الفصل العاشر: أسرةُ سنيور الثرية
تخيّلتُ نفسي ألوِّحُ بمروحةٍ في ذهني، فإذا بعربةٍ فخمةٍ تتوقّف أمام المدرسة.
يا للعجب.
أهو غنيٌّ إلى هذا الحدّ؟
نحن نسيرُ على أقدامنا كلَّ يوم، وهو – وهو بعدُ طالبٌ – يركبُ عربة؟
“أما تركبُ؟”
حين قالها، خفق قلبي خفقةَ انفعالٍ خفيف.
إنه أمرٌ جلل.
هذا نفسُ الرجلِ الذي يُشرِّحُ الجثثَ من غير قفّازين.
أي أنّه في ذهني مختومٌ بخاتمِ الحماقة… ومع ذلك شعرتُ ببعض الحماس.
“حسنًا، فلنذهب.”
وما إن جلستُ في العربة حتى بدأ السائقُ يسوقها إلى الأمام.
كانت لندنَ يومئذٍ مزدحمةً أيَّ ازدحام، لا مجالَ للسرعة.
لو تركنا العربة تسيرُ بحرّيةٍ، لدهسنا في كلّ مئة مترٍ نفسًا بريئة.
‘آه، تلك الرائحة…’
وبينما نحن نسير، انسابت إلى أنفي رائحةُ مجارٍ خفيفة، مصدرُها نهرُ التايمز.
في حياتي السابقة، كان من بنودِ قائمتي التي أُريد إنجازها أن أزور أوروبا، وأن أجلسَ في مقهىً على ضفةِ التايمز أتأمّل ساعةَ بيغ بن أو ذلك البرجَ أيًّا كان اسمه.
لكن الآن… حين يُذكرُ التايمز لا يخطر في بالي إلا رائحةُ الصرف.
لعلّ السببَ أنّ بيغ بن لم تُبنَ بعدُ أصلًا.
“لقد أوشكنا على الوصول.”
ومع ذلك، لم تكن لندنُ تخلو من المباني الجديرةِ بالنظر، غيرَ بيغ بن.
كانت الشوارعُ مصطفّةً بالمباني الحجرية، شاهدةً على سببِ تسميتها مركزَ العالم.
وكانت العرباتُ تملأُ الطرقَ فخامةً ورفاهيةً.
“ها هو البيت.”
وأشار الكبيرُ إلى قصرٍ عظيم، فالتفتُّ أتفرّسُ المكانَ مذهولًا.
حمدًا لله أنّ هذا لندن…
لو نبتَ هنا خيزرانٌ، لقطعتُ رمحًا و…
‘لا، لا. أليس هذا الرجلُ على وشكِ أن يصبحَ صديقي؟’
صديقٌ ثريّ.
أما يكون ذلك رائعًا؟
حبستُ نفسي عن التصرفِ الأحمق.
“…”
أما جوزيف، فقد راح يطلقُ صيحاتِ الدهشةِ مرارًا.
منذ تركنا أبتون ووصلنا لندن، لم يرَ غيرَ مشاهدَ كئيبة،
فكان هذا القصرُ أضخمَ وأبهى حتى من بيتِ ليسْتَر في أبتون، رغم غلاءِ أراضي لندن.
“إنه جميلٌ حقًّا، أليس كذلك؟”
“هاه؟ نعم، حسنًا… أبي يتاجر كثيرًا. إخوتي الكبار جميعًا دخلوها، وأنا وحدي قصدتُ مدرسةَ الطبّ.”
“آه…”
سمعتُ أن مثلَ هذا كثير.
في هذه الأزمنة، كانت الأُولويةُ دائمًا للابن الأكبر، فإن كان الأصغرُ من بيتٍ ثريٍّ اضطرّ إلى شقّ طريقه بنفسه.
لكنّ “الاعتماد على النفس” عندهم لا يُشبِه اعتمادَ الفقراء على أنفسهم، أبدًا.
غالبًا ما كان الثاني أو الثالثُ هم من يلتحقُ بكلية الطبّ أو الحقوق بدلًا من وراثة التجارة.
طَقّ
توقّفت العربةُ أمام البوابةِ الرئيسة.
ركض خادمٌ من الداخل، لكنه ما إن رآني حتى توقّف فجأة، وكان تزامنُ وقوفه مع وقوف العربةِ دقيقًا كأننا نصوّرُ فيلمًا.
“حسنًا.”
كان جوزيف على وشكِ أن يتقدّم كعادته، لكن المفاجأة أن سنيور نفسه أخذَ زمامَ المبادرة.
“هذا صديقي الصغير من بلادٍ تُدعى جوسون.”
“آه… جوسون؟”
“لا تعرفها، أليس كذلك؟”
“لا، لا أعرف.”
تجاوز الكبيرُ الخادمَ العجوز الذي همَّ بأن يهزَّ رأسه، ودخل الدار.
كانت الدرجاتُ عاليةً، فاستغرق صعودُنا وقتًا.
“سمعتُ عن الصينِ واليابان، لكن جوسون ليست مألوفةً لديّ.”
“نعم، هذا طبيعيّ… نحن بلدٌ غامض.”
“هاه؟”
أخذنا نتبادلُ شيئًا من الهراء أثناء الصعود.
وكان جوزيف يرمقني بنظرةِ “ما هذا الهراء؟”، لكن لا بأس.
موروها. والله جوزيف مود😂😂😂
أنا نفسي أعلم أنّه هراء.
على كلٍّ، الأهمُّ أنّنا هنا اليوم.
البيتُ واسع، ولو حالفني الحظّ قد أجدُ لي فيه مأوى.
بل قد أُعينُ في بعضِ أعمالِ المنزل… ليت ذلك يتحقّق.
“أوه.”
ما إن ولجنا البابَ الكبير حتى استقبلَنا بهوٌ فسيح.
قد يكون له اسمٌ آخرُ أجهله، لكنّه كان رحبًا غاصًّا بالأشياء.
في الخزائن، وعلى الأعمدة…
“آه، هذه أشياءُ جلبها والدي من رحلاتِ التجارة. يقولون إنّ بعضها نفيسٌ جدًّا.”
“آه… تبدو كذلك.”
‘أهذا خزفُ كوريو؟’
‘هؤلاءِ الحمقى يُهرِّبون الكنوزَ الوطنية!’
‘أو لعلّه صينيّ؟’
لا أظنّ أن السفن كانت تذهبُ إلى جوسون كثيرًا في ذلك الحين…
“ما هذا؟”
بعد أن تجاوزنا تلك التحفَ الثمينة، جلسنا على أريكةِ غرفةِ الاستقبال.
لاحظتُ شيئًا تحت الطاولة فالتقطتُه، فإذا هو شيءٌ لم أره منذ زمن.
‘مطاط؟ أليس هذا مطاطًا؟’
مطاط.
نتاجُ حضارةِ القرن الحادي والعشرين.
قد تظنّني أُبالغ في الانفعالِ لمجرّد قطعةِ مطاط، لكن هنا لا وجودَ أصلًا للبلاستيك.
“آه، هذا؟ لا أدري، أظنّ أبي أحضره عيّنةً وتركه.”
“عيّنة؟ همم…”
“لمَ؟”
“لا، لا شيء…”
لكنّ وجودَ المطاطِ أوقد في ذهني فكرةً ظلّت تراودني: القفّازات.
فمهما كرهتُ الأمرَ، سأضطرّ إلى التشريح.
ولا أستطيعُ فعله بيدٍ عارية.
العملياتُ الجراحية تُجرى بالأيدي المجردة هنا…
أما التشريحُ، فمع أنه أقلُّ خطرًا، إلّا أنّ ضميري لن يحتمل ذلك.
فحتى لو سكبتُ مطهّرًا قويًّا، لن تُطهَّرَ يدي تمامًا.
‘لكن صناعةَ قفّازاتٍ من القماش العادي ضربٌ من الجنون.’
قد تُوفّرُ بعضَ الحماية، ولو جعلتُها سميكةً كفايةً فلن تُثقب بسهولة.
صالحةٌ للتشريح على الأقلّ.
وإن كانت ثقيلةً تُقيد الحركة فلا بأس.
لكن في الجراحة؟
لا، لستُ مجنونًا إلى هذا الحدّ.
“هاه؟ أيمكنك تعقيمُ هذا الموضع أكثر قليلًا؟”
“آه، نعم. انظر إليّ.”
كنتُ مشغولًا بالمطاط حين نطق الكبيرُ بقلقٍ ظاهر.
صحيح.
إنما جئتُ لأجلِ فائدةٍ أولًا… لكني جئتُ أيضًا لأُنقِذَه.
‘أتراه ينجو؟’
ربما يموت.
حتى بعد المعالجة، إن تسرّبت بكتيريا يسيرة فستحدثُ العدوى.
ولا أدري أللـتعقيم الخارجيّ جدوى كبيرةٌ أصلًا.
‘لكن لا بدّ أن أبذلَ أقصى ما أستطيع.’
رغم شكوكي، لم تتردّد يداي.
أولًا، قمتُ بتقطير الكحول لصنع كحولٍ نقيّ، مع أنّ العمليةَ بدائيةٌ حتى إنّه لا يُمكن تسميتها “نقيّة”.
“…”
“من أينَ تعلّمتَ هذا؟”
كلُّ ما فعلتُه أني غلّيتُ الكحولَ في قدرٍ، وغطّيتُه بوعاءٍ معدنيٍّ مستدير، ثم جمعتُ السائلَ المتكاثفَ تحته.
ومع ذلك، كان سنيوؤ وجوزيف ينظران إليّ بأعينٍ متلألئة، بل حتى الخادمُ الشيخُ وقف مبهورًا.
في مثل هذا الجوّ، لا يسعك إلا أن تؤدّي دورَ العالمِ الغامض كما ينبغي.
“تعلمتُه في جوسون… هيهي.”
قلتُها بابتسامةٍ متخفيةٍ غامضة.
“واو!”
“لكنّك وُلدتَ هنا…”
حاولَ جوزيف أن يثيرَ جدلًا، لكن لا فائدة.
هكذا وُلدَ العالِمُ الطبيُّ كيم تاي بيونغ من أرضِ جوسون الغامضة، الذي حوّل الكحولَ إلى كحولٍ نقيٍّ أمامَ أعينهم.
“فلنُطهّر به أولًا. سيؤلمك كثيرًا، فالكحولُ يلسعُ الجرحَ لَسعًا.”
“همم.”
أطبقَ جوزيف فاهُ عند كلامي، ومدَّ سنيور يدَه بارتباك.
ظاهريًّا لم يكن في الجرحِ ما يُقلق، لكن لا ضمانَ في هذا الزمان إلا بالانتظارِ يومًا أو أكثر.
‘إن تورّم، نقطعُه.’
بما أنّه بين يديّ جرّاح، فحظوظُه أفضلُ من غيره، ورحتُ أمسحُ الجرحَ بالكحول.
“آه، آه، هذا…”
“يحرِق، أليس كذلك؟ أعلم. قد تفقدُ الإحساسَ قليلًا لاحقًا.”
“لماذا؟”
لو قلتُ: “لأنّ سمّيةَ الكحول تقتلُ أنسجتَك العصبيّة”،
لتحوّلتُ من شرقيٍّ غامضٍ إلى “ابنِ الشيطان”، أليس كذلك؟
“إنها الطاقة…”
“آه، فهمت.”
قلتُها وأنا أعلمُ أنّها قد تُعرّضني لتهمةِ “ابنِ الشيطان”، لكنها مقبولةٌ هنا بعقليةِ القرنِ التاسع عشر.
‘آه… ليتني أُصلحُ هذه العقول سريعًا.’
أريدُ أن أعمِّدَ هؤلاء الجهلةَ بعلمِ القرنِ الحادي والعشرين!
لكن إن استعجلتُ، وجدتُ نفسي على صليبٍ محترق، فلابدّ من التدرّج.
“سنفعلُ هذا أوّلًا… ثم ننتظر. إن احمرّ وانتفخ غدًا، قد نضطرّ إلى شقّه قليلًا.”
“تقطعُ إصبعي؟”
يا للحمق!
ولِمَ أقطعُ إصبعَك؟
آه، لا بأس…
هذا زمنٌ يُقطّعون فيه كلَّ شيءٍ بلا تفكير.
أتُراه زمنَ الجرأة؟ أم زمنَ الطيش؟
على كلٍّ، هززتُ رأسي.
“لا، لا. مجرّدُ شقٍّ صغير لتصريف القيح.”
“قيح؟ وأنا حيّ؟!”
أيّها الأحمق، ماذا تظنّ نفسك؟
كدتُ أصفعُ قفا رأسه لولا أن تماسكت.
“نعم، القيح يتكوّنُ حتى في الأحياء. وإن دخل إلى مجرى دمك فستُصابُ بخطرٍ عظيم. المهمّ أن نُعالجَ الجرحَ كما يجب.”
“آه…”
حين فرغتُ من كلامي، ساورني القلقُ أني بدوتُ طبيبًا حقيقيًّا أكثرَ من اللازم، لكن سنيور كان غارقًا في تذكّر زملائه الذين ماتوا موتًا شنيعًا.
لو لم نفعل شيئًا، لمات.
كما في صراع العروش حين يُطعنُ المرءُ بسكينٍ ملوّثٍ فيقضي نحبه.
أما هنا، فسكينٌ ملوّثٌ بجثةٍ؟ النهايةُ مؤكّدة.
“على أيّ حال، علينا أن نفحصه صباحًا. بيتُنا بعيدٌ قليلًا… فماذا نصنع؟”
بدأتُ أعرضُ فكرتي بثقةٍ محسوبة.
كنتُ أخطّطُ منذ أن تبعناه إلى هنا.
فمع أني عقّمتُه، إلا أن خطرَ الموتِ لم يزلْ تمامًا، ولابدّ من متابعةٍ يوميّة حتى نطمئنّ.
ومتى نطمئنّ تمامًا؟
بحسابي، بعد أسبوعين تقريبًا.
دليل؟ لا شيء مؤكد، لكن بالنظرِ إلى عددِ الغرفِ في هذا القصر، أستطيعُ التسلّلَ لأسبوعين براحة.
“آه… عندنا غرفٌ كثيرة. إن شئتما البقاءَ، فمرحَبًا.”
بدلَ أن أجيبَ، نظرتُ إلى جوزيف.
كانت حدقتاه ترتجفان ارتجافًا.
هو يحاولُ كبحَ نفسه بدافعِ طموحه الطبيّ، لكنه ابنُ الأغنياء في النهاية.
أيريدُ الرجوعَ إلى ذلك الجحيم؟
“ما رأيك يا بيونغ؟ لقد أظلمَ النهارُ…”
يحاولُ، يحاولُ جهدَه.
حسنًا، سأدعُكَ تستفيدُ من هذا يا صديقي.
ولا داعيَ للشعورِ بالذنب.
“حسنًا، سنمكثُ هنا الليلة.”
وغدًا، بعد أن أُشقّ الجرح، سأجدُ حجةً للبقاءِ أطول.
وبعد أسبوعين تقريبًا… سيهدأ كلّ شيء.
وبينما أُغذّي في نفسي هذه النوايا الماكرة، طرقَ أحدهم الباب.
لم يكن مغلقًا، فالطرقُ كان مجرّدَ تحيّةٍ شكلية.
استدارَ الكبيرُ، وقال الخادمُ الطارق:
“لقد وصلَ السيّد.”
“آه، نعم. فلنذهب للقائه. أبي غريبُ الأطوار قليلًا، لكنه ليس شريرًا، فلا تقلقا.”
السيّد.
والده.
بمجردِ سماعي أنّ رجُلًا أبيضَ محافظًا قَدِم، شعرتُ بانقباضٍ داخليّ.
لا تقل إنّي جبان.
أيُّ إنسانٍ في مكاني سيشعرُ بالمثل.
“هل أستطيعُ المجيءَ أيضًا؟”
سألتُ، متمنّيًا في سرّي أن يرفضَ لأرتاح، لكنّه ضحك وقال:
“بالطبع. فمعظمُ مَن يتاجرُ معهم من أهلِ الشرق أصلًا.”
“آه.”
“إذًا، هلمّ بنا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"