الفصل 10
رغم احتكاك الجلد وحرقة راحتي، إلا أنّني لم أتوقّف، وصفعتُ خدها صفعةً أخرى.
عندها، استدار رأس الخادمة تمامًا بفعل الضربة.
“الأولى عقوبة على إهانتكِ لسيدتكِ.
والثانية لأنّكِ أحرجتِها أمام الضيف.”
كانت الخادمة تحدّق بي وهي تمسك خدها، وكأنّها لا تُصدّق أنّ طفلةً أقصر منها قامت بضربها بكلّ تلك القوّة.
“تظنّين أنّكِ ستخرجين من هذا بسلام؟”
“وإن لم أخرج؟”
سألتها ببرودٍ ونبرة خافتة، فأخذت تتراجع بتوتّرٍ واضح.
“أترغبين في إخبار أخي؟ سيكون الأمر ممتعًا حقًّا. هيا، قولي. أتوقّ لرؤية ردّة فعل ذلك الأخ الذي تثقين به كثيرًا.”
قلت ذلك بلا مبالاة، ثمّ صوّبتُ انتباهي إلى الأصوات القادمة من الممرّ.
‘مؤسفٌ لكِ.’
على الأرجح، أنتِ لا تدركين…
أنّكِ الآن تحفرين قبركِ بلسانكِ هذا.
لقد دخلت الخادمة الغرفة دون حتى أن تُغلق الباب بشكلٍ صحيح.
وبهذه الحالة، فإنّ أيّ صوتٍ مرتفع سيُسمع بسهولة في الممرّ.
ولو أنّها أغلقته تمامًا… حسنًا، لكنتُ قد فتحته بنفسي على طريقتي.
‘لو مرّ الأمر بهدوء، لما اضطررت لرؤية وجه ريتشارد صباحًا.’
لكن مع هذه الضجّة، فإنّ ريتشارد سيصل إلى هنا قريبًا.
استفاق من نومه، وسيشعر بالملل، ومن ثمّ سيأتي متعلّلًا بأيّ سببٍ ليرى كيف يبدو هيليوس.
لقد أصبحت تحرّكات ريتشارد واضحة لي كما لو كانت مرسومة على كفّي.
فلقد اعتدتُ التعامل مع أمثال آمون، الذي يصعب توقّع ردوده، فصار من السهل عليّ قراءة الآخرين.
‘م-ما الذي يحدث؟’
في تلك الأثناء، كانت الخادمة ماندي في غاية الارتباك.
‘هل هذه هي فعلاً بلييت التي أعرفها؟’
في الحقيقة، ماندي لم تمضِي أكثر من عامٍ واحدٍ في عملها داخل منزل نبيل.
وقد حظيت بمنصب خادمة السيّدة لأنّ سابقتها اختفت فجأة.
لا أحد يعلم إن كانت قد هربت ليلاً أم ماذا، لكنّها توقّفت عن الحضور فجأة، ومُنحت ماندي مكانها.
ولم تفكّر ماندي بعمق في السبب الذي جعل الخادمات الأخريات اللواتي قضينَ سنوات في هذا القصر يرفضن أن يكنّ خادمات لبيليت بشكلٍ دائم.
كلّ ما فكّرت فيه هو أنّها كانت محظوظة.
كانت الآنسة بييلت فتاةً لا تبدو معقّدة، وكانت دائمة السعي لنيل رضا والدها وشقيقها.
بينما رجال الأسرة منشغلون بالأمور المهمّة، لم تكن تفعل شيئًا سوى التزيّن والتدرّب على التمثيل أمام المرآة.
ذلك كان الانطباع السطحي الذي كوّنته ماندي عن بيليت.
‘ليست ذات شأن.’
لم تكن تحظى بمعاملةٍ خاصة من والدها، وغرفتها ومقتنياتها لم تكن فاخرةً كما هو متوقّع من فتاةٍ نبيلة.
ولم يكن لديها الكثير من المجوهرات المزيّنة بالأحجار الكريمة، بحيث إن سرقت إحداها فسيُلاحظ الأمر فورًا.
ولهذا، فكّرت ماندي بأنّه إن أصبحت عشيقة وريث المنزل القوي، السيّد ريتشارد، فستكون فوق بيليت بكلّ تأكيد.
وقد كانت تقتنع بذلك في أعماقها.
“اذهبي وأحضري طعامًا جديدًا.
وإن لم يعجبني، سأؤدّبكِ مجددًا، فكوني ذكيّة هذه المرّة.”
لكن، من هذه الفتاة الباردة التي تأمرني بهذا الجمود، دون ابتسامة واحدة؟
حين التقت ماندي نظرات عينيّ الذهبيّتين، اللامعتين بحدّة كعيني طائر جارح، سرت قشعريرة في جسدها.
في تلك اللحظة، شعرت بأنّها لم تعد بشريّة، بل فأرًا صغيرًا أو ضفدعًا تحت رحمة وحشٍ مفترس.
ذلك الشعور الغامر جرّ إليها الخوف، وموجةً من الغضب اللاعقلاني.
وما زاد الأمر سوءًا أنّنا لسنا وحدنا. هنالك ضيف أيضًا، كما قالت.
بمعنى آخر، ماندي الآن تشعر بالإحراج الشديد والغضب في آنٍ معًا.
‘هل أرتجف من طفلة؟!’
“ل-لا تحاولي التفرقة بيني وبين السيّد!
نحن نحبّ بعضنا حبًّا حقيقيًّا!”
“وماذا بعد؟”
“أعني… أعني…”
“أكنتِ تظنّين أنّكِ ستُصبحين سيّدة هذا المنزل؟”
وحين طعنتُ طموحها المخبّأ في صدرها، لم تعد قادرة على التحكّم بنفسها.
وفي الحقيقة، لم تكن كلماتي خاطئة.
في قصرٍ لا تملك فيه العائلة سيّدة، أليست عشيقة الوريث هي من سيأخذ ذاك الدور لاحقًا؟
وكم اجتهدت لتنال إعجاب السيّد طوال هذا الوقت!
“أنا لستُ مَن يُؤتى بها لتقديم الطعام! من الآن فصاعدًا، اجعلي خادمة أخرى تفعل ذلك!”
قالتها ماندي بجرأةٍ وعلوّ صوت، كأنّها تنتزع كرامتها انتزاعًا.
أمّا أنا، فنظرت إليها بهدوء، ورفعت حاجبي قليلًا.
الخادمة، وقد أخذها الحماس، لم تلاحظ أنّ رائحة خمر ريتشارد الكريهة كانت تزداد قربًا شيئًا فشيئًا.
‘خمسة… ثلاثة… واحد…’
وفي اللحظة المناسبة، خررتُ أرضًا فجأة عند قدمي الخادمة، وانهمرت دموعي الشفّافة.
كان التمثيل بالبكاء أسهل ما يمكن.
“م-ما بكِ الآن؟ هل جننتِ فجأة؟!”
صرخت الخادمة في هلع، بينما أنا عضضتُ شفتي وأسقطتُ دمعةً على طرف ثوبي.
لقد تدربتُ كثيرًا أمام المرآة، وأعلم تمامًا أيّ زاوية تبكيني بأجمل مظهرٍ وأشدّه استدرارًا للشفقة.
“ما كلّ هذا الصراخ؟”
صوتٌ متصنّع الهيبة، ضعيف النبرة، سُمِع في اللحظة ذاتها.
رفعتُ رأسي دون تردّد، وانطلقتُ نحو ريتشارد، ورميتُ نفسي في أحضانه.
ما حدث خلال أقل من ثلاث ثوانٍ لم يمنح الخادمة فرصةً للردّ أو الفهم.
“هُهق… اخي!”
“أختي الصغيرة الجميلة.
لماذا تبكين؟ هل أزعجكِ زوجكِ؟”
قالها ريتشارد وهو يربّت عليّ بعفوية، ثمّ نظر حوله داخل الغرفة.
أما الخادمة، فكان وجهها قد شحب وهي تتلفّت بارتباك، بينما أنا أظهرتُ وجهي الطفولي الحزين في الوقت المناسب.
“لااا، اخي… هل صحيحٌ أنّ تلك الخادمة ستُصبح سيّدة هذا المنزل؟ هذا غير صحيح، أليس كذلك؟”
“ماذا قلتي؟!”
في لحظة، تحوّلت ملامح ريتشارد إلى الغضب العارم.
“قالت إنّها السيّدة. وجعلتني آكل شيئًا مثل هذا. وقالت إنّك وافقت على كلّ هذا.
هذا… ليس هذا صحيحًا، أليس كذلك؟”
اتّجهت نظرات ريتشارد نحو طبق الحساء المُهلهَل.
ثمّ أسرع بالنظر إلى هيليوس.
‘اللعنة! هذا الصغير ليس أيّ طفلٍ عادي!
سيُعلَن قريبًا أنّه دوق، لا يمكن أن يرى هذا المشهد المضحك!’
في الحقيقة، لم يكن ريتشارد مرتاحًا أصلًا مع الخادمة التي قضى الليل معها.
كانت جميلة، لكن كثيرة الدلال، وتزداد وقاحةً بمرور الوقت.
وكان ينوي التظاهر بالنسيان صباحًا، فإذا به يواجه هذه الكارثة.
‘كلّ ما طلبته منها هو معرفة إن كان الطفل يملك أيّ معلومات مفيدة!’
صحيحٌ أنّ الطفل لا يعلم شيئًا الآن، لكن في المستقبل، كيف سيذكر هذه الحادثة؟
سيظنّ أنّ عائلة ساتشيت النبيلة فقيرةٌ إلى هذه الدرجة؟
أو أنّها لا تستطيع ضبط خدمها؟
أسوأ ما قد يحدث هو أن يتذكّر هذا اليوم ويظنّ أنّنا مجرد نبلاء من الطبقة الدنيا.
لقد كان ريتشارد يعاني من عقدة النقص حيال أصوله كابن لنبيل من درجة أدنى، ويكنّ إعجابًا شديدًا بالنبلاء الأعلى.
حتى لو كان هيليوس صغيرًا الآن، وحتى لو أنّ عائلة إيجييف قد سقطت، إلا أنّه سيصبح دوقًا.
فوالده سيُعيد له اللقب قريبًا.
والفرق بين بيت دوقٍ يمتلك نصف الغرب، وبيت كونت لا يملك حتى قطعة أرض، هو فرق السماء والأرض.
ولهذا، لم يُرِد ريتشارد أن يستمرّ هذا المشهد.
“كذب! لم أقل إنّني السيّدة! ثمّ أليس من الغريب أن تطلب حساءً جديدًا في هذا الوقت المبكر؟ متى بدأتِ حتى تُدلّلي نفسكِ؟!”
لكن وسط كلّ ذلك، تجرّأت الخادمة على رفع صوتها بالكذب.
وكانت وقحةً للغاية.
أما بيليت، فقد كانت تبكي بشكلٍ مثالي، بوجهٍ حزينٍ ودموعٍ تتلألأ.
“اخي…”
جميلة، لطيفة، تعرف كيف تتدلّل وتبكي، وتستعطف.
‘وفوق كلّ شيء، مطيعة. انظري كيف لجأت إليّ فور وقوع المشكلة.
إنّها تعتمد عليّ… وهذا يجعلني محلّ ثقتها.’
ترجمة:لونا
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"