“نيار، هل المعلومات تصلك ببطء؟ أم أن معالجة البيانات لديك تحتاج وقتًا طويلًا؟”
أخذت نظارتي عن المنضدة و قمت مترنحًا.
“هل استيقظ ألبرت؟”
“…إنه نائم في الممر”
“نائم في الممر؟”
“أجل، استيقظ لكن ليس بالكامل”
سرت عبر الباب المفتوح كي أستحم، تدفق الماء الدافئ على جسدي ثم بدلته بالبارد، أخيرًا بعض الراحة…
خرجت من الحمام فرأيت أثير يسحب ألبرت من الممر، تجاهلت ذلك و رحت أبحث عن مجفف الشعر.
و بعد عشر دقائق خرجنا للركض.
“كم لفةً ركضنا حتى الآن؟”
“ثلاثة يا ألبرت، أكمل ركضك هيا و كف عن التكاسل”
“يا الله، لنتوقف الآن لقد وصلنا سكننا تقريبًا! سنصاب بالإرهاق قبل أن يبدأ اليوم.”
“طالب أكاديمية عسكرية و هذا ما تستطيع ركضه!”
“و ما الذي يجعلك متأكدًا أنني سأختار القسم العسكري-“
“هل أكل القط لسانك أو ماذا؟ ربما أدركت أنك على وشك التخرج؟”
“آه أثير~، لنتوقف هيا…انظر إلى نيار، حتى دون أن أرى وجهه يمكنني أن أعرف أنه يكافح للاستمرار”
“أوافقك، لنأخذ راحة يا أثير، كلاهما لا يركضان في العادة، سيكون الأمر صعبًا لهما أن نستمر”
هذا مرهق.
حدّق أثير قليلًا في سكن الفتيات ثم قال ساخرًا:
“أخت من التي فجّرت مطبخ السكن المجاور؟”
التفت ثلاثتنا إلى سكن الفتيات الذي تصاعد منه الدخان الأسود جهة المطبخ.
“إنها ليست أختي، فآيسل طباخة ماهرة”
“ليا لا بأس بها أيضًا، إنها ماهرة في الخَبز و إن كانت كارثة في موازنة المقادير”
“…إنها جويس…”
تمتمت بخفوت.
من غير جويس سيكون السبب؟ ربما تفجير المطابخ هوايتها الفظيعة .
<<جويس>>
هل كان نيار يشتمني في مذكرته؟ يا أسفي على نفسي.
لكن لأخبركم ما حدث حقًا هذا الصباح.
الأول من ديسمبر، الساعة الرابعة فجرًا.
استيقظت مبكرًا لأني أردت صنع بعض المخبوزات لأجل نيار، صحيحٌ أنني لم أقم بصنعها من قبل،لكن أخي العزيز كان طريح الفراش لخمسة أيام، كيف لا أصنع له ما يحبه!
ليتني تمهلت قبل فعلتي…
ساعدتني آيسل بتحضير العجينة و تجهيزها مع الحشوات، كنت في قمة سعادتي، لكن سعادتي لم تطل، فمع أول تجربةٍ للخبز، احترقت مخبوزاتي.
مؤسفٌ للغاية، لكن لحسن الحظ لم أضع سوى القليل، فآيسل لم ترد أن تجازف بالكمية كاملة.
فتحت النوافذ لتهوية المكان، و شرعت بالتنظيف و تركت الخبز لآيسل، و إن تساءلتم عن مكان ليا، فهي مازالت تغط في نومٍ عميق.
و حين آن موعد الدوام، غيرت ملابسي و خرجت أحمل صندوق المخبوزات، فوجدت نيار و زملاءه بانتظار الحافلة.
جذبت نيار ناحيتي و قلت ببهجة.
“صباح الخير يا أخي العزيز”
تمتم نيار بشيء من الإنزعاج.
“صباح النور يا جويس، من أين لك البهجة منذ الصباح؟”
“انظر ماذا صعنت لأجلك؟ مخبوزاتٌ بالنكهات التي تحب، و أيضًا إنه الأول من ديسمبر يا عزيزي”
” و ما المميز في بداية ديسمبر يا جويس؟”
سألت ليا.
“إنه شهر ميلادنا سنتم السادسة عشر هذا الشهر!”
“أليس الاحتفال بأيام الميلاد لا من عاداتكم و لا تقاليدكم”
“إنه ليس عادة يا آيسل، إنه يوم الميلاد السادس عشر، يمكنني إصدار هويتي القانونية الآن!”
التفت إلى نيار ثم أردفت.
” هذا يعني أنني سأصبح بالغةً قبلك يا صغير”
دفعني نيار بعيدا عنه بلطف، نظرت إليّ ليا باندهاش.
“هل أنت أكبر منه يا جويس؟”
“أجل، ولدت في الخامس و العشرين من ديسمبر، أما هو ولد في الواحد و الثلاثين”
“إذًا عليكما الذهاب لتسجيل بياناتكما صحيح؟”
“أجل سنذهب اليوم بعد الدوام”
<<نيار>>
الواحد و الثلاثون من ديسمبر.
لقد صدرت بطاقات الهوية خاصتنا، ذهبت مع جويس لإحضارها ، لحسن حظنا تزامن هذا اليوم مع يوم السبت الذي هو عطلة في الأكاديمية.
قلّبت بطاقة هويتي بين يدي…لم يكن من المفترض أن يكون هذا اليوم هكذا، لم تكن هذه خططنا.
قبل شهرين من الآن كان كل شيءٍ مختلفًا بوجود بيرم…عمي.
حتى ختم الهوية لم يكن ضمنها، لم يكن وجود ختم العاصمة في الاعتبار، لطالما ظننت أن هويتي ستختم بختم مسقط رأسي لا بسواه، و خلت أنني و جويس سنقضي هذا اليوم مع عمي.
لا اعتراض على حكم الله.
“نيار انظر! إنه مقهى النخيل”
مقهى النخيل؟
“لا أصدق أنه موجودٌ هنا! أهو ذاته الذي نعرفه؟”
مقهى النخيل…ذاك الذي كنا نزوره مع عمي؟
“انطق يا أخي! أريد الذهاب”
“ألم يكن من المفترض أن نعود للمنزل؟”
“جميعهم في الخارج على أي حال”
نظرت إلي بنظرة الطفل المتحمس و هي تمسك قميصي، لأكون صريحًا، ساورني الفضول عما إذا كان نفسه.
“لنذهب إليه”
واجهة المقهى نفسها، و الداخل نفسه…و حتى نفس الأشخاص.
“نيار؟ أنتما نيار و جويس،صحيح؟”
التفت لأرى المتحدث، فإذا بفتىً في مثل عمري يرتدي زيّ النادل، و جهٌ مألوف رأيته في مكانٍ ما.
“إين؟”
إين؟
“أجل إنه أنا، يا الله لم أكن مخطئًا!”
” لا أصدق كم مضى منذ آخر لقاء، ثماني أعوام؟ كيف كان حالك خلال هذا الوقت؟”
تذكرته!
“آه لا تسأليني، لا أعلم كيف نجوت حتى ، أعيش الآن مع عائلة عمي الأكبر الذي تدير هذا الفرع، فلم يبقَ أحدّ غيري، ماذا عنكِ؟كيف حال إياس و العم و العمة؟”
“أوه…إياس مازال مفقودًا و أمي توفيت، و أبي في المعتقل، حتى بيرم…”
“بيرم؟ لكني قابلته في الثامن من نوفمبر.”
“الحادي عشر من نوفمبر”
قلتُ بهدوء.
“أوه…يا لغبائي، أين تريدان الجلوس؟”
“الحديقة”
أرشدنا إلى الحديقة و جلسنا بين أشجار النخيل في زاوية الحديقة، نفس التصميم و الجلسة في الفروع الثلاثة.
“دعاني أخمن ما تريدان، بما أنها فترة الصباح، أجزم أن نيار سيطلب مربى البلح، و جويس ستطلب كعكة رطب البلح”
“و كوبين من القهوة لو سمحت”
“عُلم و ينفذ”
انتظرنا بعض الوقت قبل أن تصلنا طلباتنا، تلك الروائح العبقة، و النكهة الفريدة، كأنني أتذوق الماضي بألذ مذاقه، خطفتي الأجواء إلى ذكريات ماضٍ غابر ، لحظات خلتها لن تغادر، أغادرتني أم غادرتها أنا؟
“لم يتغير الطعم، رغم أن صانعها مختلف لكنها نفس الطعم بالضبط، كأن كلًا منهم يريد التغطية على رحيل الآخر، صحيح؟ حين تدمر الفرع الأول الخاص بأسرة إين و انتقلت إلى مدينتكم، تذوقت نفس الطعم في الفرع الثاني، رحت أبكي وقتها ، و جلست يا نيار ،تربت عليّ بتوتر و قدّمت لي قطعة الكعك خاصتك”
هل تتذكر ذلك حتى الآن؟
“و بالطبع كوني لم أتوقف عن البكاء، تجمعت الدموع في عينيك لأنك لم تعرف ماذا تفعل، حتى جاء عمي بيرم و انفجر ضاحكًا وقتها، كان متنمرًا، هل كان يستلذ بدموع الأطفال؟ لا أصدق الفرق بين نفسه ذات التسعة عشر و ذات السبع و العشرين”
متنمرًا…لكنه كان لطيفًا، دائمًا و أبدًا، لا أنسى ما قاله وقتها.
‘جراح القلب سيجبرها الزمان يا أطفال، و قد نمسي جراحًا في قلوب الآخرين، أتؤثرون أن تكونوا ندوبًا أم بلسمًا يداوي الجراح؟ لتخلدّوا الراحلين في قلوبكم بأحلى ذكراكم معهم، ليكون دفؤهم حاضرًا في الشدائد ، و عني أنا فلا أريد أن أصبح في قلبكم ضعفًا، فوالله ما يحب المرء أن يكون لأحبته إنكسار، فإن أخذ الخالق أمانته اذكروني بأبهى ذكرى’
قالها بشيءٍ من السخرية وقتها، و الآن نحن نعيش ما قاله واقع.
“لنلتقط صورةً يا نيار”
“صورة؟”
“أجل صورة ، هيا”
نقلت كرسيها جواري و التصقت بي قليلًا.
“صوّر الصورة بهاتفك أيها العبوس، و اخلع نظارتك أيضًا”
صوّرت الصورة و أخذت الهاتف مني تعاينها و تعدل عليها.
“هالاتك تكاد تصل الأرض يا نيار”
هدوء…هدوءٌ مشؤوم، كأنه هدوء ما قبل العاصفة.
صفارات إنذار انطلقت من المقهى، ثم صدر صوت إين في مكبرات الصوت.
“أرجو من زبائننا الكرام و الموظفين إخلاء المقهى بأقصى سرعة…أكرر يرجى إخلاء المقهى”
“إخلاء؟ ما هذا فجأة؟”
إخلاء؟ لماذا- أوه!
سحبت جويس بسرعة من المقعد و التي بدورها سحبت الأغراض عن الطاولة.
في غضون دقيقةٍ واحدة كان المقهى خاويًا من الجميع ، و بالكاد خرجت أنا و جويس منه حتى انفجر المقهى من خلفنا.
جذبت جويس ناحيتي غريزيًا أحميها من الشظايا المتطايرة، و التفت لأرى المقهى مشتعلًا ، أمسكت جويس من كتفيها أتفحص سلامتها، ما جعلني لا أدرك الخدوش الكثيرة التي حصلت عليها.
اندفع إين راكضًا نحونا.
“هل أنتما بخير؟ كنت قلقًا جدًا لأنكما تجلسان بعيدًا عن المخرج”
“ماذا حدث؟”
“صاروخ سقط على المقهى، ماذا برأيكم؟”
” و كيف تنبأتم به قبل سقوطه؟”
“إنه صاروخ مدىً بعيد لحسن الحظ، وردنا بلاغٌ طارئ من الأمن، لقد تجنبنا الخسائر البشرية، لكن يا حسرتي على العمل الذي سيلاحقني الآن من تنظيف و ترميم”
التعليقات لهذا الفصل " 8"