الفصل 11
بينما كان ريتشارد ينظر تارة إلى الخادمة التي أصبحت تتجرأ بسهولة، وتارة إلى شقيقته اللطيفة التي لا تعتمد سوى عليه، تحدّث وكأنّه قاضٍ عادل يخاطب هيليوس.
“ما الذي يحدث هنا؟ هلا شرحتَ لي الأمر؟”
لطالما اضطر ريتشارد إلى خفض رأسه والخنوع أمام النبلاء الأعلى منه رتبة.
لكن الآن، الوضع مختلف.
أن يرفع رأسه معتزًّا، ويقابل نظرات الآخر بثقة، ويتصرّف بتكبّر، كان أمرًا يشعره بنشوةٍ لا توصف.
“أظنّ أنّ ما قيل كان تعبيرًا مخفّفًا.”
كان ذلك في اللحظة التي نطق بها هيليوس.
“تعبيرًا مخفّفًا؟”
“بدقّة، لقد قالت إنّ حتى وريث الكونت أدنى منها.
وهدّدت أنّها حين تُصبح سيدة القصر، و ستطرد زوجتي من المنزل.”
“م-ماذا؟!”
للحظة، استبدّ الغضب بريتشارد بشدّة.
لدرجة أنّه لم ينتبه حتّى إلى أنّ هيليوس تحدّث إليه بنبرة غير لائقة، وبأسلوب خالٍ من الاحترام.
ولا حتى أنّ نطقه وطريقته كانت نبيلة بشكلٍ مذهل.
شخصٌ واحد فقط التفت إلى غرابة الموقف.
“كذب! هذا كذب!”
لكن لم يكن الوقت مناسبًا للتنبيه إلى تلك النقطة.
فقد كانت ماندي قد انهارت فجأة في نوبة بكاء، وهي تصرخ ببراءة مزعومة.
“إذاً، أنتِ تتّهمين دوق إيجييف… أعني، زوج أختي… بالكذب؟”
لكن ريتشارد لم يكن مستعدًا لسماع شيء.
لقد اعتاد أن يشعر بالانتماء للنبلاء الأعلى رتبة، ليُرضي كبرياءه الجريح.
وأن يتّهم النبيل الأعلى هنا أي هيليوس بالكذب، فذلك يعني ضمنًا أنّ ريتشارد نفسه كاذب.
بالطبع، كان هذا استنتاجًا فارغًا تمامًا.
منطقيًّا لا معنى له، لكن في عقل ريتشارد، كان قد وضع نفسه وهيليوس على نفس الدرجة، وهذا ما جعله يتصرّف بهذه الطريقة.
“ل-ليس هذا ما قصدت!”
“لا أريد أن أسمع شيئًا! لم أكن مرتاحًا لكِ منذ البارحة. أين الخدم؟! أخرجوا هذه من هنا في الحال! أنتِ مطرودة!”
“آااااه! لااا، لا تطردني يا سيّد ريتشارد! أرجوك اسمعني… آآآاه!”
كانت تُسحب جرًّا خارج الغرفة، وهي تصرخ بكلّ ما أوتيت من قوّة.
أما ريتشارد، فأدار رأسه وأطلق تنهيدةً متأففة.
“كيف وصلت هذه الحمقاء إلى هنا أصلاً… تافهة.”
همس بذلك، ثم التفت بطرف عينه نحو هيليوس، وسعل سعالًا متكلّفًا:
“احرصوا على تقديم وجبةٍ تليق بالمقام.”
****
بعد قليل…
أنا وهيليوس كنّا نتناول إفطارًا فاخرًا بكلّ معنى الكلمة.
بطّ مدخَّن يلمع من كثرة الدهن، و لحم بطريقة مملكة كانهيل، وجمبري مشوي، وحساء غنيّ برائحة الفطر.
أطباق فاخرة تملأ الطاولة، لا تصلح حتى كوجبة صباح.
نظرتُ إليها بنفورٍ ظاهر، ثمّ بدأت أضع بعض الأصناف في صحن هيليوس.
“تذوّق، سيكون طعمه لذيذًا.”
حينها، تناول هيليوس الشوكة بقبضة كاملة، وغرزها مباشرة في الزلابية.
وكأنّه لا يعرف شيئًا عن آداب المائدة.
لكنني كنت قد بدأت أرتاب بالفعل.
“تلك الطريقة التي تكلّمت بها للتو…”
رفع نهاية الجملة، ونطق الأحرف بلفظٍ متأنٍّ وبنغمةٍ راقية…
ذلك أسلوب حديث الأرستقراطيين.
لكن الغريب أنّ هيليوس لم يستخدم هذا الأسلوب حين تحدّث إليّ، بل فقط عندما كان يخاطب ريتشارد.
‘هل يُعقل أنّه كان يُمثّل؟’
تمامًا كما أفعل أنا.
‘لماذا؟ ليعيش؟’
ربّما…
لو فكّرنا في الأمر على هذا الأساس، فإنّ كلّ شيء سيكون منطقيًّا.
يداه الناعمتان، وجهه الجميل الذي لا يحمل أيّ ندبة…
“نونا.”
“همم؟”
“لقد كنتُ رائعًا، أليس كذلك؟”
كان ذلك حين ابتسم هيليوس لي ببشاشة.
“لقد قلدتُ الكونت ساتشيت.
أنا بارع في التقليد، أتعلمين؟”
“آه…”
هل كان مجرد تقليد فعلًا؟
رغم شكوكي، فكّرت أنّني قد أكون أبالغ، بالنظر إلى سنّ هيليوس.
نعلم جميعًا أنّه عبقري في فنّ السيف، لكن لم يسبق أن قيل إنه بارع في التمثيل أو مزدوج الشخصية.
‘لكن إذا فكرتُ في إخوتي، أولئك التماسيح الصغيرة…’
نظرتُ إلى اللحم وهو يبرد دون أن ألمسها.
وخلصت إلى قرارٍ واحد:
‘يجب أن أختبر فعالية عطر الإخضاع.’
إن كانت فعّالة، فلن يهمّ إن كان هيليوس يُمثّل أم لا.
***
لم أكن أفهم تمامًا قدراتي الخاصة بعد.
لكنني أدركتُ أنّ جسدي يتفاعل بطريقة مختلفة عندما أُنتج عطرًا عاديًّا، مقارنةً عندما أُنتج عطرًا خاصًّا.
في الحالة الأولى، لا يحدث شيء.
أما الثانية، فأنفي ينزف.
وهكذا، بدأت أعتقد أنّ عطر الإخضاع يحمل بالفعل خصائص فريدة.
فأخذت زجاجة العطر التي كنتُ قد منحتها لهيليوس، دون أن أخبره، وتوجّهت نحو المدخل عبر الدرج الحلزوني.
ريتشارد، الجشع كما هو، لو أعجبته الرائحة، سيحاول الاستيلاء عليها.
ولذلك، لا يصلح ليكون هدف التجربة.
ولو لم يكن العطر فعّالًا، فسأخسر العطر بلا مقابل.
‘هذا ليس أيّ عطر.
لقد صنعته وأنا أنزف دمي حرفيًّا.’
لا يمكنني تحمّل تلك الخسارة.
وبالمثل، لا يمكنني استخدام آمون.
النبيل ساتشيت مهووس بالخوف من التسمم، لذا لن يسمح لي أبدًا برشّه.
‘أفضل تجربة ستكون على بلين، لكن…’
بلين خرج في مهمّة.
ولذا، لا يمكنني استخدام إخوتي حاليًا.
‘لكن… لديّ تجربة مقبولة على الأقل.’
عطر الإخضاع يحمل في طيّاته معنى “الخضوع لي”.
على الأرجح، إن أنا صببتُ فيه معنى قويًّا عند صنعه، يصبح عطرًا خاصًّا.
تمامًا كما فعلت حين صنعت “”.
‘ذلك الأرنب الصغير الذي تعلّقت به للحظة.’
وجدته ذات يوم تحت نافذتي، بساقٍ مصابة.
فقمتُ برعايته خلسة، وجلبتُ له التبن من الإسطبل، وربطتُ ساقه برباط وردي.
أحببته كثيرًا حينها، لكنني لم أمنحه اسمًا.
لأنني إن فعلت، فلن أستطيع تحمّل خسارته.
وفي النهاية، وجدته جثّةً باردة ذات صباح.
كنتُ أفكّر فيه حين صنعت ذاك العطر.
فحدثت المعجزة.
‘أما هذه المرّة…
فمن البداية إلى النهاية، صنعتُه بنيّة ترويض هيليوس.’
عند مدخل معظم البيوت النبيلة، يقف فارسٌ للحراسة.
أما عند قصر ساشيه، فكان يقف رجلٌ ضخم كالدب الرمادي.
كان من التابعين للبارون، وتظهر على وجهه علامات كراهيته لي بوضوح.
في الماضي، كان أحد “الإخوة”، لكنّه فشل في المنافسة، وأصبح من الخاسرين.
“ما الأمر؟ لم يُقال لي إنكِ ستخرجين اليوم.”
“مرحبًا، أيّها الحارس.”
“تفو… ما الذي أتى بكِ؟”
الملقّب بـ”الحارس”، كان يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، وضخم الجثة بشكلٍ غير طبيعي.
جسده كأنّه مزيج من ستّة من جسدي.
لكن… لم يكن له أيّ ميزةٍ أخرى.
وكان يكرهني لسببٍ واحد فقط.
لأنني رأيتُه في أكثر لحظاته ذلًّا.
“أرجوك، لا تقتلني يا أبي… لا، يا بارون! سأكون مخلصًا… فقط لا تقتلني! أوااااه!”
منذ أن ضبطتُه يتوسّل باكيًا، صار كلّما رآني يحدّق بي بغضبٍ أعمى.
وكأنّ رؤيتي له في تلك اللحظة كانت ذنبي أنا.
يا له من تافه!
“قلتُ، ما الذي أتى بكِ؟!”
لمّا لم أُجبه، صرخ بفظاظة.
كم هو مضحك… أمام ريتشارد يجرّ ذيله، وأمامي يصيح ككلبٍ هائج.
“تبًّا لكِ! لن تُجيبي؟!”
لكن مهما فعل، فهو مجرد حارسٍ عند الباب، وأنا سيّدة نبيلة.
لذا، كان كلّ ما فعله هو قبض يده وفتحها مرارًا، دون أن يجرؤ على إيذائي.
“رائحتك كريهة.”
“م-ماذا؟”
“قلتُ إنّ رائحة فمك كريهة.”
لم أكن مضطرّة لتمثيل أيّ شيء أمامه، لذا أجبتُه ببرود وأنا أرفع حاجبي.
ثم، وقبل أن يقترب منّي غاضبًا، رششتُ عليه العطر.
تششش!
بحرَكة أشبه بخدعة المزوّرين الذين يبدّلون الأوراق النقديّة، كانت يدي سريعة كوميض.
ذلك الأخرق لم يكد يتحرّك حتى تجمّد في مكانه.
“……”
وجهه القبيح وفمه مفتوح بتعجّب، كان منظرًا منفّرًا.
تراجعتُ خطواتٍ قليلة، ثمّ راقبتُه عن كثب.
‘يبدو أنّ شيئًا ما حدث بالفعل.’
رششته مباشرة على أنفه، فلا بدّ أنّه استنشق كلّ الرائحة.
وبعد لحظات…
دويّ!
خرّ الحارس على ركبتيه أمامي.
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"