الفصل14
“كوووواااااااااانغ!!!”
قبل أن يستوعب عقلي ما الذي يحدث، وجدتُ نفسي مغطاة بشخصٍ ما، وانقلبنا معًا أرضًا.
من احتضنني وتدحرج على الأرض لم يكن سوى هيليوس.
“مـ… ماذا…!”
وفي اللحظة نفسها تقريبًا، سقط الثريا الكريستالية التي كانت فوق رأسي وتحطّمت إلى أشلاء.
تناثرت شظايا الكريستال المهشّم في الهواء.
“ما هذا بحق السماء!”
هل من الممكن أنّ بلين حاول إنقاذي أيضًا؟
من خلف الثريا المدمّرة، رأيتُ وجه بلين وقد ارتسم عليه الغضب وهو جالس كأنّه سقط على مؤخّرته أثناء اندفاعه.
“تبًا، كم كانت تكلّف تلك!”
ومن خلفه، ظهر كلٌّ من ريتشارد والكونت يتمايلان بملامح مشوشة، وكأنّ الثريا أعزّ عليهم من الأرواح.
في لحظةٍ عابرة، بدوا لي جميعًا… كالوحوش.
“نونا، هل أنتِ بخير…؟”
في تلك اللحظة، انسابت إلى أذني نبرة مغمورة بالقلق، رقيقة حدّ السكينة.
كانت نبرة هادئة لدرجة أنّني، في البداية، لم أدرك أنّ هيليوس قد أُصيب.
إلى أن… اجتاح أنفي عبيرٌ مروّع من رائحة الدم.
“هيليوس! ساقك…!”
“أعلم. هل أنتِ بخير، أختي؟”
“لا، لستُ من يجب أن يُقلقك الآن!”
دوووم!
دوم دوم دوم دوم!
قلبي راح ينبض بجنون من شدّة الرعب.
ثانيةٌ واحدة فقط.
ثانيةٌ واحدة فصلت بين الحياة والموت.
‘لو لم يكن هيليوس… لكنتُ الآن جثةً هامدة.’
كم يبلغ وزن تلك الثريا؟
بالنسبة لفتاةٍ لم تتجاوز الخامسة عشرة، فهو كافٍ تمامًا ليدفنها حيّة.
لا أعلم كيف استطاع هيليوس استباق الخطر، لكنّه رمى بجسده فوقي ليحميني، واحتضنني بكلّ قوّته.
بل إنّه دعم عنقي ورأسي بذراعه، فخفّف عني الصدمة رغم فجاءة الموقف.
غير أنّ هيليوس لم يُعر إصابته أيّ اهتمام.
‘فستاني حال بيني وبين الشظايا، لكن ساق هيليوس… يا إلهي.’
نحن في أوائل الصيف.
والصبية عادةً ما يرتدون سراويل قصيرة.
كانت ساقاه المغروستان بالشظايا تبدوان مؤلمتين إلى حدّ مرعب.
“أين الطبيب؟! استدعوا الطبيب فورًا!”
زمجر الكونت، وقد عضّ على أسنانه من الغيظ، ثمّ اندفع نحو الباب وفتحه صارخًا بأعلى صوته.
بدت عليه علامات الغضب وكأنّه يهتم أكثر بكون البضاعة النادرة قد تشوّهت.
وقفتُ بسرعة وساعدت هيليوس على الجلوس فوق الأريكة.
لم يبدُ على أحدٍ نيّة مساعدته، لذا… كان عليّ أن أفعل ذلك بنفسي.
“هذا الجرح… سيترك ندبة.”
قلتُ ذلك وأنا أتفحّص جرحه، فقهقه هيليوس بخفة.
“سيكون ذلك رائعًا. لقد أصبتُ أثناء محاولتي حمايتك.”
“وأين الروعة في ذلك…؟”
“أنا أراها كذلك.”
ابتسم هيليوس في وجهي ببراءة، وعيناه تنثنيان برفقٍ وهالة حلوة.
تلك الابتسامة أعادتني إلى يوم لقائنا الأوّل، وجعلتني… رغم أنّه أنقذ حياتي، أرتجف للحظة.
قشعريرة خفيفة تسلّلت إلى عمودي الفقري.
كان هناك شيء… شيء خاطئ بشدّة.
‘هل يُعقل أنّ العطر الذي صنعته… هو ما سبّب هذه التضحية المبالغ فيها؟’
شكرًا لك لأنك أنقذتني.
لن أنسى هذا المعروف ما حييت.
ولكن… ما كنتُ أريده هو التعلّق.
ذلك الشعور العميق بالحبّ والانجذاب، ذلك الولاء المضيء.
وليس تضحية عمياء ومدمّرة للذات على هذا النحو…!
“هيه. ألستِ تنوين مساعدتي أنا أيضًا؟”
حينها، زمجر بلين وقد ظهر على وجهه الضيق وهو يوجّه كلامه لي.
كنتُ قد تعبت من التمثيل، فرددتُ عليه بنبرة حادّة بعض الشيء:
“هيليوس تعرّض لإصابةٍ خطيرة.”
“وماذا في ذلك؟ هل هو أهمّ من العائلة؟”
“بلين. انظر إلى هيليوس! هذا الطفل في حالة لا يُمكن تجاهلها، وأنت…!”
“يعني أنّه أهمّ منّي، أليس كذلك؟”
رغم أنّي كنتُ أُحاول محاججته بالمنطق، بدا أنّ بلين قد أغلق أذنيه بإرادته.
وفي خضمّ كلّ هذا، تكلّم هيليوس بنبرة لطيفة:
“لابدّ أنّ بلين قد خاف أيضًا. اعتنِي به، فهو أخوكِ.”
“لكنّك أنت…!”
“أنا بخير.”
أنا حائرة.
لا أعلم من هو هيليوس الحقيقي.
‘هل يعقل أنّه كاد يفقد حياته لأجلي، وهو يتكلّم وكأنّ الأمر لا يعنيه؟’
أليس من المفترض أن يبكي؟ أن يُظهر بعض الألم؟
بل ما هو الطبيعي أصلًا؟
أحيانًا أشعر برعشةٍ غريبة في مؤخرة عنقي، لكن حين أسمعه يتحدّث بلطف، ألوم نفسي على شكوكي.
رأسي مثقلٌ بالهواجس.
قلبي مضطرب، ومعدتي تنقلب.
لقد اعتدتُ على سقوط فوق كثير من الأشياء فوق رأسي، لكن… ثريا؟
هذه هي المرّة الأولى التي أواجه فيها شيئًا كهذا.
“انهض، بلين.”
تماسكتُ، رغم أنّ جسدي كان يرتجف خفيفًا، ومددتُ له يدي.
غير أنّ بلين، ما إن أمسك بيدي، حتى جذبني نحوه بشدّة، ففقدتُ توازني.
بوووم!
سقطتُ مباشرةً على شظايا الكريستال المهشّم، واصطدمتُ بركبتي، فعضضتُ شفتي حابسةً ألمي.
“هَه.”
ثمّ أطلق بلين ضحكة ساخرة، وخرج من الغرفة غير آبه.
سلوكٌ لا يمتّ للذوق بصلة.
***
“ذلك اللعين… كان يعلم مسبقًا!”
بينما كان يُغادر غرفة الاستقبال على عجل، توقّف بلين فجأة في منتصف الردهة المعتمة.
عينيه امتلأتا بعداوةٍ قاتمة.
إن أردنا تسمية تلك المشاعر، فالأرجح… أنّها الغيرة.
منذ ظهور هيليوس، لم يستطع بلين السيطرة على الغليان الذي يجتاح صدره كلّ لحظة.
وانفجرت تلك المشاعر أخيرًا اليوم، حين قدّمه الكونت ساتشيت رسميًّا على أنّه…
زوج بيلييت المستقبلي.
كان شعورًا أشبه بأن يُنتزع منك لعبتك التي ظللت تحتفظ بها دون أن تلعب بها… فقط لأنّك تحبّ امتلاكها.
‘كنتُ أنا من عليه إنقاذها اليوم.’
تجرؤ على دفعي؟!
“هل نجحت، بلين؟”
اقترب منه خادم بابتسامة خفيفة وهمس له بالسؤال.
كان نفس الخادم الذي أسقط الإناء في السابق بـ’الخطأ’.
لكنّ الحقيقة أنّ ذلك لم يكن خطأً قط، كما أنّ ثورة بلين حينها لم تكن سوى تمثيل.
ذلك الخادم، بول، كان اليد اليمنى لـبلين.
“تفو. لقد سبقني ذلك اللعين.”
“عفوًا؟”
كان كلّ شيءٍ محسوبًا بدقّة.
الثريا التي جهّزها بول كانت ستسقط في التوقيت المحدّد تمامًا، وبلين كان يُعدّ الثواني.
وفي اللحظة المناسبة، كان سيلقي بجسده لينقذ فيلييت، حتى لو اضطر إلى التظاهر بالإصابة.
لكنّ ذلك الدور… اختطفه ذلك الفتى اللامع ذو الوجه المزعج.
بل دفعه أرضًا وجعله يجلس على مؤخرته أيضًا!
“كان يعلم مسبقًا، أنا متأكّد.”
في هذا القصر، هناك قانون غير مكتوب:
الأطفال قد يموتون في أيّ لحظة، إن غفلوا.
وجميع الإخوة والأخوات الذين سقطوا سابقًا…
كانوا من ضحايا آمون.
لكنّ بلين أدرك منذ وقتٍ أنّ آمون هو من سنّ هذا القانون، وبدأ باستخدامه لمصلحته أحيانًا.
لكن لا أحد… لا أحد يعلم هذه الحقيقة.
فكيف؟ كيف علم هيليوس؟
حين كانت بيلييت تلقي الشعر، لم يكن أحدٌ ينظر إلى الثريا.
وهذا طبيعي.
فـبيلييت… تشعّ نورًا.
نظراتها تخطف الأبصار، وحركاتها أرقى من كلّ ما في الدنيا، وصوتها… يُذيب القلوب.
فكيف يمكن لأيّ شخصٍ أن يُبعد عينيه عنها؟
‘كنتُ سأدّعي الإصابة وأُلزمها بالاعتناء بي لوقتٍ طويل… لأنّها السبب في إصابتي.’
بما أنّ الكونت ساتشيت أصيب في ساقه أيضًا، فلن يُرسل أيًّا منّا في مهمّة قريبًا.
كانت تلك فرصتي الذهبيّة لأظلّ بجوار بيلييت.
بل جرّبتُ السيناريو مسبقًا بسقوط إناء الزرع!
“ثمّ يأتي ويخطف المشهد؟!”
قبض بلين قبضته بإحكام، وصرّ على أسنانه بغيظٍ شديد.
غضبٌ لن يهدأ قريبًا.
***
“ماذا تشعر عندما ترشّ هذا العطر؟”
في تلك الليلة.
جلستُ على السرير مرتديةً فستانًا خفيفًا منزليًّا، أُقلّب زجاجة العطر بين أصابعي بوجهٍ جاد.
أما هيليوس، فكان يجلس مستندًا إلى الوسائد، وساقه ملفوفة بالضمادات، ثمّ مال برأسه متفكّرًا.
“أشعر بالامتنان؟”
“ليس هذا ما أقصده… أقصد، هل ترى أوهامًا؟ هل تشعر وكأنّ أحدًا يُملي عليك ما تفعل؟”
“إن كنتِ تقصدين ما حصل اليوم، فأنا فقط… أردتُ حمايتك.”
أجاب بهدوء تام، ولم ألمح أيّ كذبٍ في ملامحه.
حدّقتُ طويلًا في عينيه اللتين تشبهان فاكهة الفراولة البريّة، ثمّ أنزلتُ نظري نحو الزجاجة السوداء.
‘رغم أنني أسميتُ هذا العطر “الإخضاع” إلا أنّ عدم اكتراثه بالألم أمر… غير عادي.’
…لكنّه مفيد، أليس كذلك؟
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"