1
الفصل 001
رنّت أصواتٌ غريبةٌ في أذنيّ.
وحين فتحتُ عينيّ، أبصرتُ أشكالًا ضبابية لأشخاصٍ يتحرّكون بانشغال.
رمشتُ بعينين مُذهولتَين.
ظهرت ظلالٌ تخيّم فوق رأسي. كانت أصواتٌ عاجلة تصرخ، والناس يندفعون في اتجاهٍ ما على عجل.
حواسي لم تكن قد استيقظت تمامًا بعد؛ كنتُ كأنني خارج الزمان والمكان.
أغلقتُ جفنيّ المثقلَين، ثم فتحتهما من جديد، فداعب أنفي عبقُ التراب والبارود. وحينها، رأيتُ فوهة بندقية مصوّبةً نحوي.
ما هذا بحق الجحيم؟
في اللحظة التي خطر لي هذا السؤال، انطلقت صيحةٌ حادّة أنعشتني من ذهولي.
“من أنتَ بحق الجحيم؟!”
ذلك ما كنتُ أرغب في معرفته.
“من أين ظهرتَ فجأة؟!”
دفعتُ بجسدي لأعتدل جالسًا، وانفتحت عيناي على اتّساعهما. رأيتُ أكثر من فوهة بندقية مصوّبة نحوي.
وكان ضوءٌ أبيضٌ باهرٌ يتسلّل بلطفٍ على الأجساد الضبابية.
ما الذي يجري؟
حدّقتُ بذهولٍ إلى خمسة أشخاص يحملون البنادق، وإلى السقف العالي في تلك القاعة الضخمة، وإلى الرجل الواقف أمامي.
انبعث الصوت من الرجل الذي وجّه فوهة بندقيته إلى ما بين عينيّ.
كان ذا شعرٍ مجعَّد وعينين عسليّتَين لافتتَين.
“كيف دخلتَ إلى هنا؟”
“أين…أنا؟”
تمتمتُ بالكلمات وأنا أحدّق في عينيه الحادّتين.
كان رأسي مُثقلًا، لا يعمل كما ينبغي.
هل كنتُ أشرب؟ هل غفوتُ؟
“ما الذي كنتُ أفعله لتوّي؟”
“هيه! كفّ عن الهذيان!”
قطّب الرجل ذو الشعر المجعَّد حاجبَيه بشدّة.
“متى دخلتَ؟ وكيف؟!”
بدا أنه رجلٌ قويّ الطبع. لكني ما زلتُ عاجزًا عن إدراك ما يجري.
نظرتُ إلى الرجل الذي انحنى تجاهي.
ارتدى زيًّا مشابهًا للبقيّة، بدلةً تكتيكية سوداء قاتمة، كأنها تبتلع الضوء. كان يضع قفّازَين أسودَين، ويُمسك ببندقيةٍ كبيرة صلبة المظهر.
ضغط فوهة سلاحه الباردة على عنقي.
شعرتُ ببرودة المعدن تلامس جلدي.
هذا…يبدو خطرًا حقًا.
“هل ستستمرّ في هذا الهراء؟ أتسخر منّي؟”
“رو.”
انطلق صوتٌ من الخلف.
“يبدو أن ثمّة خللًا في البوّابة. أبعد سلاحك.”
تقدّمت فتاةٌ ذات عينين دائريّتين. كان شعرها الأسود مربوطًا في ذيل حصان، وتحمل بندقيةً بحجم جذعها تقريبًا.
برزت بوضوح؛ ربّما لأنها الفتاة الآسيوية الوحيدة بينهم.
لماذا تحمل فتاةٌ تبدو كطالبة ثانويّة، أو جامعيّة في أحسن الأحوال، بندقيّةً كهذه؟
استدار الرجل ذو الشعر المجعَّد، الذي يبدو أن اسمه رو، نحوها بغضب.
“هيه، أنتِ لا تعرفين حتّى من يكون هذا، وتطلبين منّي خفض سلاحي؟!”
“أقول لك، يبدو أن الأمر يتعلّق بالبوّابة.”
اقتربت الفتاة نحوي بخطى واثقة.
“ربّما اتّصلت البوّابة بأخرى للحظة أو شيء من هذا القبيل.”
“اخفض السلاح، يا رو.”
قالتها بنبرةٍ عادية، وكأنها تُلقي توبيخًا عابرًا.
بقيتُ في مكاني، أُسنِد جسدي بكفَّيَّ على الأرض، أراقب اقترابها والبقيّة خلفها.
كانوا جميعًا يرتدون زيًّا أسودًا لافتًا؛ ليسوا مدنيّين عاديّين على الإطلاق. وكانت نظراتهم الحادّة كأنها تخترقني.
رغم أنها أمرته بخفض سلاحه، إلّا أنهم جميعًا بدَوا مستعدّين لإطلاق النار في اللحظة التي أقوم فيها بحركةٍ مشبوهة.
كان عبق البارود والتراب لا يزال عالقًا في الهواء.
أين أنا؟ وكيف…وصلتُ إلى هنا؟
لم تكن السقوف العالية والجدران الباهتة المعقّمة مألوفةً لي على الإطلاق. من خلال ردّات فعلهم، وإحساسي الغريزي، كنتُ واثقًا أنني لم أكن هنا من قبل.
لماذا استيقظتُ في هذا المكان؟
ومن أنا…أصلًا؟
ما إن بدأ الذعر يتسرّب إلى صدري بسبب فراغ ذاكرتي، حتى توقّفت الفتاة أمامي مباشرة.
نظرت إليّ بعينَيها الواسعتَين، وأنا جاثٍ على الأرض.
“مرحبًا!”
حيّتني بابتسامةٍ مشرقة، ومدّت يدها اليمنى.
“أنا تشوي آمي! نادِني فقط آمي.”
“…هيلديبرت طالب.”
أمسكتُ يدها بغير وعي.
“لا بأس في مناداتي بـ هيلدي.”
لكن، لا أذكر أن أحدًا ناداني بـ هيلدي من قبل. كانت ذاكرتي خاليةً تمامًا.
متى بدأ هذا الفراغ؟
حدّقتُ أمامي بذهول، مذهولًا من خلوّ ذهني. كان شعورٌ بالهبوط يغمر صدري، وبدأتُ أرتجف في داخلي بذعرٍ صامت.
وفي تلك اللحظة، أُقفِلت الأصفاد حول يدي الممتدّة.
***
جُررتُ مقيّدًا إلى مكانٍ آخر.
لم يُسحبوني بعنف. بل تبعتُ الأوامر طوعًا، مصعوقًا من هول الصدمة التي خلّفها فقدان ذاكرتي. كالأبله، سرتُ خلف المرأة التي تُدعى آمي.
أولئك الذين كانوا في الغرفة أحاطوا بي؛ رو، الرجل ذو الشعر المجعَّد، كان يسير إلى يساري. ورجلٌ طويل ذو عينين ناعمتين الملامح رافقني من جهة اليمين. وخلفي جاءت فتاةٌ صغيرة بشعرٍ ثنائيّ اللون، ورجلٌ مقنَّع تمامًا يغطي قناعه أنفه.
بدا المشهد أشبه بمرافقةٍ لضيفٍ رفيع المستوى.
لكن في الحقيقة، لم تكن حماية، بل مراقبة.
سرنا عبر ممرٍّ واسع، ثم دخلنا إلى غرفة.
كانت فيها بعض الطاولات والكراسي البيضاء المبعثرة هنا وهناك.
بدا المكان وكأنه يُستخدم للاجتماعات، أو لا يُستخدم أبدًا.
سحبت آمي كرسيًّا من إحدى الطاولات في منتصف الغرفة.
وما زلتُ مقيّد اليدَين، جلستُ عليه مطيعًا.
“السيد هيلدي؟”
“نعم؟”
“سأخرج لإجراء مكالمة بسرعة.”
رمشتُ بحيرة من إعلانها المفاجئ.
تحدّثتُ إليها بتلعثم، وأنا أحدّق بها ببلاهة.
“آه، نعم. بالطبع. لا بأس، خذي وقتكِ في المكالمة.”
ابتسمت الفتاة الآسيوية ابتسامةً مشرقة، وعيناها انحنتا كالأهلة.
فتحت الباب الأمامي وغادرت إلى الرواق.
وهكذا، خيّم السكون على الغرفة المرتّبة. جلس الجميع في أماكنهم بصمتٍ دون أن ينطقوا بكلمة. كانوا كأنهم ينتظرون شيئًا، لكن لم يكن هناك ما يوحي بتغيّرٍ قريب.
فلأغتنم هذا الوقت في التفكير.
قررتُ أن أستغلّ هذا الهدوء لأتذكّر من أكون.
هذا جنون. لماذا لا أذكر شيئًا سوى اسمي؟
كثيرٌ من الأشياء تلاشت من ذاكرتي. بل، معظمها اختفى. كأن أحدهم غسل ذاكرتي بالماء ومسح كل شيء. منذ أن وُضعت الأصفاد في معصمي، وأنا أحاول أن أتذكّر من أين جئت، ومن أكون، لكني لم أصل إلى شيء.
لم تظهر سوى ذكريات متفرّقة لا طائل منها. جلوسي في المقعد المجاور للسائق، أحدّق من النافذة. لعبُ لعبةٍ إلكترونية على جهازٍ لا يكاد يكبر راحة يدي.
قطّبتُ جبيني وعدّلت جلستي.
“هل تحتاج إلى الذهاب إلى الحمّام~؟”
قال الرجل الجالس بجانب رو فجأة، بنبرةٍ مرِحة.
“إن كنتَ بحاجة، فقط أخبرنا~….”
رمشتُ في وجهه.
“لا، أنا بخير.”
اعتدلتُ في جلستي ونظرتُ إليه.
“لكن أشكرك على سؤالك.”
“فقط أعلمنا في أي وقت إن احتجتَ~.”
انحنت عيناه كأنهما هلالان، وتقلّصت بؤبؤتاه الخضراوان المائلتان إلى الزُرقة.
آه. إنه حادّ الإدراك.
قررت في اللحظة ذاتها أنه من أولئك الذين لا يُستحسن إغضابهم.
كان يرتدي ابتسامةً دائمة، لكن خلفها يقبع طبعٌ حادّ ومزاجٌ متقلّب.
اتكأ الرجل ذو العينين الخضراوين على كرسيٍّ قرب اللوح الأبيض. أسند ظهره، ووضع ساقًا فوق الأخرى، وقد دسّ يدَيه في جيبَيه، ومع ذلك، لم يُبدِ أيّ بادرة ضعف.
بلا شك، هو من أولئك الذين لا ينبغي معاداتهم.
وبينما كنتُ أحدّق في عينيه الطويلتين الضيّقتين، وشعره الأسود، وملامحه المتقنة، قلتُ بأدب.
“شكرًا لك.”
“لا داعي لذِكر ذلك….”
“هيه.”
نادى رو فجأة، وهو يعبث بهاتفه إلى جانب الرجل ذي العينين الخضراوين.
“نعم؟”
“من أين جئت؟”
اتّكأ رو إلى الوراء في كرسيّه، محرّكًا ساقه بتكاسل.
“ألم تقل إنك لا تتذكّر؟”
“نعم. أنا آسف. أحاول التذكّر، لكن لا تخطر ببالي سوى ذكريات تافهة.”
“مثل ماذا؟”
“…حسنًا، مثل لعبي بجهاز ألعابٍ محمول، مثلًا….”
عقدتُ حاجبَيّ، محاولًا أن أستحضر شيئًا مفيدًا حقًا.
لكنني فشلتُ مجددًا. ومرّت أمام ناظريّ مشاهد مبعثرة لا رابط بينها؛ غرفةٌ مرتّبة، على طاولتها تفّاحتان، وقطعة كعك نصف مأكولة، وزجاجة قهوة بالحليب مغروزة بها شفاطة.
زفرتُ تنهيدةً قصيرة.
“…أنا آسف. لا أستطيع تذكّر شيء يستحقّ الذكر. الغريب أنني أذكر اسمي فقط، ولا شيء آخر عن نفسي.”
“هل تُراهُ قد مُحيت ذاكرتك أثناء انتقالك عبر البوّابة….”
تمتم الرجل ذو العينين الخضراوين.
“قيل إن مثل هذه الحوادث وقعت من قبل، لكن لا أعلم مدى مصداقية تلك التقارير….”
“ما الذي يجري بحق الجحيم؟”
ارتفعت حدّة صوت رو فجأة.
“دخلنا خمسة أشخاص. قد أكون غبيًا، لكني أعلم جيدًا أن من يدخل خمسة، يخرج خمسة. لكن عندما عدنا، صرنا ستّة. كيف يعقل هذا؟”
“حسنًا، الأمر غير منطقي، ولهذا بالضبط نحن هنا ونتحدّث بشأنه~.”
قال الرجل ذو العينين الخضراوين بكسل، وهو يُميل رأسه قليلًا.
“كنتُ أريد فقط أن أعود إلى المنزل، أغتسل، وأدخّن. يا إلهي، أريد أن أنهي عملي فحسب….”
“أنا آسف.”
اعتذرتُ لا إراديًّا حين لاحظتُ أن ابتسامته قد تلاشت.
“يمكنك أن تدخّن هنا إن أردت. لا مانع لديّ.”
التفت رو والرجل ذو العينين الخضراوين، اللذان كانا سارحَين في الفراغ، نحوي فجأة. حتى الواقفين خلفي، شعرتُ بنظراتهم تلسع مؤخرة رأسي.
أشعر وكأنني حيوانٌ في قفصٍ داخل حديقة حيوان.
قابلتُ نظراتهم بابتسامةٍ ساخرة، أقاوم ضغط الصمت المخيف.
لكن، قبل أن أنطق بكلمة، فُتح الباب بعنف.
“لا توجد أيّ بيانات!”
دخلت آمي مُسرعة، واتّسعت عيناها دهشة.
“لا يوجد أحد يحمل وجه هيلدي أو الاسم هيلديبرت طالب في المركز النواتي، ولا في أيّ من النوى الأخرى.”
“جدّيًا، من أنتَ بحق الجحيم؟”
ضاقت حاجبا رو الغليظان وهو يحدّق بي بغضب.
“من أين أتيت؟”
“…أنا آسف. لكني في الحقيقة حائر مثلك تمامًا….”
“على أيّ حال، سكار قال إنه سيتواصل معنا.”
لوّحت آمي بيديها بيني وبين رو، وكأنها تحاول تهدئتنا.
“حتى يحين ذلك، فلنهدأ وننتظر بهدوء، حسنًا؟”
راقبتُ آمي وهي تغلق الباب وتعود نحوي. كانت البندقية التي كانت تحملها قد اختفت، دون أيّ أثر.
وحين اقتربت، حاولتُ أن ألتقط أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات. فبعد أن مُحيت ذاكرتي، كنتُ كرضيعٍ يتعلّم كل شيءٍ من جديد. من هو سكار؟ ما هو المركز النواتي؟ وما المقصود بالنواة أصلًا؟
والأهم، من أين أتيت؟
حاولتُ أن أتذكّر بلدي الأصلي.
لم أنسَ أسماء الدول. أمريكا، إنجلترا، أستراليا. كلّها خطرت ببالي. لكن التفصيلة الحاسمة، أيها أنتمي إليه، بقيت غامضة.
وحين وضعت آمي كيسًا ورقيًّا على الطاولة، سألتُها.
“أين نحن الآن؟”
رفعت آمي ورو والرجل ذو العينين الخضراوين رؤوسهم إليّ.
“أعني الدولة. في أيّ بلدٍ نحن الآن؟ هل هذه أمريكا؟”
تغيّرت تعابير وجوههم.
وحلّ صمتٌ غريب على الغرفة.
تسلّلت إلى المكان توتّراتٌ مبهمة لم تكن موجودة قبل لحظة.
رمشتُ بدهشة من تغيّر الأجواء المفاجئ.
لماذا؟
وانفردتُ بالذعر في الصمت.
ما الذي يعنيه ردّ الفعل هذا…؟
كان رو أوّل من كسر السكون، بصوتٍ مشحونٍ بالضيق.
“ما الذي تقوله الآن بحق الجحيم؟”
“الولايات المتحدة لم تَعُد موجودة.”
قاطع الرجل ذو العينين الخضراوين ردّ رو الغاضب.
وكانت عيناه الحادتان تخترقان عينيّ، كأنه يحاول النفاذ إلى أعماقي.
“لقد مضى وقتٌ طويل منذ أن سمعتُ هذا الاسم…….”
رمشتُ من غرابة الجواب.
“عذرًا؟”
“أنا أقصد أن الحدود لم تَعُد موجودة. أبناء هذا الجيل بالكاد يدركون معنى كلمة دولة أصلًا. بالمناسبة، هل تذكُر كم عمرك~؟”
“هاه؟ لا…أنا آسف، لكن…لا أذكر ذلك أيضًا…ماذا؟”
تلعثمتُ في الكلام، ولم أجد ما أقوله سوى إعادة نفس الكلمات. ماذا؟ عذرًا؟ ما الذي يقصده؟ كلام الرجل ذي العينين الخضراوين بدا غريبًا، وكأنه لا يحمل أي معنى منطقي.
لكنه أعاد ما قاله بهدوء. لم تَعُد هناك حدود. الجميع يعيش الآن في نُوَى. حاولتُ أن أوفّق بين شتات ذاكرتي وهذا الواقع الجديد، لكن الأمر بدا عبثيًّا.
كنتُ أعلم أنه كانت هناك دولٌ مختلفة فيما مضى.
بعضها ما زلتُ أذكره بوضوح. أمريكا، بريطانيا، الصين، الهند.
لا بدّ أنني بقيتُ في حال من الذعر لفترة طويلة.
وفي النهاية، أجبرتُ نفسي على أن أُعيد تركيز حواسي، وأنتشل ذهني من الانهيار. كانت الغرفة ساكنةً ساكنة. أضواءٌ فلوريّة بيضاء تتدلّى من السقف. رائحةُ خشبٍ لطيفة تنبعث من الطاولة أمامي. وأولئك الثلاثة، يراقبونني بصمت، ينتظرون كلمتي.
شعرتُ ببرودة الهواء تلامس جلدي حين فتحتُ فمي أخيرًا.
“إذن، من أين أنتم؟ أعني…بلدانكم الأصليّة، أو بالأحرى، هل تقصدون أنكم لستم من أيّ دولة؟ ما معنى أن الحدود قد اختفت؟”
“آه.”
ابتسم الرجل ذو العينين الخضراوين ابتسامةً باهتة، وقد كان جالسًا بلا حراك، وساقاه متشابكتان.
“ذلك سؤالٌ صعب~. لكن، لحسن الحظ، نحن الثلاثة أكبر سنًّا قليلًا، لذا لا زلنا نذكر. كنتُ في الأصل من إيطاليا~. أما الآن فأنا من مواطني النواة المركزية.…”
“صقلية.”
(إقليم في إيطاليا.)
قاطع رو بلهجة جافة.
“أما الطفلان خلفك، فهما من النواة المركزية. وتلك القصيرة من الصين.”
“قلتُ لك إنني من كوريا!”
صاحت آمي، التي كانت تراقبني بعينين واسعتين فضوليتين، فجأة وهي تلوّح بذراعيها باحتجاج.
فزعت من صراخها المفاجئ، وارتجفت لا إراديًّا. وبينما أحدِّق فيها بدهشة، ضحك الرجل ذو العينين الخضراوين بهدوء. آمي، سواء لم تلحظ أو لم تُبالِ، ضربت كفّيها على الطاولة وحدّقت بـ رو بغضب.
“لقد قلتها لك عشرات المرّات! أوبا يون وأنا كوريان! جو هو من الصين، إنه مدير الموارد البشرية!”
“آوه، حقًا؟ حسنًا، لا يهم.”
“لا يهم؟ هراء! مضى على صداقتنا أربعون عامًا، كيف لا تزال لا تذكر جنسيّتي الأصلية؟!”
“بما أننا نتحدّث عن هذا، أين مدير الموارد البشرية؟ ظهر شخص غريب من العدم، أليس من المفترض أن يكون هنا؟”
“السيد جو لن يأتي.”
قالتها آمي فجأة، بعينين واسعتين ونبرة لا مبالية.
رأيتُ رو والرجل الأخضر العينين يرمشان في آنٍ واحد.
ثم أضافت آمي، ببرودٍ مستغرب من وجهها المستدير.
“قال إن الأمر لا يبدو عاجلًا، وليس ثمة ما يمكن فعله حالًا على أيّ حال.”
“اللـ*ـنة. إذا لم يكن ظهور شخصٍ عشوائي من العدم أمرًا عاجلًا، فمتى يكون العَجَلُ إذن؟”
“لا أدري.”
“أبلغتِ القائد العام بهذا، أليس كذلك~؟”
سأل الرجل الأخضر العينين بتكاسل.
“ماذا قال……؟”
“قال إنه سيأتي حالما يتسنّى له. في الوقت الحاضر، سيتولّى نائب القائد سكار الأمر. جون وأوبا يون يفحصان حالة البوّابة. صامويل مستعد لإجراء فحص جسدي للسيد هيلدي. وقسم الموارد البشرية جهّز بالفعل جهاز كشف الكذب.”
“…عذرًا.”
نطقتُ بتحفّظ، وشعرتُ في الحال بثقل الأنظار يرتدّ إليّ. لم تكن نظراتهم موضع ترحيب، غير أن السؤال الذي ظلّ يعاودني لم يبرح حنجرتي.
كنتُ أحاول أن أرتّب القطع المتناثرة من حديثهم وذكرياتي المبعثرة. على سبيل المثال. لا بدّ أنني عبرتُ من خلال نوعٍ ما من البوّابات. لم تعُد هناك دول، بلدانٌ مثل أمريكا أو الصين لم تَعُد قائمة. والناس الآن يعيشون في مكان يُدعى النواة المركزية.
الرجل والمرأة الهادئان خلفي كانا على الأرجح من أدنى الرُّتب هنا….
لكن ثمّة أمرًا واحدًا لم أستطع استيعابه أبدًا.
“…كم أعماركم، أنتم الثلاثة؟”
ابتسم كلٌّ من الرجل الأخضر العينين وآمي. وامتدّت على وجه رو ابتسامة ماكرة.
حدّقتُ بهم بذهول، ووجوههم مشرقة مفعمة بالتسلية، كأنهم يتحيّنون اللحظة ليمطروني بنكتة كونية.
ثم قالت آمي، وهي تبتسم بمرح.
“سبعون!”
يتبع في الفصل القادم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 3 - الغرير الأسود (3) 2025-08-04
- 2 - الغرير الأسود (2) 2025-08-04
- 1 - الغرير الأسود (1) 2025-08-04
التعليقات لهذا الفصل " 1"