Chapters
Comments
- 3 - الغرير الأسود (3) 2025-08-04
- 2 - الغرير الأسود (2) 2025-08-04
- 1 - الغرير الأسود (1) 2025-08-04
الفصل 002
حدّقتُ في آمي بذهولٍ خالٍ من المعنى.
عندئذٍ، مال رو، الواقف إلى جانبها، برأسه قليلًا وكسرَ الصمت قائلًا.
“أأنتِ في السبعين من عمركِ، يا آمي؟”
“نعم.”
“وأنا كذلك، تقريبًا.”
ما هذا.
رمقتُ الأشخاص الجالسين قبالتي بنظرةٍ حمقاء.
كانوا جميعًا يبدون شبابًا، على نحوٍ مبهج. حتى صوت آمي كان صوت فتاةٍ صغيرة، ورو بدا وكأنه في أوائل العشرينيات أو منتصفها. أما الرجل ذو العينين الخضراوين، الذي كان يتولّى زمام الحديث، فقد بدا الأكبر بينهم، غير أنه لم يجاوز، على أكثر تقدير، أواخر العشرينيات أو أوائل الثلاثينيات.
فكيف لهم أن يزعموا أنهم في مثل هذا العمر؟
لم يبدُ الأمر مزحة….
قرّرتُ ألّا أغوص في التفكير كثيرًا. لقد استيقظتُ في مكانٍ لا عهد لي به، لا أذكر من حياتي إلا اسمي، فمَن أكون لأظنّ أن شيئًا أشدَّ صدمةً لن يحدث تاليًا؟
آثرتُ أن أُسلِّم نفسي لما تمليه الحياة. فغير ذلك، كنتُ أشعر بأن شيئًا في داخلي سينهار.
نظرت آمي إلى الرجل ذي الشعر المجعَّد وقالت.
“رو، أنتَ في الثانية والسبعين.”
“نعم، أظنّ أن هذا صحيح.”
“ماذا؟”
خرج صوتٌ مبهوت منّي على نحوٍ تلقائي.
رمقتُ رو وآمي بعينين متّسعتين، أتنقّل بنظري بينهما.
“فأنتما لا تفصل بينكما سوى عامين فقط؟”
“هيه، إنك تندهش من أغرب الأمور.”
رفع رو حاجبًا واحدًا في استنكار.
“أليس الأجدر بك أن تُصدم من أعمارنا؟ ما الذي يثير دهشتك في فارق السنين بيني وبينها؟”
“لا، أعني…الأمر فقط….”
ضحك الرجل ذو العينين الخضراوين بشدة.
أخذ يهتزّ من الضحك بصمت، كتفاه ترتجفان وهو يُخفض رأسه. يبدو أن ردّة فعلي راقت له.
رمشت آمي بعينيها بسرعة، وارتفع حاجب رو حتى خلتُه سيبلغ السقف.
وحين تحرّكتُ بتوترٍ لا إرادي، دوّى صوت سلاسل تصطكّ في أرجاء الغرفة.
“لم أقصد الإساءة. الآنسة آمي فقط…تبدو صغيرة للغاية.”
“آه.”
يبدو أن رو استوعب الأمر على الفور.
حرّك ساقه المسنودة فوق الأخرى، وأطلق ضحكة خفيفة.
“هذا صحيح. تصرّفها وهيئتها يوحيان بأنها طفلة. أحيانًا يصعب عليّ تصديق أنها أكبر من ريكاردو.”
من ريكاردو هذا؟
“أنا ريكاردو.”
قال الرجل ذو العينين الخضراوين، ملوّحًا بإحدى يديه بابتسامةٍ عريضة.
كدتُ أُصعق.
ماذا؟ آمي أكبر من هذا الرجل؟
تمتمت آمي، وكأنها تحدّث نفسها، “هل أبدو فعلاً كطفلة؟”، فيما نظرتُ إليها ثم إلى الابتسامة الهادئة على وجه ريكاردو. ما زال من العسير عليّ تصديق ذلك.
ويبدو أن تعابير وجهي قد خانتني، إذ أطلق ريكاردو ضحكة خفيفة.
“أنا في الثامنة والستين. اسمي ريكاردو سوردي.”
“آه…أنا آسف على إزعاجك، السيّد سوردي.”
“نادِني ريكاردو فحسب.”
لوّح ريكاردو بيده، وابتسم بعينيه.
أومأتُ له بأدب، غير أني لم أتجرّأ بعد على مناداته باسمه مباشرة. كنتُ أحرص على ألّا أُغضب من يراقبني، أُوازن تصرّفاتي بتيقّظٍ شديد. لم يظهروا نيةً في إيذائي في تلك اللحظة، لكن الحال قد ينقلب في أيّ وقت.
فلنفكّر في الأمر. رو في الثانية والسبعين، تشوي آمي في السبعين، وريكاردو سوردي في الثامنة والستين.
وقد قالوا إنهم من الكبار في السن. وهذا بالفعل عمرٌ متقدّم.
قِيل إن مفهوم الجنسيّة لم يعُد موجودًا، لكن الثلاثة كانوا ينتمون إلى بلدانٍ من قبل. ريكاردو ورو من إيطاليا، وآمي من كوريا.
فهل….
“أفزالت الحدود بين الدول أثناء حياتكم؟”
خرج السؤال من فمي دون تفكير…فتبعتهُ سكينةٌ ثقيلة.
انتفضتُ تحت وقع نظراتهم الحادّة.
ما الذي فعلتُه الآن؟
أنا حقًّا لا أذكر شيئًا. لا بدّ أن ذلك محبط، لكن لا سبيل لي سوى أن أطرح أسئلة بديهيّة وساذجة.
طال الصمت المربك. الثلاثة، الذين لم تكن هيئاتهم تنمّ عن أعمارهم، بدَوا غير واثقين من كيفيّة الرد.
وقد ابتلعت تلك الغرفة النظيفة الصامتة برودٌ شبيهٌ بالخواء.
كان ريكاردو هو من كسر الصمت أخيرًا.
“لقد وقعت حرب~. حربان كبيرتان.”
ذلك جديدٌ عليّ.
“اختفت الحدود بعد الحرب الأولى…أمتأكّدٌ أنك لا تذكر أيًّا من هذا~؟”
“لا. البتّة…هذه أوّل مرّة أسمع بذلك.”
“لعلّك لستَ من هنا أصلًا. لا أدري إن كنتَ حتى بشريًّا. أعني، بحق السماء، من أين ظهرت؟ كأنك خرجت من العدم!”
لوّح رو بذراعيه في الهواء وهو يتكلّم بانفعال، مطالبًا بإجابات. بدا عليه الغضب من غرابة الموقف.
لكن، في الحقيقة، كنتُ في حيرتي لا أقلَّ منهم….
همستُ باعتذارٍ باهت، ثمّ التفتُّ بحذر إلى رو أرقب ملامح وجهه.
ضربت آمي رأس رو بقبضتها الصغيرة المستديرة.
“آي! ما بالكِ؟”
“لا تغضب. فكّر فحسب كم يبدو هذا كلّه عبثيًّا بالنسبة له.”
وسّعت آمي عينيها المستديرتين ونظرت إلى رو.
“تخيّل ذلك. تستيقظ بلا أيّ ذكريات. تنهض في مكانٍ لم تسبق لك رؤيته، وأوّل ما يحدث أن يصرخ في وجهك أناسٌ لا تعرفهم، يسألونك من أين أتيت. ثم يُقيّدك هؤلاء الغرباء، دون أيّ سابق معرفة!”
كان صوتها هادئًا، متأمّلًا، فأثار ذلك في قلبي موجة امتنانٍ دافئة. ربّما لأنني بلا سندٍ أتكئ عليه في هذه اللحظة، شعرتُ أن بادرة اللطف الصغيرة تلك من آمي قد مسّت شيئًا دفينًا في روحي.
“وهؤلاء الغرباء الذين يحدّقون بك وكأنك جريمة تمشي، هم أنتم!”
“ذلك قاسٍ يا آمي…لقد كنتُ لطيفًا للغاية~.”
“هاه؟ وماذا فعلتُ أنا؟”
تمتم رو بضيق، يحكّ أذنه بخنصره.
تطلّعت آمي إليه بنظرة حادة لبرهة، ثم أطلقت نقرة استياءٍ بلسانها، بينما أخرج رو لسانه نحوها مازحًا.
حقًّا، مَن يكون هؤلاء؟
تذكّرتُ ذكرًا عابرًا سمعته من قبل…عن كونهم رفاقًا منذ أربعين عامًا. الأسلحة، الملابس…كلّ شيء فيهم يوحي بأنهم جنود، أو ربّما شرطة، أو عناصر أمن خاص.
ثم أنا…ظهرتُ فجأة وسطهم.
كانوا خمسة أشخاص بالمجمل (الاثنان في الخلف لزموا صمتًا غريبًا أقرب إلى الخفاء)، يحيطون بي من كلّ جانب وأنا مقيد في المنتصف، عاجز تمامًا.
كفأرٍ في قبضة قط.
الأفضل أن أظلّ على حذر.
وما إن عقدتُ العزم على أن أبقى متيقّظًا، حتى دوّى رنين هاتف آمي.
“إنها مكالمة من سكار!”
بدت وكأنها على وشك الجري، لكنها أجابت وهي واقفة، وأخرجت الهاتف.
ثم انطلق صوتها الواضح يملأ الغرفة.
“نعم، نائب القائد!”
أصغت برهة، ثم أجابت بنبرةٍ رسميّة.
“نعم. جميع أفراد فريق البوابة يعملون على الأمر ويُجرون التحقيق حاليًّا.”
ثم صمتت من جديد لتُصغي.
“نعم. لقد أبلغنا المستشفى وقسم الموارد البشرية بالفعل. نعم، نعم…لا، مدير القسم لن يحضر. مفهوم. ونحن كذلك.”
وبعد عدّة “نعم، نعم”، ردًّا على كلمات بالكاد تُسمع، أنهت المكالمة.
أعادت الهاتف إلى جيبها، استدارت على عقبها، ونظرت إلى البقيّة.
كان الجميع ينظرون إليها ما عدا رو.
“ماذا قالوا~؟”
“يريدون منّا إرسال السيد هيلدي إلى المستشفى أولًا.”
اقتربت الفتاة ذات العينين المستديرتين نحوي.
“سيأخذون بصماتك، ويُجرون اختبار الحمض النووي، وحتى جهاز كشف الكذب. أعني، لقد ظهرتَ حرفيًّا في منتصف منطقة بوابة.”
أتُراني سأعرف شيئًا عن نفسي من خلال هذه الفحوصات؟
ذلك الأمل الضئيل جعلني أعتدل في جلستي. نظرت إلى ريكاردو، الذي نهض بتكاسل، وإلى رو الذي لم يتحرّك بعد، منشغلًا بهاتفه أكثر من أي شيء آخر.
مدّ الرجل ذو العينين الخضراوين أطرافه ببطء وقال.
“هل نسمح للاثنين الصغيرين بالعودة إلى المنزل~؟ لا أظنّ أن ثمة داعٍ لبقائهما.”
“نعم. نحن الثلاثة نكفينا. لا يبدو السيد هيلدي من النوع الذي يفقد أعصابه فجأة.”
بالطبع. سأكون هادئًا.
أومأت برأسي إيماءة خفيفة، فأطلق ريكاردو ضحكة ناعمة.
“يمكنكما المغادرة~.”
رمق الرجل الطويل مَن خلفي بعينيه وقال.
“سنتولّى البقيّة من هنا….”
“شكرًا لجهودكما! ارتاحا جيّدًا!”
“شكرًا لكم. سننصرف الآن.”
“اعذرونا.”
“هاه؟ سيغادران بالفعل؟”
سمعت وقع أقدامهما ينصرفان بعد انحناءة، ثم رفع رو رأسه عن هاتفه أخيرًا، حاجباه مرفوعان بدهشة.
تنهدت آمي.
“لستَ أنتَ.”
ثم التفتت نحوي بابتسامة دافئة.
“السيد هيلدي، هل نذهب إلى المستشفى؟”
“نعم.”
نهضتُ عن المقعد، مجيبًا بهدوء.
رنّ صوت السلاسل واضحًا. بسبب الأصفاد التي كبّلت معصميّ، بدت وقفتي غير مستقيمة، لكن لم يظهر على أحد أنه ينوي فكّها.
ومع ذلك، كنتُ ممتنًّا لما لقيته من لطف حتى الآن.
وجود شخصين أقلّ جعلني أشعر بتوتّرٍ أخفّ. بدا ذلك وكأنه بادرة على بداية ثقة، وإن كانت ضئيلة. ما دمتُ لا أتسبّب بمشكلة، فقد غلب على ظنّي أنّهم لن يؤذوني.
وذاك يكفيني، في الوقت الحاضر.
سأسعى لاستعادة ذاكرتي متى ما صرتُ في أمانٍ حقًا.
ابتسمتُ ابتسامةً خفيفة وتبعتُ آمي.
***
لم يكن بي شيءٌ من الناحية الجسديّة.
وبعد أن خضعتُ لسلسلةٍ من الفحوصات، جلستُ في صالة الانتظار، شارِدًا في أفكاري. الطبيب سيُطلعني على نتائج الفحص الصحّي، أمّا نتائج تحليل الحمض النووي وبصمات الأصابع، فستُرسل إلى هاتف نائب القائد، الذي كان يُحادث آمي عبر الهاتف في وقتٍ سابق، وهو من سيتسلّم النتائج.
وهذا يعني أنّني لن أرى نتائج فحصي الوراثيّ أو بصماتي في الحال.
بهذا الخاطر، جلستُ بهدوءٍ على كرسيٍّ خمريٍّ عميق اللون، أترقّب برفقة الآخرين.
وبينما التزمتُ السكون، تنصّتُّ إلى الحديث الدائر بين رجلين وامرأةٍ بالقرب منّي.
آمي، الجالسة إلى يميني، كانت تُحرّك ساقيها وهي تتكلّم.
“كان أوبا يون قد وصل إلى المنزل وبدأ يخلع حذاءه عند الباب، لكنهم اتصلوا به مجددًا، فاضطر للعودة. وصل لتوّه إلى قسم العلوم، ويبدو أنهم يجهدونه هناك.”
“هذا مؤسف~.”
قالها ريكاردو، الواقف أمام آمي، بنبرةٍ لم تُبدِ أيّ تعاطف.
“لكن، هيه، كلّنا نعمل لساعاتٍ متأخّرة أيضًا. حين يحدث شيءٌ طارئ، نُساق جميعًا في القارب نفسه~.”
“أما تشعرون بالجوع؟”
تمتم رو، الجالس إلى يساري، منشغلًا بلعبته على الهاتف.
“يا قصيرة، أليس عندكِ شيءٌ نأكله؟”
“لا. وقد تناولنا العشاء في الخارج قبل عودتنا، ألا تذكر؟”
“آه، تلك الوجبة المحفوظة عديمة الطعم! لم تدخل معدتي أصلًا.”
“تقصد أنها لم تلامس لسانك، لا معدتك.”
صحّحت له آمي بخفة، لكن رو تجاهلها.
ورمى هاتفه جانبًا وقد ظهر عليه شعار ‘انتهت اللعبة!’، ثم التفت إليّ.
“هل لديك شيءٌ تأكله؟”
رمشتُ بدهشة.
نظر إليه كلٌّ من آمي وريكاردو بنظرةٍ مذهولة، وكأنهما لم يُصدّقا ما قاله، لكن رو لم يبالِ إطلاقًا. رمقتُ الرجل ذا الشعر المجعّد لحظةً، ثم بدأتُ أفتّش جيبي بيدين مقيّدتين، بشكلٍ محرج.
الجيب فارغ تمامًا.
“أنا آسف…ليس معي شيء.”
“ألا تشعر بالجوع~؟”
سألني ريكاردو فجأة.
ارتبكتُ، ورفعتُ نظري إليه.
تلك العينان الطويلتان الضيّقتان.
“لا، أنا بخير.”
أجبتُ بابتسامةٍ خافتة.
“شكرًا على اهتمامك.”
ارتفع أحد حاجبيه قليلًا.
بدا وكأنه على وشك أن يقول شيئًا، حين انفتح الباب في نهاية الممرّ فجأةً، واقتحم أحدهم المكان.
“هيه! ما هذا بحق الجحيم؟!”
صرخ رجلٌ يرتدي معطفًا طبّيًا أبيض وهو يقترب.
عينان زرقاوان وشعرٌ أسود. وجهه يوحي بأنه في أواسط أو أواخر الأربعين من عمره، لم يحلق ذقنه، وتبدو عليه علامات الإرهاق.
كان صورةً مثاليّة للطبيب المُجهد، وهو يحدّق بي ويصرخ.
“أدخِلوا هذا حالًا!”
يتبع في الفصل القادم.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
الغرير الأسود
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات