“إن كان يصعب عليكِ القول، فلا بأس. يمكنني أن أسأل إيريك مباشرة.”
“لا، لا! أرجوكِ، سأقولها أنا.”
لم تستطع جيلّا أن تسمح للسيد بأن يُجبر على سماع أمر كهذا من فم غيرها. سعلت مرات عدة محاولة أن تستعيد هيئة الطبيبة لا الخادمة المرتبكة:
“أخشى أن أخبركِ… أنّ الحمل سيكون صعبًا عليكِ.”
“لا أفهم. ماذا تعنين بذلك؟”
“أ… حسناً. صغيرتي، أعذريني على سؤالي، لكن… منذ أي عمر بدأتِ…”
لم يلبث وجهها الجادّ أن تلاشى، حتى غاصت ثانية في الحرج، تعثر كلامها وتقطّع.
“هل أشرح لكِ كما لو أنّي أخاطب طفلة صغيرة؟”
“أنا في العشرين الآن.”
“أجل، ولكن… عذرًا…”
وبعد جهدٍ وسلسلة من الأسئلة الملتوية، استخلصت جيلّا أنّ عليها الشرح كما لو كانت تخاطب طفلة في الثامنة.
“بكلمات واضحة… جسدكِ الآن قد يجد صعوبة في إنجاب طفل.”
رفعت مييسا عينيها الواسعتين في اندهاش صادق:
“طفل؟ إذن يمكن أن يكون لي طفل؟”
صرّت جيلّا أسنانها في سرّها، تلعن السيّد الذي ترك زوجته في هذا الجهل.
“عندما ينام الزوج والزوجة في الغرفة نفسها، فإنهما… أعني، يصعب أن أقول بطريقة مبطّنة… اللعنة! سأشرح لكِ كل شيء بوضوح.”
فبدأت تروي كل ما تعرفه، بتفصيل دقيق وصورة حية، حتى بدأت حلقات ناقصة في ذهن مييسا تترابط فجأة.
“آه… بالطبع! الآن أفهم لماذا حدث ذلك. أجل، كل شيء واضح.”
أومأت برأسها مرارًا وقد أشرق وجهها بابتسامة إدراك، ثم همست، كمن يتذوّق الكلمة لأول مرة:
“طفل…”
قالت جيلّا بحذر:
“حتى لو تعافت صحتك، يمكنك أن تمنعي حدوثه إن لم تكوني مستعدة. عادةً يكون دواء النساء أكثر ضمانًا، لكن يمكن للرجل أيضًا أن يغلي جذور شجرة واغالي ويشربها.”
“ولماذا بحثتِ عن ذلك سرًا من الخادمات؟ هل هو أمر مخزٍ؟”
ترددت جيلّا قليلًا قبل أن تجيب:
“في هذه البيوت النبيلة، أمر الوريث يُعَدّ بالغ الأهمية.”
أجابت مييسا ببساطة صادقة:
“الوريث هو إيريك. إيريك رجل مهم.”
“لا… أقصد… ليس تمامًا…”
ترددت جيلّا مرارًا، تراوغ كلماتها. لكن مييسا أرسلت إليها نظرة ثابتة وقالت بصرامة:
“جيلّا. إن لم تشرحي لي بوضوح، فلن أفهم أبدًا. توقفي عن الدوران، وأخبِريني كل شيء… كل شيء.”
لم تجد جيلّا مهربًا، فشرحت ما يجري عادةً في بيوت النبلاء، وأهمية إنجاب الوريث الشرعي، وكيف أن ذلك يمسّ شرعية الزوجة ومكانتها.
تمتمت مييسا وكأنها تفكّر بصوت عالٍ:
“إن لم أنجب وريثًا، سيتزعزع موقعي…”
حدّقت لحظة في الفراغ، ثم خفضت رأسها تتأمل أطراف أصابعها المنتفخة، التي تجعّدت من طول مكوثها في الماء. كانت مشوّهة المنظر، فأغمضت عينيها ببطء.
“وأي موقع لي أصلًا؟”
كانت تعرف في أعماقها أنها خدعت نفسها طويلًا بتجاهل الأمر، لكن الحقيقة كانت جليّة أمام الجميع… لا سبيل لإنكارها.
▷
استيقظ إيريك على هدير المطر المنهمر بعيدًا. لم يكتفِ السيل بقرع الأرض والجدران، بل صاح الرعد قاصفًا يهزّ السماء.
في لحظة، تساءل: كيف حال الخيام؟ هل صمدت؟ وماذا عن الجنود الجرحى؟
لكن ذهنه بقي فارغًا. هبّ قلقًا من فراشه، حتى شعر بنعومة الغطاء يلامس يديه. عندها فقط أطلق زفرة ارتياح.
عشرة أعوامٍ من التقلّب في ساحات القتال تركت بصماتها عليه. مرّر كفّه على وجهه اليابس يفكّر:
كل ليلة كنت أرفع بصري إلى السماء لأقرأ الغد من ملامحها… والآن، منذ أن وضعت الحرب أوزارها قبل أشهر، لم أعد أرى النجوم قط.
متى كانت آخر مرة حدّقت فيها في الأبراج؟
وسرعان ما عادت أفكاره لتتصل بزوجته، تلك التي دخلت حياته قبل بضعة أشهر فقط. التفت، فرأى ملامح مييسا على الوسادة، مستلقية باستقامة. تذكّر يوم قالت له إنها تكره المطر… ربما يجدر أن يشدّ الستائر أكثر.
وفعلًا، بينما البرق يمزّق السماء، شدّ إيريك الستائر الثقيلة وأحكمها، ثم عاد إلى الفراش.
لكن شيئًا ما لم يستقم. لم يكن يسمع أنفاسها. التفت ثانية ليتأكّد.
كانت مييسا مستلقية على ظهرها، تغطي جسدها حتى فمها باللحاف، لا تتحرك.
ازداد القلق في صدره، فوثب سريعًا وأشعل النار في المصباح. كان يعرف أن زوجته لا تنام أبدًا على ظهرها؛ دائمًا تنكمش وتحتمي بنفسها، كما لو تخشى أن تُؤخذ على حين غرة.
“مييسا…؟”
وحين أشعل الشمعة على الطاولة، رأى حقيقتها: جسدها غارق في عرق بارد، ترتجف بشدة.
مدّ ذراعيه إليها فورًا، يضمّها إلى صدره. جسدها كان متصلبًا، باردًا كالثلج.
“مييسا! بحق السماء…”
فتحت عينيها نصف فتحة، نظرت إلى وجهه، ثم تلاشت قوتها وأغمي عليها.
لم يتردّد، فأرسل في الحال خادمًا يركض إلى مقرّ الفرسان. وما هي إلا دقائق حتى جاءت جيلّا، مبللة من المطر، وقد ارتدت على عجل ثيابًا غير متناسقة.
“يبدو أشبه بإرهاق شديد… هل أرهقت نفسها أكثر مما ينبغي؟”
أجاب إيريك بآهة طويلة:
“تعرفين أنها تخاف الطيور. أما المطر، فقد قالت إنها تكرهه، لكن لم أتوقع أن يكون أثره بهذا العمق.”
“يا للعجب…”
تفحّصت جيلّا وجه مييسا الشاحب، ثم التفتت نحو إيريك تسأله:
“سيدي، هل عندك ورق نظيف؟”
أخذت ورقة من على مكتبه، مزقتها إلى شرائط دقيقة، بللتها بالماء، ثم عصرتها وبدأت تشكّلها بيديها. كان إيريك يراقبها بصمت. فهو يعرف أن جيلّا، مهما بدت مرتبكة في العادة، تمتلك كفاءة حقيقية كطبيبة.
قالت جيلّا وهي تواصل عملها بجدية نادرة الظهور على وجهها:
“لقد جرّبتُ أشياء عدّة، لكن تبيّن أن الورق أنفع من القطن. آه، هذا فقط لتشكيل القالب، وبعد أن يجف تمامًا يمكن وضعه في الأذن. إن أدخلتموه وهو رطب فقد يسبب مرضًا في الأذن.”
سأل إيريك بغير تصديق:
“تريدين سدّ الأذن بهذا؟”
“نعم. إلا إن كان الرعد عظيمًا حقًا، وإلا فسيكفي هذا لحجب الصوت.”
كوّمت جيلّا عدّة قطع ورقية على شكل كُرات صغيرة ووضعتها على الطاولة قرب السرير. ثم أردفت بنبرة متحفظة:
“لكن كما تعلمون، هذه ليست حلًّا جذريًا.”
زفر إيريك بعمق:
“وهذه الأمطار ستطول… هذا مقلق حقًا.”
وبينما كان يحدّث نفسه، تقدمت جيلّا خطوة واقترحت، بعد تردد:
“سيدي، ربما الأفضل أن…”
لكن قبل أن يُتمّ كلامها، فتحت مييسا عينيها فجأة، مفزوعة. لم يكن سقف الغرفة المألوف فوقها، بل بدا وكأنها قد دخلت مكانًا غريبًا تمامًا.
“…؟”
للحظة حسبت أنها في حضن تنورة عملاقة، لكن سرعان ما تبيّن لها أن سريرها قد غُطي من كل الجهات بستائر كثيفة من القماش.
سمعت صوت زوجها يطمئنها:
“لقد شيدتُ شيئًا أشبه بالخيمة التي كنا نستعملها في ساحات القتال. آه، هل تسمعينني جيدًا؟”
شعرت بأذنيها كأنهما محشوتان بشيء أثقل السمع. مدّت يدها تتحسس، لكنه أمسك بها بلطف.
“ما زال المطر يهطل بغزارة. سأزيلها حين يهدأ الصوت قليلًا.”
طرفت مييسا بعينيها بارتباك. كان الطنين يملأ رأسها، لكنها استطاعت أن تميّز بوضوح كلماته الواضحة القريبة.
“هذا… لماذا؟”
“بسبب ضجيج المطر.”
“إذًا، وهذه الستائر؟” سألت وهي تشير بإصبعها إلى القماش الممدود حول السرير.
ابتسم إيريك وقال:
“في البداية اكتفيت بإنزال مظلة السرير لحجب الصوت. لكنني وجدت نفسي أحتاج للقراءة والعمل قربك. تكدست الأوراق على الطاولة، واحتجت لمكان آمن للشموع… فكان الحل أن أحيط السرير كله بالقماش.”
كان القماش السميك يتدلّى من السقف بانحدار، ليغطي المساحة كلها حتى الأرض. وعلى امتداد الأرضية بجانب السرير، صفّت طاولات صغيرة محمولة عليها شمعدانات، لكنها كانت محمية جيدًا أسفل الخشب.
“حتى لو سقط غطاء أو بطانية، فسيسقط على الطاولات، ولن يلامس النار.”
في الداخل لم يكن يُعرف أهو ليل أم نهار؛ حُجب الخارج تمامًا، ولم يبق سوى نور الشموع الدافئ. بقيت مييسا تحدّق محيطها في ذهول صامت.
ترك إيريك أوراقه جانبًا، ثم مدّ يده يربت على رأسها برفق وهو يسأل:
“كيف تشعرين؟ هل تستطيعين أن تتناولي شيئًا؟”
هزّت رأسها بخفة. فنهض، أزاح جانبًا إحدى الستائر، وغاب لحظة قبل أن يعود يحمل صينية.
“قد يصعب هضمه عليك، لذا تناولي ببطء.”
جلس بجانبها، ينفخ على الملعقة المليئة بالعصيدة السميكة قبل أن يقرّبها من شفتيها. لكن مييسا لم تستطع فتح فمها بسهولة.
لقد ضاق صدرها حتى شعرت أنه سينفجر.
كأنها عادت طفلة، في جناح سيليا، ذلك المكان الصغير النظيف الذي كان بيتها الأول.
هناك، كانت والدتها تبتسم لها دائمًا بحرارة، وكانت الوصيفات يعاملنها بلطف بالغ. كل من التقت عينيه بعينيها الصغيرة ناداها باسمها مبتسمًا.
كانت محاطة بالحب، وكانت تحبّهم بدورها بصدق.
لكن بعد يوم مشؤوم، تلاشى كل ذلك. لم يبقَ أحدٌ بجانبها.
ومنذها، رفضت مييسا أن تعترف بأي شيء يذكّرها بتلك الطفولة. راحت تفصل الماضي الجميل عن حاضرها الكالح، تفصله كما يفصل المرء حلمًا عن كابوس.
وعاشت حياتها كأنها تشاهدها من بعيد.
كانت لحظاتها الغريبة، أفعالها الشاذة، تملؤها بفرح ساخر. لم تبالِ إن أشار إليها الآخرون بأصابعهم. شعرت كما لو أنها دمية على مسرح معدّ سلفًا، تعيش حياة ليست حياتها.
لكن الآن، كان ثمة رجل ينظر إليها بعينين دافئتين، يبتسم لها بلطف. رجل لا يراها في أحلامها الماضية، بل في هذا الواقع القذر الموحل.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات