الفصل 9
“سأصنع لك واحدًا آخر.”
رغم أنني صنعته لغرضٍ معيّن، إلّا أنّ رؤية هيليوس سعيدًا إلى هذا الحد جعلني أشعر بوخزٍ في ضميري.
“بيليت؟ تبدين شاحبة الوجه.”
ولم أعد أستطيع التحمّل أكثر.
حاولتُ أن أرسم ابتسامة، لكنّي سرعان ما استسلمتُ.
‘معدتي… ليست بخير.’
أووَغ!
ألمٌ لا يُطاق دفعني نحو حافة الإغماء.
وآخر ما أتذكّره كان وجه هيليوس وقد بدا عليه الذهول التام، وكأنه يوشك على فقدان الوعي هو أيضًا.
***
في اليوم التالي، استيقظتُ مرّة أخرى بين ذراعي هيليوس.
‘هذا جنون.’
لا أفهم لماذا أستمرّ في الاستيقاظ وأنا أضع رأسي على ذراعه.
‘الدوخة خفّت بعض الشيء على ما يبدو.’
تحقّقت من قدرتي على تحريك أصابع قدمي، ثم بدأتُ بإيقاظ وظائف جسدي تدريجيًّا.
حرّكتُ أصابعي، ثم فتحتُ جفنيّ قليلًا.
وبعد أن فركتُ عينيّ، جلستُ ببطء.
كنتُ على وشك النزول من السرير حين…
“……؟”
ذراعٌ ظهرت فجأة ولفّت خصري بشدّة.
حدّقتُ بدهشة ثم فركتُ عينيّ من جديد.
يبدو أننا وحدنا في هذا السرير الواسع، أنا وهيليوس فقط…
“هيليوس؟ هل استيقظت؟”
“لا.”
أجاب هيليوس ببرود مدهش.
كان واثقًا لدرجةٍ جعلني عاجزة عن الردّ.
“لكن صوتك لا يبدو ناعسًا أبدًا.”
“نعم، لأنني لم أفتح عينيّ بعد.”
‘ما هذا المنطق…؟’
كنتُ على وشك الاعتراض، لكنّي عضضت لساني.
في تلك اللحظة، سقطت المنديل المبللة التي لم أكن أعلم أنها على جبهتي.
كما اعتنيتُ به عندما مرض، اعتنى هيليوس بي هو الآخر، ووضع لي منشفة مبلّلة.
“قالوا إنه أغمي عليكِ، وإنها ليست حالة نادرة، لذا تركوكِ لتنامي.”
“آه، صحيح. إنها حالة عادية.”
“ليست عادية على الإطلاق. هذه أوّل مرّة أرى فيها شخصًا يُغمى عليه.”
كان هيليوس يتحدّث بينما يُخفي وجهه.
لكنني رأيتُ كتفيه يرتجفان بخفّة.
ما به هذا الفتى…؟
“ظننتُ أنكِ ستموتين…”
“مستحيل.”
بعد صنع العطور السحرية، أُعاني دائمًا من نزيفٍ بسيط في الأنف، ودوخة، وحرارة في الرأس، وغثيان…
لكن، لن أموت.
ما زلت صغيرةً على الموت.
‘هل بدأ مفعول العطر الآن؟ أم أنّه فقط تأثّر بالهدية؟’
ضمّني هيليوس بشدّة، بل وراح يداعب وجنتي بلطف.
كان تصرّفه مختلفًا تمامًا عن الأمس.
من الواضح أنّه بدأ يُظهر مشاعر المودّة والارتياح نحوي.
إذا كان السبب هو الهدية، فذلك يبدو محزنًا قليلًا…
“أنت حقًّا مثل الأرنب الأسود.”
“حقًا؟ إذن انا أرنب.”
لِمَ هو مطيع هكذا؟
تغيّر سلوكه لدرجةٍ جعلتني أتساءل إن كان قد أصبح شخصًا مختلفًا تمامًا خلال الليل.
“قولي إنني جميل، قوليها، نونا.”
في تلك اللحظة…
رفع هيليوس جفنيه بنظرة خبيثة، وابتسم لي بسحرٍ هادئ.
هو جميل أصلًا، لكن حين يبتسم بهذا الشكل، يصبح الجمال عنيفًا لدرجةٍ تصيب المرء بالذهول.
كدتُ أعضّ لساني، لكنّي تماسكتُ وأجبتُ بثبات.
“نونا؟”
“هل لا يُمكنني مناداتكِ هكذا؟”
“لا، يمكن.”
يمكنه ذلك، لكن…
لم يسبق حتى لـبلاين أن ناداني هكذا.
كان الأمر غريبًا.
لكنه لم يكن مزعجًا.
بل أشعرني بشيءٍ دافئٍ في صدري.
كأنّ اللقب نفسه حمل مسؤولية ثقيلة فجأة.
“لقد أسعدتني الهدية التي قدمتِها البارحة.”
“آه…”
“لذلك، قررت أن أجعل من البارحة عيد ميلادي. لا أعرف متى وُلدت، لكن أريد أن يكون هو اليوم.”
كان عبير التفاح ينساب بخفة من هيليوس، وكأنه رشّ العطر مجددًا قبل أن أستيقظ.
مددتُ يدي وربّتُّ على كتفه بخفّة.
‘آه… تذكّرت فجأة.’
اسم عطري الثاني.
“دوميستيكير…”
<عطر الإخضاع>
خطر الاسم ببالي فجأة، لكنّه راقني كثيرًا.
وقررتُ أن أُهديه لـهيليوس بكل سرور.
***
شربنا أنا وهيليوس معًا جرعة شفاء واقتسمناها، فاستعدنا عافيتنا.
ورغم أنّ التعب الجسدي قد زال، إلا أنّ الإرهاق النفسي لم يختفِي كليًّا، لذا قررتُ ألّا أنزل إلى قاعة الطعام، بل أتناول الطعام في غرفتي.
‘ريتشارد موجود أيضًا، ولا أرغب برؤيته إطلاقًا.’
وبعد أن أخذتُ كل الاحتمالات بالحسبان، جذبتُ حبل الاستدعاء.
رنّ الجرس المربوط بالحبل بصوتٍ نقيٍّ وشفّاف.
لكن، رغم انتظاري، لم تأتِ الخادمة التي ينبغي أن تأتي.
تنهدتُ وأنا أستوعب الموقف.
“أتمنى فقط أن يكفّوا عن التلاعب بخادمتي…”
لا مفر.
سأضطرّ إلى تنظيف الفوضى مرّة أخرى.
صحيح أن البارحة كانت قد خرجت بسبب الفاسق ريتشارد، لكن اليوم عليها أن تقوم بعملها كما ينبغي.
مرّة.
مرّتان.
ثم خمس مرّات.
شدَدتُ الحبل مرارًا، وبعدها فقط ظهرت الخادمة.
“……هل ناديتِني؟”
دخلت الخادمة ذات الشعر المجعد وهي تترنّح، كأنّها لم تفق بعد من السكر.
وكما توقعت، كانت وقحة للغاية.
صدرها مكشوف، وتنّورتها مجعّدة، ومظهرها العام مُزرٍ.
تجاهلتُ مظهرها عمدًا، ثم أمرتُها ببرود.
“أحضري لي الإفطار. وسأستحمّ، فجهّزي لي الماء.”
“آه… حاضر.”
بوجهٍ يَغلب عليه أثر السكر، انحنت برأسها بشكلٍ غير مبالٍ وغادرت.
عندها، مال هيليوس برأسه باستغراب.
“هل هذه الخادمة… طبيعية؟”
“لا أدري… لعلّ أخي الحبيب نفخ في رأسها أحلامًا فارغة عن كونها السيدة الكونتيسة المستقبلية. تجاهل الأمر. هذه إحدى هواياته السخيفة.”
هززتُ كتفي بلا اهتمام.
ريتشارد المنحطّ يحبّ أن يُغوي الخادمات بأوهام لا يمكن لهنّ تحقيقها.
ثم ما إن يملّ منهن، يُلقي بهنّ جانبًا.
ولم أعد أحصي عدد الخادمات اللواتي تصرّفن هكذا ثم اختفين.
لكثرتهم، لم أعد أُكلّف نفسي عناء تذكّر أسمائهنّ.
“هواية بشعة.”
قال هيليوس باشمئزاز.
وأومأتُ برأسي بصمت، أوافقه تمامًا.
“أحضرتُ الإفطار، آنستي.”
كانت خادمتي الخاصة، ذات الشعر المجعّد، بطيئة جدًا.
انتظرتُ طويلًا، وفي النهاية، اضطررتُ إلى استدعاء خادمة أخرى لغسل وجهي، ورغم ذلك، استغرقت عشر دقائق أخرى حتى عادت.
وما زاد الطين بلّة، أنّها وضعت الإفطار على طاولة الشاي الصغيرة داخل الغرفة بشكلٍ فظّ.
لم تُخفِي انزعاجها، بل أحضرت ملعقة واحدة، وشوكة واحدة، وصحنًا واحدًا فقط.
“تفضّلي.”
لم يكن هناك حاجة لأن أشرح أنّ ما فعلته يُعدّ إهانة مقصودة.
ولم أكن أرغب بخوض جدال مع الخادمة.
‘إن فكّرت بالأمر، فكل هذا بسبب الكونت “ساتشيت.’
نظرتُ إلى صحن الحساء البارد الخالي من أي بخار.
حتى من دون تذوّقه، علمتُ أنّه من بقايا طعام الخدم ليلة البارحة.
نظرتُ إلى شرائح الجزر واللفت المقطّعة بفظاظة، وأطلقتُ ضحكةً ساخرة.
“هاه…”
لعلّني كنتُ مطيعة أكثر من اللازم أمام ريتشارد وأبي، ولذلك تجرّأت بعض الخادمات الجديدات على تجاوز حدودهنّ.
ما يشتركن فيه جميعًا، هو تجاهلهنّ لحقيقة أنّ كبار الخدم والوصيفات ورئيسة الخادمات يعاملونني بكل احترام.
فقط بعد أن يقضين ليلة مع ريتشارد ، يتصرّفن بهذه الطريقة.
“هل طلبتُ منك أمرًا صعبًا؟”
سألتُها بهدوء، فابتسمت الخادمة بتكبّر ونظرت إليّ من علٍ.
“إنه مزعج منذ الصباح. كان لديّ أمور أهم، لكن بسببكِ لم أستطع أن أرافق الكونت الصغير كما كنتُ أريد. لا يزال في غرفتي.”
“لكنكِ خادمتي، لا خادمته، أليس كذلك؟”
أنا لست بيليت الأصلية التي تُفرغ غضبها في الضعفاء.
لكنّي أيضًا لستُ سيّدة متسامحة.
لو تركتُها، ستتمادى في وقاحتها.
وستراقب كلّ تحرّكاتي، ثم ترفع التقارير إلى ريتشارد.
‘و لكن، معي هيليوس. وجود عيونٍ تُراقبني سيكون عائقًا كبيرًا.’
صفعة!
لم أتردّد كثيرًا.
تقدّمتُ نحوها، ثم رفعتُ يدي وصفعتها بسرعة.
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"