الفصل 8
‘مهلًا، لحظة واحدة. لماذا النافذة مفتوحة؟’
كنت مشغولة بالرائحة الغريبة لدرجة أنني أدركت الأمر بعد فوات الأوان بلحظة.
وعلى خلفيّة من الأشجار التي ما زالت تحتفظ بنضارة أوائل الصيف، والسماء الليلية بلونها النيلي الداكن، رأيتُ فتىً يقف هناك.
فتىً يملك عينين كعيني الصيف، لكن هالته الكئيبة جعلته يبدو وكأن الشتاء يليق به أكثر.
حين التقت أعيننا، بدا وكأنّه استيقظ من تأمّلٍ طويل.
“آه.”
تنهيدة قصيرة انطلقت من هيليوس، وكأنّه شخص رأى حلمًا في وضح النهار.
اقتربتُ منه بخطًى متسارعة وأنا أوبّخه بدهشة.
“مريضٌ يترك النافذة مفتوحة؟ هل تنوي أن تمرض أكثر؟”
“……كنت أشعر بالحر. أردت استعادة وعيي قليلًا.”
“الرياح شديدة. حتى لو كان صيفًا، لا يجوز هذا. التعرّض للهواء هكذا لن يزيدك إلّا مرضًا.”
أغلقتُ النافذة، ثم وضعتُ يدي على خصري وعبستُ بغضب.
“إن لم تكن ترغب بالموت من المرض، فلا تفعل هذا مجدّدًا.”
“……لأنّه مضى وقت طويل.”
“ماذا قلت؟”
“لا شيء.”
همهمة خافتة خرجت من هيليوس، وقد بدا كأنّه شخص غريب تمامًا.
لكن عندما حدّقتُ فيه ثانية وقد انتابني شعور بالريبة، اختفى ذلك الإحساس تمامًا.
وعوضًا عن ذلك، تمتم بنبرة متذمّرة بدت وكأنها صادرة من طفل يُظهر بعض الدلال.
“لماذا تأخّرتِ في المجيء؟”
“تأخّرتُ؟”
“لقد خرجتِ قبل أن أستيقظ. ولم تعودي إلّا الآن.”
كانت عيناه الجميلتان، بلون فاكهة الفراولة البرية، تمتلئان بعاطفة خفيّة من العتاب.
تردّدتُ قليلًا، محرّكة شفتيّ دون أن أتمكّن من الرد.
‘آه، صحيح. لا بدّ أن لا أحد اهتمّ لأمره طيلة الوقت.’
كنتُ قاسية.
هل يُعقل أنه لم يتناول طعامه أيضًا؟
وبينما كنتُ أفكّر بذلك، صدر صوتٌ عالٍ من بطن هيليوس.
“……!”
“…….”
صفعتُ جبيني بكفّي، ولُمتُ نفسي مجددًا على قساوتي وإهمالي.
انحنى هيليوس خجلًا، وكان لون طرفي أذنيه أحمرَ قانيًا.
“هممم. هل تريد شيئًا تأكله ليلًا؟”
“……نعم.”
“اليوم هو اليوم الذي يأتي فيه ريتشارد، لذا فإن جميع الخادمات سيكونن في قاعة الطعام. حتى خادمتي الخاصّة ستفعل ذلك، لذا…… سأذهب بنفسي إلى المطبخ. انتظر قليلًا فقط.”
كان هذا صحيحًا، لكنني قلتُه أيضًا مراعاةً لمشاعره.
لا بدّ أن صوت بطنه أحرجه.
وبعد برهة قصيرة.
كان هيليوس يأكل السندويش الذي أحضرتُه بشهيّةٍ لا تصدّق.
وضعتُ بين شريحتي خبزٍ طبقة من مربّى الفراولة الحلو، تليها شريحة من لحم الخنزير المدخّن والجبن، ثم بيضًا مسلوقًا مهروسًا ويبدو أنّ الطعم راق له.
بل وتعدّى ذلك، إذ أمسك بالوعاء وشرب منه الحساء مباشرة، وهو ما أظهر جهلَه الكامل بقواعد المائدة.
“لقد اتّسخ فمك.”
لكنّني لم أُشِر إلى ذلك الآن.
“اتّسخ؟”
“نعم، انظر. سأمسحه لك.”
في الوقت الحالي، ما عليّ فعله هو كسب ثقته، وجعل هذا الفتى يعتاد عليّ.
أخرجتُ منديلًا من صدري، ثم مسحتُ بقايا مربّى الفراولة عن جانب فمه.
وخلال ذلك، ظلّ هيليوس ساكنًا بلطافة، ويبدو كمثل أرنبٍ شبع من أكل الجزر فتمدّد براحة.
كان لطيفًا بلا شك، لكنّ جهله بأصول السلوك كان واضحًا تمامًا.
ابن دوق لا يجوز له الجلوس بهذا الشكل المريح.
“أعتقد أنّه حان وقت الدروس.”
“ماذا عليّ أن أتعلّم؟”
“سأعلّمك. كلّ ما تحتاج لتعلّمه.”
على الأرجح، يظنّ الكونت أنني أجهل شيئًا عن عائلة دوق إيجييف.
بل لم يخبرني حتى لماذا أنا مَن يجب أن يُشرف على تعليم هيليوس.
لكنّني كنت أعرف.
الكونت يعتزم، في مهرجان بداية العام هذا، أن يعلن رسميًا عن وريث دوقيّة “إيجييف” التي أُبيدت بالكامل.
وفي الوقت نفسه، سيُعلن أن ابنته قد تزوّجت مسبقًا بذلك الوريث، ممّا سيُصعد بمكانة عائلة ساتشيت خطوة نحو طبقة النبلاء العليا.
تلك المرتبة التي طالما طمِعوا فيها.
“لا أريد الدراسة. ولا أعرف حتى كيف أدرس.”
“سأعلّمك كلّ شيء، خطوة بخطوة. الأمر ليس صعبًا.”
“هُمم.”
كيف سأجعل هذا الفتى يلين؟
عندما أفكّر في الخلفية القاسية التي نشأ فيها، فإن رفضه للتعلّم أمرٌ يمكن فهمه.
لكن…
‘أنا واثقة أنّك ستبرع فيه.’
في بابل، كان هناك خمس عشائر نبلاء وأربعة منازل دوقيّة تُعدّ بمثابة زعامات.
أعلى النبلاء في المركز: “رايهرون”.
زعماء النبلاء في الشمال: “نوييرد” أصحاب السيف.
زعماء النبلاء في الشرق: “تارين” أصحاب التجارة.
زعماء النبلاء في الجنوب: “إيشيكال” أصحاب السحر.
وأخيرًا، في الغرب: “إيجييف”، أصحاب فنون السحر الميكانيكي.
لكن فعليًّا، لم يَعُد هناك وجود فعليّ لنبلاء الغرب.
‘كان من المفترض أن يكون جميع أفراد عائلة إيجييف عباقرة في الرياضيات. كلّ فرد منهم كان فيزيائيًّا ومهندسًا سحريًّا في آن معًا.’
تردّدتُ قليلًا، ثم أخرجتُ قارورة العطر.
“هل ترغب بتجريب هذا؟”
لا أريد الكثير.
أتمنّى فقط أن يجعل هذا العطر هيليوس يصغي إليّ.
“أنا صنعته.”
“أنتِ صنعتِ العطر؟”
“نعم. صنعته وأنا أفكّر بك. هديّة.”
لم أكذب.
فقط أخفيتُ جزءًا وقلت النصف الآخر.
هيليوس نظر إلى زجاجة العطر بنظرة حذرة، ثم أخذها فجأة من يدي.
“لأنّك أعطيتني طعامًا، فسأدعك ترشيه.”
رغم كلماته المتجهّمة، إلا أنّ طاعته كانت لطيفة بعض الشيء.
“تششّ!”
ما إن رُشَّ العطر، حتى انتشر عبير غنيّ من التفاح والكراميل حول هيليوس.
العطور ممتعة حقًّا.
تختلف رائحتها حسب الشخص الذي يرتديها، إذ تختلط بعطر جسده، فإما أن تُصبح أغنى أو أكثر برودة.
كثيرًا ما يطغى عطر الجسد على العطر نفسه.
ولهذا السبب، حتى إن كان العطر نفسه، فإنّ رائحته تختلف حسب مَن يرتديه.
وفي حالة هيليوس..
“تارت تاتان……؟”[هي فطيرة تفاح مقلوبة، تُحضَّر عن طريق طهي شرائح التفاح أوّلًا بالزبدة والسكر حتى تتكرمل، ثم تُغطّى بالعجين وتُخبز في الفرن. بعد الخَبز، تُقلَب الفطيرة رأسًا على عقب، ليصبح التفاح المكرمل في الأعلى.]
رائحة شهية فعلًا!
“تارت تاتان؟”
“آه، لا شيء. فقط شعرتُ بأنّ الرائحة أصبحت أكثر حلاوة…”
فكّرتُ في الزبدة المذابة برقة داخل وعاء زجاجي نقي.
ثم يُكسر البيض ويوضع الصفار فقط، وتُضاف إليه الدقيق المُنخّل بدقة، ونخلط حتى نحصل على عجينٍ طريّ.
فوق ذلك العجين، تُرتّب شرائح التفاح المطهوّة بعناية، مع ضرورة إضافة رشة من القرفة.
وأخيرًا، يُصبّ صوص الكراميل الذهبي المصنوع من السكر المُذاب والزبدة على وجهها.
ثم تُخبز دافئة لتُصبح حلوى تارت إسفنجية لذيذة.
‘آه… لماذا أتخيّل هذا فجأة؟’
أدركتُ نفسي، ولم أستطع كبح الشعور الذي فاض من صدري.
هذا العطر يليق بـهيليوس بشكلٍ يفوق التوقّع.
لا أستطيع تخيّل أحدٍ سواه يستخدمه!
أما عطر “أنخيلو إليميتادو” الذي يستخدمه آمون فلم أُصمّمه خصّيصًا له.
لذا لم يُحرّكني بهذه الطريقة…
‘هذا شعورٌ يكاد يُبكيني.’
وضعتُ يدي على صدري، وزفرتُ تنهيدةً سعيدة.
وخلال ذلك، كان هيليوس يضع أنفه على معصمه ويشمّه بفضول.
انتظرتُ بصمت، خشية أن يحدث شيءٌ سحريّ، لكن لم يحدث شيء.
لم يبدو أنّه رأى وهمًا أو خيالًا.
‘حسنًا، لا يجب أن أظنّ أن كلّ عطرٍ أصنعه سيُحدث معجزة.’
ورغم أنني شعرتُ بشيءٍ من الحزن، إلا أنّني لم أكن محبطة.
يكفيني أنني صنعتُ عطرًا يليق بشخصٍ ما تمامًا.
‘ربما… يمكنني أن أسلك هذا الطريق مستقبلًا.’
إن أصبحتُ صانعة عطور، فلن أضطر للقلق بشأن لقمة العيش.
وإذا استطعتُ الخروج من هذا القصر بسلام، فربما أستقرّ في بلدة صغيرة هادئة على شاطئ البحر.
لقد ادّخرتُ مبلغًا لا بأس به من بيع عطر “أنخيلو إليميتادو”.
‘سأشتري بيتًا صغيرًا، وأقوم بتنظيفه وترتيبه بيدي… كم أتمنّى ذلك…’
آه، أشعر بالدوار.
صناعة ثلاث زجاجات من العطر دفعة واحدة أثّرت عليّ بشدّة.
يبدو أنني بحاجة للاستلقاء حالًا.
كان ذلك بمثابة إنذار.
“شكرًا.”
في تلك اللحظة، همس هيليوس بصوت خافت وهو ينحني قليلًا.
كانت عيناه تميلان إلى الاحمرار.
“هذا… أوّل هدية في حياتي.”
“……آه.”
“سأحافظ عليها جيّدًا. لكن… كيف سأرشه إذا كان ثمينًا لهذا الحد؟”
ترجم:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"