الفصل 13
ما يزال هيليوس يلهث بصوتٍ متهدّج.
“دعني أرى.”
من دون أيّ تردّد، شبكتُ أصابعي في يده.
ذلك لأنني أعلم أن هيليوس يجد الطمأنينة حين يشبك أصابعه بيد أحدهم.
“لا أحبّ أن يلمسني أحد غير نونا.”
قالها بعد برهةٍ بصوتٍ متذمّر، وقد بدا منزعجًا.
رمقتُ الخيّاط الذي تجمّد في مكانه بنظرةٍ آمرة توحي له بالمغادرة.
“أفهم. إذًا، هل تُمانع إن قمتُ أنا بالقياس؟”
أنا أعلم كيف تُقاس الأبعاد.
فقد رأيت الخيّاطين مرارًا وهم يأخذون القياسات حين كانوا يفصّلون لي أثوابي.
“…حسنًا.”
“إذًا، افتح ذراعيك قليلًا، هكذا.”
‘ما الأمر؟ يبدو كطفلٍ صغيرٍ اليوم على غير العادة.’
‘لم أكن أعلم أن لهيليوس هذا الجانب…’
رغم أن أخذ المقاسات ليس أمرًا ممتعًا، إلا أنه واجبٌ متعارف عليه بين النبلاء.
كما في قواعد الإيتيكيت، يجب التمرّس عليه إلى حدّ الاعتياد عليه كالتنفّس.[قواعد الإتيكيت هي مجموعة من السلوكيات والآداب المتعارف عليها اجتماعيًّا لتنظيم التعامل بين الأفراد بأسلوب راقٍ ومحترم.
تشمل هذه القواعد التصرفات اليومية كطريقة الكلام، الأكل، التحية، واحترام خصوصية الآخرين.
الهدف منها هو إظهار التهذيب، تسهيل التواصل، وبناء علاقات قائمة على الاحترام واللباقة.]
“سأقيس طول ذراعك الآن.”
“هل يمكن ان يكون الأمر هكذا… دومًا؟”
“همم؟ ماذا تقصد؟”
سألته مستغربةً، فهزّ رأسه نافيًا وكأنّه تراجع عن سؤاله.
غير أنّ أطراف أذنيه قد احمرّت قليلًا.
كنت مشغولة بتدوين الأرقام بريشة الحبر بعد أن انتهيت من القياس، لذا لم ألحظ ردّة فعله إلّا متأخّرة.
“هل تشعر بالدغدغة؟”
“…قليلًا.”
‘ياللروعة.’
كادت الكلمات تفلت من فمي لشدة ما راودتني الفكرة، فسارعت إلى إغلاق شفتي بيدي.
خشيت أن تجرحه كلماتي إن وصفتُه بـ”اللطيف”.
“في المستقبل، سيكون هناك خيّاط دائم يفصّل لك ملابسك، فماذا ستفعل إن لم تتحمّل لمسة الآخرين؟”
قلت ذلك بابتسامةٍ هادئة وأنا أنتهي من قياس خصره.
لكن في اللحظة التالية…
أمسك هيليوس بيدي.
“ما دمتِ ستكونين دائمًا معي، فليس ثمّة مشكلة، بيلي.”
“ماذا…؟”
لم أعد أرى ملامحه.
فقد وضع ذقنه على كتفي وهمس بصوتٍ رقيق.
“نحن زوجان، أليس كذلك؟”
“!”
“هل اخطأت؟”
‘زوجان.’
كان هذا اللقب قد بقي بعيدًا عن وعيي، فجأة بدا وكأنّه فخٌ يُطبق عليّ.
توقّف نفسي لوهلة، ولم أستطع الردّ.
حينها، راح هيليوس يستحثّني برقة:
“أجيبي، بيلي.”
“…نعم، نحن زوجان.”
‘آه، كيف له أن يكون أطول منّي…’
لم تمرّ سوى بضع ثوانٍ منذ ظننتُه طفوليًّا، وها هو الآن يبدو مختلفًا تمامًا.
“صحيح أنّ زواجنا كان أشبه بصفقةٍ خاطفة.”
“أجل.”
“لكنّي أراك زوجتي فعلًا. ما دامت الأوراق موقّعة، فسأعاملك باحترامٍ يليق بك.”
“…”
‘باحترام، هه؟’
‘ليته يعني ذلك حقًّا.’
أفلتتُ من بين ذراعيه وأنا ألفّ شريط القياس، متجنّبةً التقاء الأعين.
‘الاحتكاك الجسدي الذي زاد مؤخرًا… هل هو تأثير عطر “دوميستيكيير” أيضًا؟’
علاقتي بهيليوس الآن تختلف كلّيًا عمّا ورد في الرواية.
نعم، تختلف، لكن…
‘ما زال قفاي يقشعرّ، اليوم أيضًا.’
“هيليوس، اسمع.”
“هم؟”
“إن أتى أحدٌ ليتبنّاك يومًا… هل ترغب في القبول؟”
سؤالي لم يأتِ عبثًا.
ففي المستقبل، سيظهر دوق إيسيكل، ذاك الذي سيُدرك موهبة هيليوس ويعرض عليه خلافة المقام.
وسيحضر أيضًا إلى مهرجان العام الجديد هذا.
‘هذا القصر أشبه بسفينةٍ تغرق، وقد امتلأ أشباحًا تريد جذبي معها.’
الكونت، وريتشارد، وآمون… جميعهم أشباحٌ تمسك بي لتغرقني معهم.
لطالما رغبتُ في فضح عائلة ساتشيت أمام الإمبراطور في المهرجان.
حين كنت صغيرةً، لم أتورّط في أعمال العائلة كثيرًا.
لذا كنت أطمح إلى إثبات براءتي باستخدام قضية الأوراق المزيفة، لأسقط آل ساتشيت وأفرّ منهم.
لكن ريتشارد من النوع الذي إن مات، يريدك أن تموت معه.
وآمون يعلم تمامًا ما أنا عليه من قيمة.
لن يسمحا لي بالهروب وحدي.
‘لذا، إن أردت النجاة، أحتاج إلى حليفٍ قوي. إلى صاحب سلطةٍ يحميني حتى أبلغ سنّ الرشد وأتمكّن من حماية نفسي.’
وبعد كلّ الحسابات، لم يبقَ لي سوى حبْلُ نجاةٍ واحد.
دوق إيسيكل.
لكن، لم يكن ثمّة سببٌ يدفع ذاك الرجل العظيم ليكون وصيّي.
‘زعيم النبلاء الجنوبيين، دوق السحر، إيسيكل.’
شعار عائلته عصا بيضاء يتدلّى منها مصباح، وعائلته مبنيّة على السحر، يقودها كائنٌ سام يتجاوز حدود البشر.
الساحر الأعظم، أراغون ميريت إيسيكل.
ظلّ محافظًا على شبابه وقوّته رغم تغيّر ثلاثة أباطرة.
لا زوجة له، ولا أبناء، ولا وريث.
وقد شاع أنّه لا يملك الرغبة في الزواج.
ولا عجب، إن كان يرى الناس من حوله أقزامًا لشدة ما طال عمره.
‘حسب ما ورد في الكتاب، يتبنّى الدوق إيسيكل هيليوس فقط ليورثه اللقب قبل أن يرحل عن هذا العالم.’
لكن ثمّة شيءٌ غريب.
عائلة إيسيكل قائمة على السحر، وعلى رأسها يقف الساحر الأعظم.
لكن هيليوس… ليس بساحر، أليس كذلك؟
‘حتى في الكتاب، ورد أنّه يتقن السيف لا السحر.’
فلماذا اتّخذه وريثًا؟
نظرتُ بلا وعي إلى يدي هيليوس، الناصعتين النقيّتين.
يدان لا تعرفان المشقّة، خاليتان من الندوب والجلد الخشن.
يدٌ تليق بعصا الساحر، لا بمقبض السيف.
“لا أدري. لكن عائلتي هي أنتِ، بيلي.”
عندها، ردّ هيليوس بنبرةٍ هادئة:
“كما قلتُ من قبل، أنا معك. لأنّنا زوجان.”
“!”
“وإن تمّ تبنّيي، فسنذهب معًا، أليس كذلك؟”
كان ذلك هو الجواب الذي رغبتُ بسماعه.
سواء أكان صادقًا، أم مجرّد أثر للعطر، لا يهمّ.
ما دمتُ سأحصل على ما أريد.
أردتُ فقط أن أنجو، أن أهرب من هذا البيت البغيض.
فدعوتُ في قلبي، دون أن يدري أحد.
***
كريك-
تبقى18 يوما على مهرجان العام الجديد.
روتين آل ساتشيت اليوميّ مستمرّ.
واليوم اجتمعت العائلة، باستثناء آمون.
“غابت شمس المساء، وارتسم ضوء القمر الفضيّ. أجمل لحظات الحياة تختفي كأنها رقصة وداع.”
كريك-
غرفة الاستقبال بالطابق الأول، تلك التي تُفتح فقط حين يأتي الضيوف.
في صدر المجلس جلس الكونت ساتشيت على أريكةٍ بلون أزرق داكن.
وعن يمينه جلس ريتشارد بوجهٍ عبوس، بينما تبسّمت بلين بتلك النظرة الثعلبيّة نحوي.
وعن يساره جلس هيليوس، وقد بدا متضايقًا من الزيّ الرسميّ وربطة العنق، رغم أنّه جلس بوقار.
في الواقع، كان أكثرهم تهذيبًا.
‘ريتشارد جالسٌ كفرسٍ جامح، كأنّه نشأ في الإسطبل لا في قصر.’
أما هيليوس، فقد بدا وكأنّه نشأ كابنٍ حقيقيّ لدوقٍ منذ ولادته.
“ستنتهي خشبة المسرح قريبًا، ويُسدل الستار، وتنتهي مسرحيّتنا. دموع الأصدقاء قد انهمرت على قبورنا سلفًا.”
كريك-
إنّه وقت إلقاء الشعر.
كلّما عاد ريتشارد إلى البيت، كان عليّ تأدية هذه المهزلة.
أن أكون عرضًا يُمتع الرجال في هذه العائلة، يُرى ويُسمع فقط.
“قريبًا، ستهبّ عليّ نسائم الموت الهادئة. سأرحل بعد حجّي في الحياة، وأصل إلى أرض الراحة.”
نبرةٌ عذبة كالعندليب.
وأسلوبٌ رخيم مريح للأذن.
ألقيتُ القصيدة بتلك الطريقة، حتى صفق الفيكونت وقال.
“أحسنتِ. حفظتِها كلّها.”
“نعم، يا أبي. ويسعدني أن أُفرحك.”
‘مقزز.’
…هكذا فكّرتُ، بينما رفعتُ طرف شفتي بابتسامة.
كريك-
“ما دام لا نفع منها، فلتُتقن على الأقلّ إلقاء الشعر. أليس كذلك؟”
ومن غير ريتشارد يقول هذا؟
رمى بلين نظرة جانبيّة على ريتشارد، بدا وكأنّ الأمر يزعجها.
وإن كان دائمًا ما تنظر إليّ كدمية.
‘لو أنني أستطيع فقط أن أجعل ذاك الأهوج يجثو تحت قدمي، لكان نصف حياتي قد بات أسهل.’
لكن، وعدت، وما عليّ إلا الالتزام.
لا بدّ من طريقة غير استخدام “دوميستيكيير”.
‘أو ربّما لو استطعتُ النزول إلى القبو مجدّدًا…’
المشكلة أنّ حالتي الصحيّة لم تكن على ما يرام.
يومها، تعافيت بفضل جرعة الشفاء، لكن جسدي أصلًا ليس قويًّا.
كلّما تحسّنت، أعدتُ صنع العطر، ثم أعاود التحسّن، وأكرّر الدائرة.
ربّما لهذا السبب، شعرتُ بالدوار مؤخرًا من دون سببٍ ظاهر.
أو لعلّني لم أتناول الجرعة كاملة، فقسّمتُها، ففقدت نصف مفعولها.
‘على كلّ حال، إن أتيحت لي فرصة، أريد أن أعدّ العطر الثالث. شيئًا يُستخدم في الظروف الطارئة.’
كريييييك-
‘من أين يأتي هذا الصوت المزعج…؟’
كريييييييييك!
“!!!”
في لحظةٍ خاطفة، رفعتُ رأسي لأرى الثريّا تهوي عليّ.
انعكس وجهي الشاحب على مئات البلّورات التي سقطت من السقف، مصعوقًا ومذعورًا.
“بيلييت-!”
دوّى صوت بلين في رأسي كالرعد.
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"