بعد أن جهزوا أنفسهم وغادروا مناطق الشمال الباردة، استغرق الأمر يوماً آخر من السفر الشاق حتى ظهرت ملامح قاعدة “الحدود الحديدية” في الأفق. كانت القاعدة تبدو من بعيد أكثر قوة وتنظيماً من الحصون المتقدمة التي مروا بها، وكأنها درع حصين يحمي قلب المملكة.
سار كاي بهدوء، بينما كان إيدن غارقاً في نوم عميق داخل ملابسه. فكر كاي في نفسه: “أوه، إيدن نائم.. يبدو أنه استنزف طاقته تماماً، و مرهق”.
فجأة، استقام ظهر كاي حين لمح ظلاً مألوفاً يقف بوقار عند بوابة القاعدة. كان القائد “كايل” واقفاً هناك بانتظارهم، ومنظره المهيب وسط الحراس كان يبعث في النفس ارتياحاً لم يشعر به كاي منذ مدة.
أسرع كاي خطاه بتفاجؤ ونادى: “أوه أيها القائد! ماذا تفعل هنا في الخارج؟”.
انطلق القائد كايل نحوهم بخطوات واسعة، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة دافئة. وبحركة عفوية تحمل حرارة أبوية، أمسك برأس كاي وداعب شعره بقوة قائلاً: “لقد عدت حياً يا شقي! كنت واثقاً أنك لن تستسلم بسهولة”.
تعالت ضحكات الرفاق، حيث قال أليكس بنبرة مزاح: “ماذا عنا يا قائد؟ ألست فرحاً برؤيتنا نحن أيضاً؟”.
ضحك رالف مكملاً: “أجل أيها القائد، هذا التمييز غير عادل!”.
اعتدل القائد في وقفته محاولاً كتم ضحكته وتحدث برسمية مصطنعة: “أوه، أحمم.. بالطبع إنني سعيد برؤيتكم جميعاً، رالف وأليكس.. أجل، أجل، أحسنتم صنعاً”.
توديع الفرقة:
عند مدخل الساحة الرئيسية، توقفت الخطى. التفت أليكس نحو كاي وقال: “حسناً أيها القائد كاي، طرقي تتجه الآن إلى الغرب من الحدود الحديدية، حيث تنتظرني فرقتي”.
رد كاي باهتمام: “أوه، أنت كنت في فرقة القائدة ‘كيرا’ إذاً؟”.
أجاب أليكس بابتسامة: “نعم”.
التفت كاي نحو رالف وسأله: “وأنت يا رالف؟”.
أجاب رالف بهدوء: “أنا في فرقة الشرق، تحت إمرة القائد ‘راش'”.
خيم الصمت للحظة، وفجأة، وبشكل لم يتوقعه كاي، انحنى أليكس ورالف له في انحناءة عسكرية عميقة ومليئة بالاحترام.
قالا في صوت واحد: “لقد كنا سعداء جداً بالعمل معك، ونتمنى أن يجمعنا الميدان بك مجدداً في المستقبل!”. ثم استدارا وغادرا نحو ثكناتهما.
اعتراف القائد:
راقب القائد كايل هذا المشهد بصمت، ثم التفت إلى كاي وقال ضاحكاً: “ها ها! يبدو أنك أصبحت قائداً حقيقياً في نظرهم أيضاً”.
رد كاي بتعجب: “أنا؟”.
أومأ القائد بجدية: “أجل، انحناؤهم هذا لم يكن للمكانة، بل هو تقدير خالص لقدراتك وشجاعتك التي أظهرتها في تلك المحنة”.
صمت كاي للحظة، وشعر بغصة غريبة في حلقه. فكر في نفسه: “الاحترام والتقدير.. شيئان لم أحصل عليهما قط، لا في حياتي الماضية ولا حتى في بداية حياتي هذه كأمير منبوذ. ولكن الآن، هناك أناس يقدمونهما لي بصدق”. وضع يده على قلبه، مستشعراً ثقلاً جميلاً لم يعهده من قبل.
تابع القائد حديثه وهو يبتسم ابتسامة خفيفة: “لقد سمعت برجوعك وتقريرك الأولي، وأعتقد أنك حقاً قد أحسنت العمل.. لقد أصبحت أقوى يا كاي، ليس فقط في السحر، بل في الروح أيضاً”.
شحب وجه كاي قليلاً واستبدل ابتسامته بنبرة جادة: “يا قائد، هناك حقائق أخرى أريد أن أخبرك عنها.. أشياء لم يكتبها التقرير”.
تغيرت ملامح القائد فوراً إلى الجدية وقال: “همم؟ إذاً الأمر هكذا.. فلندخل إلى الداخل أولاً، الجدران هنا لها آذان”.
كشف الحقيقة:
داخل خيمة القائد الخاصة، وتحت ضوء الشموع الخافت، سرد كاي كل شيء بالتفصيل؛ حدثه عن الوحش الجليدي الأسطوري الذي لا يمكن وصفه، وعن الرهائن الذين كانوا قرابين، وعن سحر أصحاب الرداء الأسود المظلم.
تمتم القائد بذهول: “إذاً هذا ما حصل حقاً!”. ثم سأل بقلق: “وماذا عن الرهائن؟”.
أجاب كاي: “استعادوا وعيهم قبل مغادرتنا بدقائق، لكنهم قالوا إنهم لا يتذكرون شيئاً عما حدث، وكأن عقولهم مسحت تماماً”.
هز القائد رأسه ببطء: “لقد عشتم رعباً حقيقياً.. حتى أنا لا أعلم إذا كنت سأمتلك الشجاعة لمواجهة ذلك الكيان الأسطوري”.
فكر كاي في داخله: “ذلك الوحش كان حقاً يتجاوز كل حساباتنا”.
نظر كاي إلى يديه اللتين غزتهما ندوب جديدة من المواجهة الأخيرة. تذكر كيف كان في بداية وصوله لهذا العالم يرى كل شيء كأنه حلم باهت، لم يكن يلحظ تفاصيل الوجوه أو قسوة الجو.
تساءل في نفسه بدهشة: “كيف اتخذت تلك القرارات الاستراتيجية القاسية؟ كيف تمكنت من القيادة؟”. فجأة، برقت في ذهنه ذكرى من غرفته المظلمة في القصر، حيث كانت هناك كتب قديمة عن الاستراتيجيات العسكرية لم يلقِ لها بالاً حينها. ” اوه مهلة لحظه هل كان كاي الأصلي يقرأ تلك الكتب؟ هل يفسر هذا توافق وعيي كقارئ مع غريزة هذا الجسد؟”.
دخل القائد مقاطعاً تفكيره: “ما بك يا كاي؟ لماذا أنت غارق في التفكير؟”.
نزل كاي رأسه بتأنيب ضمير وقال بصوت خافت: “يا قائد، السحرة ذوو الرداء الأسود.. أنا قد…”
قاطعه القائد بحزم وهو يضع يده على كتفه: “لقد اتخذت القرار الصحيح! حتى أنا في مكانك كنت سأفعل الشيء نفسه”.
رفع كاي رأسه بعينين حزينتين، ليتابع القائد: “لا تلم نفسك، هم من أيقظوا ذلك الوحش وهم يعلمون العواقب. أنت أنقذت مدنيين، وأنقذت جنودك.. لقد أحسنت الاختيار يا بني”.
ضرب القائد ظهر كاي بخفة وقال بتنهيدة: “فلترتح الآن أيها الأمير، لقد كانت رحلة مجهدة بحق. الطبيب سيأتي بعد قليل”.
رد كاي بابتسامة مرهقة: “حسناً”. لكن صوتاً في داخله كان يهمس: “القرار الصحيح هااه؟ أنا حتى لا أتذكر كيف وجهت تلك الأوامر.. يبدو أن خبرتي كقارئ تتلاحم مع غريزة هذا الجسد بشكل جيد “.
البحث عن سيرا:
بينما كان القائد يهم بمغادرة الخيمة، سأله كاي بسرعة: “يا قائد، أين هي القائدة سيرا؟”.
توقف القائد عند المخرج: “أوه، سيرا؟ لدينا اجتماع طارئ الآن بخصوص إعادة توزيع الفرق الجديدة”.
نهض كاي فوراً: “سأتجه إلى هناك. هناك شيء يجب أن أتحدث معها بشأنه”.
ابتسم القائد بمكر: “أوه، إنهم لا يعلمون حتى الآن عن رجوعك.. حسناً، يمكنك القدوم معي ومفاجأتهم”.
مشى كاي خلف القائد، وقلبه يدق بحماس ممزوج بالقلق. فكر في وعيه: “فلنسمع ما عند سيرا.. وأي حقيقة تنتتظرنا تالياً”.
قال القائد وهو يخطو للخارج: “لا بأس، لكن لا تنسَ الفحص الطبي فور انتهاء الاجتماع!”.
التعليقات لهذا الفصل " 42"