1
المكان الذي وُلدت فيه – بل الأصح أن أقول: حيث أنتقلت إلى الحياة ثانية – كان بلدة صغيرة تُدعى أبتون، في إنجلترا القرن التاسع عشر.
“هيه، أيها القرد!”
بلدة صغيرة لا يتجاوز عدد ساكنيها اثني عشر ألفًا.
وللحق، إذا قارنتها بذكرياتي عن القرن الحادي والعشرين، فقد بدت لي أقرب إلى قرية ريفية منها إلى مدينة.
م. حد يصارحة إن سكان قريتي عددهم ما يتخطى ال 10 ألف
“أتريد الموت؟ كيف تجرؤ أن تعبث بصاحبي؟!”
“أوه، لقد غضب جوزيف!”
“هيه، قل شيئًا أنت أيضًا! إنهم يتمادون لأنك صامت.”
“أنا… ماذا بوسعي أن أصنع؟ إن هيئتي مختلفة.”
لقد كان التمييز العِرقي موجودًا حتى في القرن الحادي والعشرين،
لكن في دولة جزيرية كإنجلترا، كان أشدّ وقعًا.
ثم إن الزمان الذي وُلدت فيه من جديد هو القرن التاسع عشر.
وأكثر أهل هذه الديار لم تقع أعينهم على آسيويّ قط مثلي.
‘لِمَ… لِمَ وُلدت في إنجلترا لا في كوريا؟’
حتى أنا لم أجد لذلك تفسيرًا.
كيف وقع هذا الأمر؟
لاحقًا، علمت أنّ أسرتي كانت من أوائل الأسر الكاثوليكية في كوريا.
‘كان أبواي في طريقهم إلى ماكاو ليصبحوا قسيسين وراهبات، فإذا بهم يقعون في الحب…’
وكان والدَيّ من أولئك الذين خرجوا مع الأب كيم داي-غون قاصدين ماكاو، فوقعا في الحب أثناء الرحلة.
كان في وسعهما العودة إلى كوريا، لكنهما قرّرا اتباع الأب أيدن إلى إنجلترا، إذ قالا في نفسيهما: لمَ لا نرى هذه البلاد ما دمنا في الطريق؟
وفي ذلك الأثناء، فعلا في السفينة ما أدى إلى مولدي واستقرارنا في إنجلترا.
“نحن جميعًا بشر! أفتنادونه بالقرد لمجرد أنه يبدو مختلفًا؟ لأرينّكم الويل!”
وبفضل معونة الكاهن، لم نعانِ كثيرًا.
ولا سيما أنّ والدي حظي بعمل في شركة تجارة خمر تديرها أسرة ليستر، وهم من أتباع جماعة الكويكر المتدينين، فصرنا نعيش أفضل من معظم الأسر.
وأما أنا؟
فلقد صرت صديقًا لجوزيف ليستر ووجدت معه وُدًّا.
“على كل حال… أتحب أن نحاول ثانية اليوم؟”
“آه، أأنت بخير؟ سيؤلم عينيك إن فعلتها كثيرًا.”
“لا بأس. إنما هي تجربة يسيرة… أستطيع احتمالها.”
أما الصبي فكان بخير، لكن العِلّة في المجهر.
كان جهازًا بدائيًّا حتى شعرت كأن عيني ستسقطان بعد استعماله قليلًا.
لكن في القرن التاسع عشر، بعدما عدت من عالم القرن الحادي والعشرين الساحر، كان المجهر من أمتع الألعاب عندي.
“فلنصطد شيئًا أولًا إذن.”
“حسنًا.”
وبصفتي آسيويًا، كنت أستطيع الذهاب حيث أشاء إذا كنت برفقة جوزيف، ابن علية القوم في البلدة.
فأسرته من أثرى أسر البلدة، والناس جميعًا كانوا يلتمسون ودّه.
ومع ذلك، كان ثَمّة صبية لا يعرفون قدره، فيتطاولون علينا.
لكن مهلاً، لقد كنت أستاذًا في كوريا القرن الحادي والعشرين.
ولم يكن أحد ليضاهيني في الجسارة أو الجلد.
“أه، أه. اسحب!”
“حسنًا!”
وعلى كل حال، كنا نذهب كثيرًا إلى الشاطئ القريب، أنا وليستر، نصطاد الجمبري أو السمك.
ثم نقوم بتشريحها تشريحًا بسيطًا وننظر فيها بالمجهر.
أما أنا، فلم أجد في قلب الجمبري النابض شيئًا مثيرًا.
“واو… إنه حقًا… ينبض…”
لكن جوزيف رآه عالَمًا جديدًا.
“إنني حقًا أود أن أدرس الطب.”
فقد صار حلمه أن يصير طبيبًا.
لكن الجمبري والبشر شتّان بينهما.
وإن لم أكن واثقًا أن ذلك كافٍ ليحدد مستقبله، إلا أنّ والد جوزيف سُرّ بقراره.
“حقًّا؟ أأنت راغب أن تلتحق بكلية الطب؟”
“نعم، يا أبتِ. أريد أن أذهب مع تاي بيونغ!”
“تاي بيونغ؟ هممم.”
“أعلم أنّ دراسة الطب باهظة. لكن تاي بيونغ أعزّ أصدقائي… وهو شديد الذكاء. إن ذهبنا معًا سنردّ لك المال سريعًا.”
بلغ من حماسه أنّه وعد بأن يرسلني إلى كلية الطب أيضًا.
“لا تكتفِ بالقول – لمَ لا تذهبان إلى لندن لترَيَا بنفسيكما؟”
“هاه؟ حقًّا؟”
“أجل، حقًّا. تاي بيونغ، اطلب الإذن من أبيك أيضًا.”
“نعم، شكرًا لك يا سيدي.”
ومع عرض التكفّل بالمصاريف، لم يستطع والدي الرفض.
ثم إننا لم نكن ننوي الالتحاق بالجامعة فورًا – إنما زيارة لا أكثر.
“لندن…؟”
“نعم، لندن. سنذهب مع رحلة بيع الخمر.”
“حسنًا… يبدو ذلك حسنًا. لكن لا تذهبا وحدكما، أفهمتم؟ فالأمر خطِر.”
“آه، نعم. بالطبع.”
ونلنا الإذن بيسر.
لكن القلق كان بادٍ.
فأنا لا أزال طفلًا.
بل، خمسة عشر عامًا، وهذا يُعدّ راشدًا تقريبًا في هذا الزمان.
ثم إذا أضفت عمري السابق، كنت فوق الخمسين.
بل إني أكبر من أبي.
‘إنني متوتر…’
ومع ذلك، كانت الرحلة من أبتون إلى لندن مثيرة.
فلم أبرح هذه البلدة الصغيرة منذ فتحت عيني، فكان الأمر طبيعيًّا.
لكن ذلك الحماس بدأ يخبو بمجرد أن انطلقنا.
‘الطرق… في غاية السوء.’
لقد نسيت أنّ هذا هو القرن التاسع عشر.
ومع أنّ إنجلترا كانت تنمو نموًّا سريعًا بسبب الثورة الصناعية، فالقرن التاسع عشر يبقى قرنًا متأخرًا.
“أوف…”
“تمسّك جيدًا.”
وكان جوزيف في الحال نفسه.
فهو أيضًا ابن ريف، وما ألفَ هذه الطرق.
لكنه كان، على الأرجح، أشدّ صدمة مني.
فأسرته أشبه بالنبلاء.
من الجسر ذي الطابع الشرقي في حديقتهم إلى الأشجار المعتنى بها…
إذا قارنت ذلك بهذه الطريق، فهذا الجحيم بعينه.
“انظر، تلك لندن.”
لا، أتراجع عن قولي.
الجحيم هو لندن.
“أتلك… المدينة الرمادية؟”
مهلًا، هذا لا يصح.
لقد قال الرجل إن لندن أعظم مدينة في العالم.
لكن تلك…
“نعم، ذلك الدخان الأسود هو شعار لندن.”
لا… لا تجعلوه شعارًا لكم…
ما كان ينبغي أن ندخل هناك…
طق طق طق –
رغم أمنيتي، دخلت العربة لندن.
وما بدا مأساة من بعيد، بدا أشدّ سوءًا من قرب.
“أوه…”
“هاهاها! أنتم أهل الريف لا تطيقون رائحة المدينة، أليس كذلك؟”
كانت الرائحة مقزّزة…
ونظرت إلى الرجل الذي نعتني بالريفي.
وفي رأسي كنت أسبه بأقبح الألفاظ.
ومهما يكن، فإنّ السباب لا يليق إلا باللسان ابن البلد.
ومهما اشتدت الكروب، يكفي أن تقول “سحقا” لتشعر ببعض الراحة، أليس كذلك؟
‘لا، ليس اليوم.’
اليوم مختلف.
لم أجد ما يريحني.
فلندن كانت…
“أوه، أووووه!”
الناس يتقيؤون بجانب العربة ونحن نمرّ.
“تقدّموا، تقدّموا!”
وبجانبهم شيء مغطى بالخيش، لمحْتُ منه ما بدا كأنه قدم إنسان.
حاولت إقناع نفسي أنّه ليس كذلك، لكن الرجل قال وهو يبتسم لسبب لا أعلمه:
“ذلك جثمان يُسلَّم إلى مدرسة الطب في جامعة لندن. لذلك مهارتهم في التشريح فائقة!”
ماذا؟
ماذا قلت؟
تسليم جثث؟
كلمة “تسليم” ذاتها مثيرة للريبة، لكنني عزوتها لكون الرجل تاجر خمر.
أما المشكلة الحقيقية فكانت الجثة نفسها.
‘يبدو… أنّها متحلّلة جدًّا…’
إن هم شرّحوها، سيصابون بعدوى مروّعة قبل أن يتعلموا شيئًا.
“هاها. لقد حدّثت جوزيف كثيرًا عن لندن، لكنك يا تاي بيونغ جامد كالتمثال! قف معتدلًا! في المدينة الكبيرة ينبغي أن تُظهر الثقة!”
“…”
ليس الأمر أمر ثقة، يا رجل.
‘لا ينبغي تشريح شيء كهذا.’
ولا يحسن أن تلتحقوا بتلك الجامعة.
“آه، قد وصلنا. لنكفّ عن الحديث. العمل سينجز سريعًا فهو مألوف. انتظروا ههنا، ثم نذهب لنرى كلية الطب بعد قليل.”
غير شاعر بما يدور في خلدي، ترجل الرجل ودخل المتجر.
وانشغل هو والعمّال بنقل صناديق الخمر إلى الداخل.
ولم أطق الوقوف متفرّجًا، فساعدت، لكن صبيًّا من الدكان أخذ يحملق بي.
“ما لك؟”
ظننته سينعتني قردًا مرة أخرى، لكنه قال شيئًا غير متوقّع:
“واو، إنك تبدو مميّزًا حقًا.”
‘أهذا هجوم مقنّع؟’
أن يقول إنّي مميّز بهذا الوجه الطلق؟
“إنسوك، ادخل!”
لحسن الحظ، كان صاحب الدكان كريمًا.
“عذرًا، إنه لا يفقه. هاها. لا بد أنه استغرب بشرتك الصفراء، وعينيك الصغيرتين، وشعرك الأسود.”
كريم؟ بل زد الطين بلّة.
في القرن الحادي والعشرين كان بوسعي أن أرفع عليه دعوى تمييز عنصري.
“آه، نعم. شكرًا لك.”
لكننا في القرن التاسع عشر.
زمن يمكن للأشرار فيه أن يخطفوك ليبيعوك إلى سيرك.
ولهذا، طيلة السنوات العشر الماضية، كنت ألتزم تعاليم أبي والكاهن وأخفض رأسي.
“آه، حسنًا؟ لقد حالفنا الحظ.”
وبينما كنا ننقل الخمر، أخذ الرجل يتجاذب أطراف الحديث مع صاحب الدكان.
ولم يكن في الأمر شيء غريب.
فالسيد لا يلزم أن يحمل الأثقال.
“هذا رائع. ابنك مهتم بكلية الطب؟ خبر طيب. سأكمل هنا، فامضوا أنتم.”
“آه، حسنًا. شكرًا لك.”
“لا شكر على واجب.”
وبينما يتحدثان، ربت الرجل فجأة على كتفينا، أنا وجوزيف.
“هيا بنا.”
“هاه؟ إلى أين؟”
“لرؤية عملية جراحية. هلمّوا نشهد.”
“هاه؟”
سنرى عملية جراحية؟
أي جنون هذا؟
لا يجوز مشاهدة ذلك!
وبينما أنا مدهوش، ضحك الرجل ثانية.
“سيُصاب ريفيّنا اليوم بالذهول. هناك شيء اسمه الجراحة في هذا العالم!”
أعلم، يا سيدي.
لقد كنت جرّاحًا وأستاذًا.
وإن كنت لم أصِر أستاذًا إلا بعد إصابتي بسرطان الدماغ…
لا، بل متُّ بعد أن دهستني شاحنة.
“هيا بنا. إن تأخرنا فاتنا المشهد. الجراحة منظر عجيب.”
“أه…”
“هيا، ما بالك؟ أأنت خائف؟ ألست بارعًا في التشريح؟”
“لا، ليس ذلك…”
وقبل أن أقول شيئًا، جرّني الرجل وجوزيف معه.
“حسنًا. هناك مكان شاغر هناك.”
وكان المكان الذي بلغناه ليس قاعة، بل ساحة.
ساحة فسيحة مكشوفة.
وفي وسط فراغها، كانت ثمة طاولة أشبه بالمنصّة.
“لا! الموت أحبّ إليّ من هذا!”
وإذ بي أسمع صرخة.
أدرت وجهي فرأيت رجلاً يُساق جبرًا على أيدي أربعة رجال.
“أهم يقتلونه قبل العملية؟”
“لا، إنها العملية نفسها.”
“هذه؟”
“نعم. إنها أول مرة لك، فلا تعلم. الجراحة من وسائل إنقاذ الأرواح.”
ابتسم الرجل وهو يراقب المشهد.
أما أنا فلم أستطع أن أصرف بصري عن ذلك الرجل المسحوب.
بم أسمي ما أراه؟
نعم، الرعب.
فقد كان المريض مفعمًا بالرعب.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"