الفصل 17
“أمرني والدي أن أعتني به دون أن تُصاب شعرةٌ منه بأذى. لو أصيب هيلوس، فالمسؤوليّة تقع عليّ.”
بدت ملامح بيلييت حادّة كحدة السيف.
في هذه المرحلة، بات من الظلم فعلًا، لكنّ الملامة تقع على من بادر بالهجوم.
أما المحرّض؟ فبريء.
لا سبيل لإثبات العكس، والأمر يثير السّخط حقًّا.
خلف بيلييت التي كانت تُلقي بكلماتها بحدّة، التقت عينا هيلوس بعيني بلين، وقد بدت عليه نظرات حزينة كعيني حملٍ صغير.
وفي تلك اللّحظة، ابتسم هيلوس بخفوت دون أن يُصدر صوتًا.
وفي عينيه الحمراوين تلألأ بريقٌ ساخرٌ كأنّه يقول ‘مُضحكٌ حدّ الموت’.
حينها رفع بلين يده إلى عنقه بغيظ.
‘ذاك… ذاك الوغد!’
الوحيدة التي لم تدرك شيئًا كانت بيلييت.
قبض بلين بقوّة على الشوكة التي بيده، ثمّ عضّ شفته السفلى بعنف.
“أنتِ لا تعلمين شيئًا.”
“ماذا قلت؟”
“لا شيء.”
لا فائدة من الكلام، فلن تُصدّقني.
اندفع بلين، وقد تملّكه الغيظ، فرمى بالشوكة بعيدًا، ثمّ استدار بجسده بعنف.
غمره شعورٌ بالخذلان اجتاحه كموجٍ عارم.
***
‘ما بال هذه الأيام؟ لِمَ تحدث كلّ هذه الأمور الغريبة فجأة؟’
حتّى وجبة طعام واحدة لا تمرّ بسلام.
وبعد قليل، كنتُ أتمشّى في الحديقة وأنا ممسكة بيد هيليوس الذي احمرّت وجنتاه قليلًا.
كان يبدو منقبض المزاج بعض الشيء، وكان لطيفًا بحقّ، لكنّ قول ذلك بصوت عالٍ قد يبدو وقاحة، لذا فضّلتُ أن أُبقي فمي مُطبَقًا.
“بيلي.”
“همم؟”
“لو أُتيحت لكِ الفرصة للخروج من هنا، هل ستفعلين؟”
كان سؤالًا مفاجئًا.
أوراق الأشجار الخضراء كانت تلمع وهي تتمايل مع النسيم، وأشعة الشمس تتسلّل من بينها في مساءٍ متأخّرٍ هادئ.
سؤالٌ يليق بلحظة تهدئة القلوب بعد فوضى عارمة.
أومأتُ برأسي كمن أُسِرَ.
وقد تحقّقتُ مسبقًا من خلوّ المكان من آذانٍ تتنصّت.
“بالطبع أرغب.”
“فهمتُ. كنتُ أظنّ أنّك لا ترغبين، لأنّك لا تخرجين أبدًا.”
آه، هل كان يقصد مجرّد الخروج من المنزل؟
ظننتُ أنّه يسأل عمّا إذا كنتُ أرغب في مغادرة هذا القصر إلى الأبد.
ربّما بالغتُ في تأويله.
“أرغب في الخروج أيضًا، لكن لا يُتاح لي ذلك كثيرًا.”
إن أردتُ الخروج، فعليّ أن أرافق أحد إخوتي.
لكن… هل أنا من ترغب حقًّا بالخروج؟
“إذًا، إن سُمح لكِ بالخروج، فستخرجين؟”
“نعم، أظنّني سأفعل.”
ذلك العطر الذي صنعتُه مؤخرًا…
لو خرجتُ به هذه المرّة، فقد أتمكّن أخيرًا من الذهاب إلى السّوق السّوداء وبيعه بنفسي…
‘أوه، تذكّرت. في هذا الموضع من القصّة الأصليّة، تخرج بيلييت في زيارة للخارج.’
السبب؟ كان قدوم مهرجان رأس السنة، وشراء جواهر جديدة.
وكان المرافق هو ريتشارد.
أما المكان، فكان مجرّد متجر بسيط في شارع المجوهرات.
‘إن كان هذا ما سيحدث فعلًا، فلمَ لا أحرّف مجرى الأمور قليلًا لصالح نفسي؟’
كأن أُصرّ على شراء قطعة نادرة لا تُباع سوى في السوق السّوداء، مثلًا؟
أمّا هيليوس، فقد ظلّ يتأمّل جانب وجه بيلييت الغارق في التفكير.
ملامح وجهها الصغيرة المتناسقة كانت غاية في الجمال.
‘أنتِ ذكيّة… مجرّد تلميح بسيط، كفيلٌ بأن يجعلكِ تغيّرين مسار تفكيركِ تمامًا.’
ما ينقصها فقط هو قليلٌ من الثقة بالنفس بسبب بيئتها المحيطة.
لكن إن تغيّرت بيئتها، فستحلق بجناحين وتنسج الحياة التي تريدها بيدها.
لقد شهد بنفسه في الدورات السابقة على هذا الجانب من بيلييت.
رغم التهديد الدائم بالموت، كانت دومًا ثابتة شامخة.
ولهذا السبب… كان يحبّها.
‘أنتِ لا تنكسرين. لا تعرفين للانهيار سبيلًا. وتعلّمتُ منكِ الكثير بفضل ذلك.’
هذه المرّة، المعلومات التي تملكينها تختلف عن تلك التي امتلكتِها من قبل.
فكيف يا تُرى ستتصرفين الآن؟
كان هيليوس ينتظر ذلك بشغف.
***
تبقّى على مهرجان السنة الجديدة 3 أيّام.
كنتُ جالسة داخل عربةٍ بلا أيّ شعارٍ يدلّ على عدن انتسابها لعائلة، وهي عربة مخصّصة للطرقات الخلفيّة.
مظهرها الخارجي كان باليًا كأنّه خردةٌ مضى عليها أكثر من عشر سنوات.
لكن ما إن تدخلها حتى تُدرك أنّها شيءٌ آخر تمامًا.
مقاعدها مغطاة بجلد الفهد الأسود، والأرائك غارقة في النعومة.
المائدة مذهّبة ومطعّمة بالجواهر، والديكورات الداخليّة فاخرة حدّ الدوار.
وفوق كلّ هذا، كانت العربة مصنوعة من مواد شديدة الصلابة.
بل إنّها تحتوي على أدوات سحريّة لعزل الصّوت، وُضِعت فيها منذ زمن آل إيجييف، ما يجعلها مثاليّة لأحاديثٍ سريّة.
طبعًا، يبدو أنّ ريتشارد يستعملها “لأغراض أخرى”، لكن…
كنتُ جالسة على الأريكة بوجهٍ متجهّم، وقد فرشتُ عليها بطّانيّتي كي لا تلامسني.
لو كنتُ ذاهبةً إلى متجرٍ عادي كما في القصّة الأصليّة، لركبتُ عربةً تُعلن جهارًا أنّي من آل ساتشيت.
لكنّ وجهتي اليوم كانت السوق السّوداء، لذا ركبتُ هذه العربة المتخفّية.
“أجل، من الجيّد أن تبدئي برؤية أعمال العائلة الآن.”
اخترتُ التوقيت المناسب، وذهبتُ إلى الكونت، فنلتُ الإذن.
الخروج من المنزل دون مرافق، ولقاء آمون بعد الوصول.
فالسّائق، المتنكّر في هيئة مزارع، سيُرافقني حتّى بوّابة السوق.
‘أن يُطلب منّي الآن رؤية أعمال العائلة… يعني أنّهم لا ينوون التخلّي عنّي حتّى بعد أن يستعيد هيليوس لقب دوق إيجييف.’
يريدون أن يُبقوه كزوجٍ معتمد… هكذا بدا واضحًا تصميمهم.
“سيّدتي، لقد وصلنا.”
“شكرًا لك.”
العاصمة بابل، مدينة آشيريا.
كانت هذه المدينة مركزًا تجاريًّا تعجّ بجماهير الإمبراطوريّة.
صاخبة، فوضويّة، بلا نظام.
وكعادة المدن المكتظّة، يزدهر فيها عالم الخفاء والطرقات الخلفيّة.
توجد ثلاث أسواق سوداء في هذه الأزقّة، وهي: <مخلب السلمندر>، <دمعة الحوريّة>، و<سنّ التمساح>.
أصغرها حجمًا هو <سنّ التمساح>، وهو مملوكٌ لعائلة ساتشيت.
‘الكونت يرغب في توسيع هذا السوق، ولهذا عيّن آمون كمديرٍ عامّ عليه.’
وصلتُ إلى بوابة السوق، وكان رجال الحراسة منظمين وقساة الملامح.
وقفتُ أمام الباب الأسود القاتم، كأنّي جسمٌ غريبٌ تمامًا عن المكان.
كون السوق تابعًا للعائلة، لم يكن عليّ إخفاء شعري الأحمر.
لكنّني لم أظهر بعد رسميًّا في المجتمع المخملي، لذا وضعتُ قناعًا أبيض يُشبه زهرة الورد ليُخفي وجهي.
“عذرًا، لا يُسمح لكِ بالدخول.”
في تلك اللحظة…
وقف أحد الحراس الضخام في وجهي.
رفعتُ حاجبيّ، ثمّ تكلّمتُ بهدوء.
“أين آمون؟”
“عفـوًا؟”
“قال إنّه سيبلّغكم مسبقًا.”
وإن لم يكن قد قال، فهذه إحدى ألاعيبه.
لا بدّ أنّ والدي اخبره بقدومي اليوم.
‘آمون لا يتركني واقفةً في الخارج عبثًا، هذا ليس من طِباعه.’
ثلاثة…
اثنان…
واحد…
“هذا الحارس لم يُطعكِ؟”
ومن خلفي، وبدون أيّ صوتٍ يُذكر، لفّتني ذراعان.
أريجٌ مألوفٌ اجتاحني، عطر أنخيلو إليميتادو الخاص بآمون.
برغموت، طحلب البلوط، رائحة سجائره الخفيفة، ونفحة دمٍ خافتة.
“هـ-هـيييك! س-سيّدي آمون…!”
الحرّاس ارتعدوا كالأطفال، وشحبَ لونهم من الفزع.
“هل تركتَ أختي واقفةً هنا؟”
“لا يا سيدي! لم أكن أعلم! أقسم أنّي لم أكن أعلم! لو علمتُ أنّها سيّدة نبيلة، لما… لما تجرأتُ قطّ!”
ارتجف الحارس بقوّةٍ مؤسفة.
من ردّة فعله، كان واضحًا مدى الرّعب الذي يُثيره آمون فيهم.
تنهدتُ قليلًا، ثمّ التفتُّ إلى آمون الذي أسند ذقنه على عنقي، وهمستُ:
“لا تفعل هذا.”
“ماذا؟”
“لا تُزعج الآخرين عبثًا… أرجوك.”
في عينيه البنفسجيتين المتوهّجتين، ومضةٌ مشاكسةٌ غير قابلةٍ للترويض.
“كما تشائين.”
رجل لا يخضع لأيّ معيارٍ أخلاقي.
لا وسيلة للتفاهم معه سوى التوسّل.
لكنّه كان يستجيب حين يكون في مزاجٍ جيّد… وكان يبتسم دومًا حين يراني.
لا أدري لماذا، فحتى الرواية لم توضّح ذلك…
لكن رائحته كانت تخبرني.
كنتُ أستطيع تخمين مشاعر الآخرين من خلال رائحتهم، وآمون كانت تفوح منه دومًا رائحةٌ عذبةٌ خفيفة عندما ينظر إليّ.
“هذه المرّة، أحضرتُ العطر بنفسي. لن أدفع لك عمولة.”
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"