ألم يكن أعظم طبيب في لندن؟
وقد كان ذلك في مطلع القرن التاسع عشر أو وسطه…
ولندن يُفترض أنّها أعظم مدينة في العالم.
لكن إذ رأيت سماءها كئيبة، وشوارعها قذرة، وأهلها أشبه بالمتسولين—ربما لم تكن.
ومع ذلك، كان الطبيب فيها ينبغي أن يكون غنيّاً.
فلِم كان متعطشاً هكذا؟
فإذا تبعتهم، علمت السبب.
“هذه هي كلية الطب. “
“أوه… قد سمعت بها. كلية ذات شهرة، أليس كذلك؟”
“بلى، بالطبع. إنها في لندن. وأنا فيها.”
“هاها، طبيعي.”
“أتودّون جولة؟”
“أيسوغ؟ ونحن غرباء.”
كان البناء مهيباً.
من حجرٍ، غطّته اللبلاب، يوحي بالرهبة.
وعلى الباب حرس— لا يبدون كحراس الجامعات، بل كجنود شرطة عسكرية.
‘لقد درست في جامعة سيول الوطنية، غير أن هذا…’
كانت جامعات كوريا نُزهات إذا ما قورنت بهذا.
هنا كان الجو كأنّه مقدّس.
“لا بأس. اتبعوني.”
قهقه ليستون، وتنحى الحرس جانباً.
لم أكن أعلم ما ينتظرني في الداخل.
لكن الرائحة وحدها أنذرتني.
ثم رأيتها.
غرفة التشريح.
ولأول مرة…
تمنيتُ أن يُغشى عليّ.
—
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"