الفصل 16
قدرتي على صنع عطورٍ وهميّة ليست بالأمر الهيّن.
لا أعلم شيئًا عن السحر، لكنني أظن أنّها من ذلك النوع.
ولو أردتُ معرفة حقيقة قدرتي، لكان من الأسهل والأدق أن أسأل دوق إيسيكل…
ألن يُبدي اهتمامًا بي إن كشفتُ له عن هذه القدرة؟
وربّما، إن قلتُ له إنّني سأكون نافعةً للعائلة بأيّ شكلٍ من الأشكال، يتكرّم ويكون وصيًّا عليّ.
“الخبز المقدَّم قبل الطعام، يجب أن آخذ الذي على يساري، أليس كذلك؟”
“صحيح. آه، ليس ذلك الشوكة، بل التي أمامك يجب أن تستخدمها أولًا.”
“هممم، الأمر صعب يا نونا.”
“عليك أن تمسك الشوكة بهذه الطريقة، لفّ يديك بخفّة على ظهرها. لنجرّب مجدّدًا، هيّا يا هيليوس.”
وكأنّ ما حصل قبل أيّام لم يكن سوى كذبة، كانت لحظة الطعام اليوم هادئةً للغاية.
على عكس الصباح، يكون أفراد العائلة مشغولين في فترة ما بعد الظهر.
الكونت ساتشيت قد خرج على الأرجح لأجل أعماله، وريتشارد في سابع نومة.
أما بلين، فلا بدّ أنّ له مهمّة ما، لذا لم يبقَ سوانا هنا.
“بالمناسبة، بيلي.”
“همم؟”
كان ذلك عندما شارفنا على الانتهاء من الطعام، وبدأت المائدة تُرفع.
في تلك اللحظة تحديدًا، حين وُضع على الطاولة بودينغ الكاسترد الحلو وفطيرة التفاح الذهبيّة.
“العطر هذا…”
أخرج هيليوس قارورة العطر من صدره.
“هل يمكنني استخدامه في فترة ما بعد الظهر، وفي المساء أيضًا؟”
“إن رغبت، فلا بأس.”
“وقبل النوم أيضًا؟”
قبل النوم… لم أكن أرى داعيًا لذلك.
ورغم استغرابي، أومأت برأسي موافقة.
فما إن ينصاع هيليوس، سأكون قد نجوت من تهديد المستقبل.
إن كان العطر هذا يؤدّي دور اللّجام، يكفيني أن ينفّذ ما أطلبه ويتوقّف عن ما أنهى عنه.
‘ترى، كم بقي منه؟’
القارورة حالكة السواد، فلا يمكن تمييز الكمية المتبقية.
وبحسب عدد المرّات التي استخدم فيها العطر، فلا بدّ أنّ نصفه قد استُهلك بالفعل.
كانت رائحة العطر المنبعثة من هيليوس أحلى من فطيرة التفاح الموضوعة أمامي.
“ممم، لا أتذكّر جيدًا. كيف كنت أمسك شوكة الحلوى…؟”
“آه، هكذا.”
ما إن وضع قارورة العطر على الطاولة، حتى أمسك هيليوس بشوكة الحلوى والسكّين.
وفي اللحظة التي بدأ فيها بتقطيع فطيرة التفاح بلُطف…
دوووم!!
انفتح الباب بعنف، فظهر بلين.
“هي. قدّموا حصّتي حالًا.”
“ب، بلين السيّد الصغير. أتيتَ؟”
“اسكت، وناولني الحلوى.”
لا أعلم ما الذي كان يفعله، لكنّ رائحة الدم كانت تفوح منه.
بل لم تكن رائحة دم شخصٍ واحد أو اثنين، بل رائحة دماء عدّة أشخاص.
رائحة نفّاذة جعلتني أقطّب عينيّ لا إراديًّا.
أجهل ما الذي كان يفعله، ولا أريد أن أعلم، لكن أرجو فقط أن يتناول حلواه ويمضي.
“تُعلّمينه آداب المائدة؟”
“نعم.”
“كم أنتِ بلهاء. في مثل هذا العمر، ويتعلّم آداب الطعام للتوّ؟”
سحب بلين الكرسي بجانبي، وجلس عليه بقسوة.
يبدو أنّ مزاجه اليوم في أسوأ حالاته.
لم يُلقِي حتى نظرة على الحلوى التي أُحضرت على عجل، بل اكتفى بالتحديق في هيليوس بنظرة نارية.
“عينيه تجلبان النحس. أصحاب هذه العيون دائمًا ما يطعنون في الظهر.”
أمسك بلين بالشوكة وراح ينقر بها على الطاولة.
تصرفٌ في غاية الوقاحة.
لكن هيليوس لم يُظهر أيّ ردّ فعل تجاهه.
كان يبدو كما لو أنّه يرفض تقديم الطعام إلى ثعلبٍ شرس.
غضب بلين، وهيليوس تجاهله.
واستمرّت هذه المواجهة الصامتة حوالي ثلاث دقائق.
ثمّ أشار بلين فجأة إلى شيءٍ ما وفتح فاه:
“ما هذا؟”
كان ما يشير إليه هو قارورة العطر التي وضعها هيليوس على الطاولة منذ قليل.
“لم تصنعي لي واحدة.”
“؟”
“قلتِ إنّك ستصنعين واحدة لي بعد آمون.”
لماذا يبدو مصدومًا هكذا؟
نظراته وكأنّه تعرّض لخيانة القرن.
أنا حقًّا عاجزة عن الفهم.
هو لم يطلب منّي أصلًا أن أصنع له واحدة.
‘هل يُفترض بي أن أفهم وأراعي حتى الطمع الذي لم يُقال؟ ما هذا بحقّ السماء؟’
حتى الأطفال لا يتدلّلون بهذا الشكل.
هو أيضًا أصغر منّي مثل هيليوس، لكن هيليوس ناضج ويُراعي الآخرين.
أما بلين، فمتهوّر ودلوع، ولا مجال للمقارنة بينهما.
“أريد أن أجرّبه أنا أيضًا.”
“هذا عطر هيليوس، بلين.”
“ولذلك، لا يُسمح لي حتى بتجربته؟”
عيونه المتأجّجة كانت تتطاير منها الشرارات.
ربّما بسبب تقارب العمر، يكره بلين هيليوس بشدّة.
بل كرهه يفوق الحدّ.
“هيليوس ضيف، يا بلين. إن أسأتَ إليه، سيغضب والدنا.”
حاولتُ تهدئة الوضع بهدوء.
لكنّ محاولتي ذهبت سُدًى.
“ذلك اللعين!”
دووش!!
لا أعلم ما الذي أثار جنونه، لكن بلين اندفع نحو هيليوس وهو يُمسك بالشوكة بإحكام.
لقد حدث كلّ شيء في لحظة.
***
كان بلين مرهقًا للغاية اليوم.
ففي الحقيقة، لم يغمض له جفنٌ طيلة اليومين الماضيين.
ميزته الوحيدة هي أنّه يتذكّر كلّ شيء.
وقد وضعه الفيكونت بجانبه لاستجواب من يُشتبه بخيانتهم أو محاولتهم للاغتيال.
حادثة سقوط الثريّا لم تكن سوى ذريعة.
ففي جميع الأحوال، كان لا بدّ من إجراء هذه التحقيقات يومًا ما.
فالعُملة المزوّرة الجديدة أكثر إتقانًا بكثير من تلك التي كُشفت من قبل، وقد أوشكت على الانتشار في الأسواق.
بسبب ذلك، ظلّ مستيقظًا طوال 48 ساعة، حتى التصقت به رائحة الدم، فازداد غضبه.
‘آه، أريد رؤيتها.’
عاد إلى المنزل شبه فاقدٍ للوعي، وسأل الخادم عن مكان بيلييت.
فتاةٌ وكأنّها خُلقت من كلّ جميلٍ في العالم.
لا تعرف شيئًا عن أجواء الرعب، ولا عن رائحة الدماء المقزّزة، ولا عن الصراخ الذي يمزّق الأذان.
لكنّ جهلها بذلك كلّه، كان أفضل.
لأنّ وجودها كان يجعل كلّ شيء يبدو بخير.
لكن… لكن ذلك الوغد كان بجانبها.
ذلك الماكر الذي يتظاهر بالبراءة بطريقةٍ تثير الاشمئزاز!
يُقال إن الناس من النوع نفسه قادرون على التعرّف إلى بعضهم بسهولة…
وقد شمّ بلين في هيليوس رائحةً مألوفة… رائحة الكذب والنفاق.
“ولذلك، لا يُسمح لي حتى بتجربته؟”
بيلييت كانت مُخدوعة.
لا بدّ أنّها تُحسن إلى شخصٍ ليس من العائلة لأنّه خدعها.
تأكّد بلين من ذلك، وتعمّد استفزاز هيليوس.
كان يعتقد أنّه إن فعل ذلك، سيُسقط هيليوس قناعه ويُظهر وجهه الحقيقي.
وحدث ذلك بالفعل.
“!”
ارتسم على شفتي هيليوس، الذي كان يُحدّق به، سخريةٌ عابرة.
كانت لحظةً خاطفة، لكنّ ذاكرة بلين الفولاذيّة التقطتها بوضوح.
رأى الاحتقار والشفقة يلوحان في تلك العينين الحمراوين.
“ذلك اللعين!”
وبما أنّه شخصٌ سريع الانفعال، لم يكن باستطاعة بلين أن يتحمّل ذلك.
وفي يده شوكة، وبدون أيّ حسابٍ أو تردّد، قفز على الطاولة مُندفعًا نحو أذن هيليوس.
بالطبع لم يكن ينوي قتله فعليًّا.
أراد فقط تهديده.
لكنه شعر أنّ هذا اللعين مجنون أيضًا، لذا لا يمكن إخافته بهذه السهولة.
ورغم معرفته بذلك، لم يستطع كبح جماح غضبه.
العطر!
كم سال لعابه وهو يرى ذلك العطر الذي لدى آمون!
كان يأمل أن يكون دوره التالي في الحصول عليه.
ولكن أن يُؤخذ منه بهذه الطريقة؟
“هق…”
لكن، ما هذا؟
تجمّد بلين حين رأى الصبي الذي تحته مُستلقيًا يبكي بضعف.
‘ما الذي يفعله هذا اللعين؟’
“بلين!!! كيف تجرؤ؟!”
دفع أحدهم كتفه بسرعة.
وبما أنّه أدرك أنّها بيلييت، تراجع بخضوع.
“دعني أرى، هيليوس!”
“آه… أنا، لا بأس…”
“لقد ارتعبتَ كثيرًا، أليس كذلك؟”
هاه.
انفتح فم بلين، وصدر منه صوتٌ كمن أُفرغ منه الهواء.
“ذلك الثعلب اللعين…”
يدّعي أنّه يبكي؟
لو أنّه خاف فعلًا، لكان يرتجف الآن!
ولم يكن ليذرف دموعًا وهو يُنزل عينيه بتلك الطريقة المتصنّعة!
“بلين، اعتذر له.”
“ولماذا أفعل؟”
حقًّا، لماذا؟
أيّ طرفٍ هو المظلوم هنا؟
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"