الفصل 15
إنّه نافع… لكنّه خطير بنفس القدر.
كلّ ما رغبتُ به هو أن يُصغي إليّ جيّدًا، لا أكثر.
هل يجوز لي… فعل هذا حقًّا؟
“لقد كان من الممكن أن تموتي، لو ساءت الأمور.”
“موتي أنا… أهون من موتكِ، نونا.”
“لماذا تفعل هذا…؟”
لكنّني عجزتُ عن إتمام كلامي.
لقد كان الفارق ضئيلًا حدّ الرهبة، ورغم ذلك، ظلّ هذا الطفل يبدو طبيعيًّا حتى في جنح الليل، مما زادني رعبًا.
أليس من المفترض أن يبكي الأطفال في مثل سنّه ويصرخوا ويصابوا بنوبات هلع؟
هل أنا مَن يُفكّر بطريقة ضيّقة؟
أيعقل أن ما يفعله ليس غريبًا حقًّا؟
“بيلي.”
في تلك اللحظة، ناداني هيليوس بصوتٍ ناعم.
“أنتِ ترتجفين.”
“هاه؟”
“تعالي إلى هنا.”
منذ متى بدأت أرتجف؟
لم أكن أدرك ذلك، لكن ما إن قالها حتى شعرتُ بالقشعريرة تسري في ذراعي.
ومع هذا، لم أستطع التحرّك.
لا أدري، لكنّني كنتُ خائفة من الاقتراب.
“أنا أيضًا… أشعر ببعض الخوف… هلّا عانقتِني؟”
“هاه؟”
“فقط… لأنّ ساقي تؤلمني قليلًا أيضًا.”
خفض هيليوس رأسه قليلًا، وعيناه المظلّلتان بانخفاض جفنيه تبرقان برقةٍ حزينة.
ثمّ ما لبثت دموعٌ خفيفة أن تجمّعت في مقلتيه.
‘آه…’
لقد كان مشهدًا مفعمًا بالشفقة إلى درجةٍ لم أستطع معها أن أقول “لا”.
وما المشكلة في العناق أصلًا؟
‘لقد أنقذ حياتي. وإن أبعدتُه خوفًا من تَعلُّقٍ محتمل قد يحدث في المستقبل، فذلك تصرّفٌ قاسٍ حقًّا… أليس كذلك؟’
وفي النهاية، زحفتُ على ركبتيّ واقتربتُ منه، ثمّ احتضنته بحنان.
وقد كانت حرارة جسده في أحضاني… لا تُزعجني البتّة.
كأنّني أعانق أرنبًا صغيرًا بحق.
بل إنّ هيليوس لم يحاول أن يعانقني بالمثل، ولا أن يفعل بي شيئًا.
كلّ ما فعله هو أن أسند جبينه إلى كتفي، وراح يحتكّ به بخفّة وضعف.
‘ربّما… كان يشعر بالخوف قليلًا في الحقيقة.’
لعلّه كان يُخفي ذلك متظاهرًا بالتماسك.
‘نعم، كيف لا يخاف؟ هذا غير معقول.’
حين فكّرت بذلك، هدأت مشاعري قليلًا.
فلو أنّ عطري قد التهم حتى مشاعر الخوف الطبيعيّة التي يجب أن يشعر بها الإنسان، فذاك أمرٌ فظيع بحقّ.
ولمّا استوعبتُ ذلك، غمرتني موجة من الذنب.
كم يكون الأمر مزعجًا بالنسبة له أن يُصاب في ساقه بسببي؟
“نونا…”
“نعم؟”
“رائحتك جميلة…”
أنا من احتضنتُ الأرنب، ومع ذلك أشعر وكأنّني أنا من يُبتلع داخله.
بعد قليل.
حين نظرتُ إلى هيليوس وهو يعانق خصري بإحكام، رفعتُ بصري إلى السماء وصلّيت.
يا إلهي.
أرجوك، امنحني القوّة لأروّض هذا الطفل.
***
“كم أنتِ طيّبة. عاجزة عن القسوة حتى.”
في تلك الليلة.
كان هيليوس يحدّق في وجه بيلييت النائمة، ثمّ نقر وجنتها بإصبعه.
“ما الذي سأفعله بكِ؟ أمثالي من الأنذال يُحدّقون بكِ بعيونٍ متربّصة.”
رغم همهمته تلك، لم يكن في ملامحه أيّ أثرٍ للدموع.
بل كانت ملامحه مليئة بالامتعاض.
بالنسبة لهيليوس، كان بلين ساتشيت شوكةً في الحلق لا يمكن ابتلاعها.
لقد قتله مرارًا في وقتٍ مبكّر، لأنّه لم يتحمّل أن تموت بيلييت على يديه.
لكن في كلّ مرّة يفعل ذلك، كانت تظهر مشكلات خارجة عن السيطرة لاحقًا.
بيلييت كانت ذكيّة، وحين بلغت سنّ الرشد، لاحظت وجود أمور مريبة حول موت بلين.
وحينها، بدأت تنأى بنفسها عنه.
كلّما قتل بلين، اكتشفت ذلك بيلييت في كلّ مرّة.
لكن إن تركه حيًّا، تموت بيلييت قبل أن تبلغ العشرين.
‘حين تموت بيلييت، أعود دائمًا إلى أوّل لقاءٍ معها.’
نعم.
لقد عايش هيليوس عددًا لا يُحصى من دوّامات التكرار.
ولو كانت مرّةً واحدة، لكانت مجرّد عودةٍ في الزمن.
لكنّنا نُطلق عليها دوّامة لأنّها تُشعره وكأنّه عالق داخلها.
فهو يعود دومًا إلى اللقاء الأول بها.
‘حسنًا، لم أعد أرغب في الخروج من هذا بعد الآن، لذا لا بأس.’
أظنّ أنّني كنتُ أقاوم في البداية…
‘لكن، لماذا أقاوم؟ لقاءي بكِ في صغركِ ممتعٌ لهذه الدرجة.’
لا زلتِ صغيرة، مشوشة، وبريئة بنفس القدر.
لكن حين تكبرين وتُصبحين راشدة، تتغيّرين وتغدين أكثر نضجًا.
ولا يمكن رؤية مثل هذا الوجه منكِ إلا الآن، في هذه المرحلة.
أليست تلك كنوزًا لا تُقدّر بثمن؟
“لكن رغم كلّ شيء، أتمنّى أن أتمكّن هذه المرّة من الوصول إلى المستقبل.”
أنتِ حين تُصبحين في الثلاثين.
ثم في الأربعين.
ثمّ في السبعين، حين تكسو التجاعيد وجهكِ.
أريد أن أرى كلّ تلك المراحل المتعدّدة منكِ.
وحين تموتين، سأعود مجدّدًا إلى البداية.
ثم أُبادر إلى إنقاذك، مرّةً تلو الأخرى، تلو الأخرى، تلو الأخرى…
وحين يقع ما لا يمكن توقّعه، تموتين مجدّدًا.
“لا بأس… حتى لو متِّ مرارًا. سأجد وسيلةً أخرى لإحيائك.”
همس هيليوس برقة، ثم قبّل جبين بيلييت.
“مجرد كونكِ تعرفينني… يُسعدني كفاية.”
وذلك… كان كافيًا حقًّا.
***
لقد مضى الكثير من الوقت، ولم يتبقَى سوى خمسة عشر يومًا على مهرجان السنة الجديدة.
خلال تلك الفترة، فشلتُ في إيجاد فرصة للنزول إلى السرداب، لكنّ ساق هيليوس، لحسن الحظ، تعافت كثيرًا.
“لن يحدث أيّ التهاب. ولن يواجه صعوبة في المشي.”
وحين سمعتُ تشخيص الطبيب، تنفّستُ الصعداء أخيرًا.
فلو تسبّبتُ بمشكلةٍ له، لانعكس ذلك على نومنا، بما أنّنا ننام معًا.
وكان من المحرج أن أستيقظ كلّ يوم ورأسي على ذراعه.
“سأُبلغ الكونت أيضًا لتطمئنّ نفسه.”
“جيّد.”
بما أنّ إصابة هيليوس لم تكن بسببي، لم يستدعني البارون ليوبّخني.
لكن لو كانت الإصابة ستؤدّي إلى عرج دائم، فلن يتركني بسلام قطعًا.
ففي مهرجان السنة الجديدة، يُقيم الأطفال رقصةً قبل بدء الحفل الرسمي. وكان الكونت يرغب أن يحظى هيليوس وأنا بالاهتمام آنذاك.
لكن لو كان هيليوس يعرج… لغضب الكونت غضبًا لا حدود له.
“إذًا، بما أنّ وقت الغداء قد اقترب، فلنراجع آداب المائدة أيضًا.”
“حسنًا.”
وتبيّن لاحقًا أنّ سقوط الثريّا كان متعمدًا، فقد قُطع الحبل جزئيًّا بشيءٍ حاد.
لكن لم يُعرَف الفاعل، ولا الهدف الحقيقيّ من الفعلة.
لذلك خيّم جوٌّ ثقيل على القصر.
ريتشارد كان يُفرغ هيستيريّته كلّ يوم، ويُعامل الخدم كالحشرات.
بينما الكونت وأمون يُسخّران كامل جهدهما لمعرفة الخونة.
الخادم الذي كان يُنظّف الأرض بالأمس…
والبستاني الذي كان يُحضر الصحف…
والخادمة التي كانت تكوي أغطية الطاولات…
بعضهم سُحب فجأة ولم يعودوا أبدًا، ما أدّى إلى انتشار الرعب في القصر.
‘في ظلّ هذا، لا أملك سوى أن أستعدّ لمهرجان السنة الجديدة.’
حتى قبل دخول هيليوس هذا القصر، كانت تحدث أمورٌ غريبة على الدوام.
لذلك تعلّمتُ كيف أثبّت نفسي وسط ما حولي.
كلّ ما عليّ فعله هو أن أُتقن ما أستطيع فعله، ولو كان صغيرًا.
“ما هو التصرف غير اللائق الذي يجب تجنّبه قبل تقديم الطعام؟”
“فتح المنديل.”
“أحسنت. وكذلك، لا تقطّعي كل الطعام دفعة واحدة. وحين تُقطّعين اللحم، انتبهي إلى زاوية ذراعكِ.”
كنتُ أشرح له بلطف ما درّستُه سابقًا.
لكنّ رأسي كان ممتلئًا بالأفكار.
‘لم يعد هناك وقت حتى مهرجان السنة الجديدة.’
فهذا المهرجان تُلزم القوانين الإمبراطوريّة بحضور كلّ دوقٍ فيه.
‘دوق إيسيكل لم يحضر حتى عيد ميلاد الإمبراطور، لكنّه رغم ذلك يظهر في مهرجان السنة الجديدة، بحسب ما هو مكتوب.’
لأنّه يُعدّ تعبيرًا عن الولاء للدولة.
والتغيّب عنه يُفسّر على أنّه خيانة.
‘في ذلك اليوم، سيكون الكونت منشغلًا بالحديث مع النبلاء، لذا ستكون فرصتي الوحيدة للقاء دوق إيسيكل وطلب الصفقة منه.’
إن لم أنجح هذا العام، فربّما في العام القادم.
وإن لم يكن في القادم، فبعده.
لديّ أربع محاولات حتى أبلغ الثامنة عشرة.
لكن… لا شكّ أنّ نجاحي هذا العام هو الأفضل.
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"