الآن باتت مييسا قادرة على الإصغاء إلى الحديث خلف الباب بهدوء أكبر.
> “إيريك مسحور تمامًا بتلك المرأة، كأنهما زوجان فقدا عقليهما معًا ولم يعودا يعرفان إلا المصائب.”
“لذلك لا يليق بك أن تبقى متشبثًا بمقعد ربّ البيت أكثر من هذا.”
سمعت مييسا وقع كعبَي السيدة كْلادنيا وهي تنهض من مجلسها.
> “إن كنت ترغب في أن تحيا بقية عمرك مرتاحًا بجانب تلك المرأة، فأرجوك، أفق الآن قبل فوات الأوان.”
> “زوجتي! تالياسا… تالياسا!”
دوى صوت اصطدام عنيف بشيء ثقيل على الأرض، وتبعه صوت توسل بائس صادر عن ربّ المقاطعة.
> “أنا… أنا أخطأت. لقد فقدت صوابي فحسب، إنني…”
لكن صوت السيدة كان أشد برودة من ريح الشتاء.
> “لا حاجة لأن ننتظر للعام القادم. غدًا سنبدأ فورًا بإجراءات الخلافة. أما تلك المرأة، فسنهتم نحن بتهريبها حتى خارج الأراضي إن اقتضى الأمر.”
ثم أخذت خطواتها المتعالية تتلاشى نحو خارج القاعة.
أما مييسا فما تزال ممددة تتظاهر بالنوم، في حين جلست جيلّا على الأرض تضرب رأسها بيديها وتئن. وفي الغرفة دوى فجأة صوت تحطم زجاج، تبعه عواء غريب أشبه بصوت وحش جريح.
عندها أيقنت مييسا أن لا شيء آخر يستحق التنصّت، فاعتدلت وأسندت رأسها إلى ظهر جيلّا.
قالت الأخيرة بصوت مرتجف:
“آه… هل تودّين أن أحملك على ظهري؟”
فما كان منها إلا أن نهضت، وحملت مييسا بحرص، ومضت بها عبر الممر بخطوات متوجسة. كان ظهرها مبللاً بالعرق البارد، ولحسن الحظ لم يصادفا أحدًا من الخدم في الطريق.
وحين وصلا أخيرًا إلى غرفة النوم، انهارت جيلّا على الأرض الخشبية بعد أن وضعت مييسا برفق. كانت ساقاها قد خانتاها من شدة التوتر. تمددت مييسا بجانبها هي الأخرى. لمجرد أنهما استلقتا جنبًا إلى جنب، شعرت فجأة بخفة تدعو للابتسام، لكنها كتمت ضحكتها.
قالت جيلّا وهي تبتسم منبسطة:
“آه… الآن أفهم لماذا تحبين الاستلقاء على الأرض دائمًا يا سيدتي الصغيرة. الجو بارد ومنعش.”
وبينما كانت تضحك بصوت خافت، فُتح الباب فجأة، فارتعدت ونهضت مذعورة.
“سيدي الشاب! أ، أتيتم!”
أجاب إيريك:
“……لقد عدت. لكن، ما بكِ؟ هل أنت مريضة؟”
“لا، لا أبداً.”
مييسا التي بقيت مستلقية لم ترَ ملامحه، لكنها سمعت خطواته الواثقة وهو يتجه مباشرة إلى الحمام.
“ما دامت سيدتي بخير وتستريح، يمكنك الانصراف. أنا بحاجة إلى الاستحمام.”
“أجل، حاضر.”
وحين أُغلق باب الحمام، أرسلت جيلّا تنهيدة وهي تهز رأسها.
“يا إلهي… لقد أفزعني. ألا يمكنه أن يصدر صوتًا وهو يدخل؟”
ثم رفعت مييسا برفق إلى السرير وغادرت.
عاد إيريك من الحمام بعد قليل، وسألها:
“وماذا فعلتِ اليوم؟”
ترددت. هل يمكنها أن تقول إنها كانت تتنصّت على ربّ المقاطعة وزوجته؟ فاختارت أن تجيب بسطحية:
“ذهبت إلى المطبخ، وأعطوني بعض جوز البيكان…”
ابتسم وسأل:
“وما الممتع في المطبخ؟”
“الناس هناك ممتعون. صاخبون، منشغلون على الدوام.”
استمع إيريك إلى كلماتها المبعثرة بابتسامة متأنية، ثم قال بجدية:
“أظن أنه حان الوقت لنفصّل لك ثيابًا جديدة حقًا.”
أجابت:
“أنا مرتاحة بهذه.”
“ومع ذلك…”
توقفت عيناه عند مريلتها المطرزة. لم يكن يظن أن لها أي اهتمام بمثل هذه الأشياء، لكنها كانت تحرص دائمًا على ارتدائها، لذا قال:
“حتى إن لم تكن مجوهرات، فعلى الأقل قماش أرقّ وأنعم. يمكننا أن نفصّل لك بضع قطع مشابهة.”
ثم أخذ يقلب طرف ثوبها بيده كأنه يحدث نفسه:
“أه… لقد نسيت أن أمنح الخادمات مكافأة على عملهن.”
“ماذا؟”
“ربما والدتي قد فعلت ذلك بالفعل. انظري إلى هذه التطريزات… تبدو دقيقة للغاية، لا بد أنهن بذلن جهدًا كبيرًا.”
ثم أضاف:
“في الحقيقة، ما على الخدم وأهل المقاطعة إلا أداء واجباتهم. لكن حين يتجاوزون ذلك ويقدّمون لطفًا كهذا، فلا ينبغي أن نتعامل معه كأمر بديهي.”
كان قد قال كلامًا شبيهًا بهذا من قبل، ولم تلْقه مييسا أي بال، لكنها الآن أصغت بانتباه.
قالت بخفوت:
“عجيب.”
“ما العجيب؟”
لم يسبق لها أن سمعت من أحد من علية القوم مثل هذا المنطق، لكنها لم ترغب في الخوض أكثر، فغيّرت الحديث:
“أنا أحب أن يكون لي ثياب متشابهة. لكن لا أريد أن يأتي الخياط ليقيس جسدي. هذا متعب لي وله.”
كانت تعلم أنها لا تستطيع أن تقف مطيعة طوال الوقت كما يقتضي الأمر.
فقال إيريك:
“إذن سنعطيه ثيابك القديمة، ليصنع على مقاسها ما يشبهها.”
“حسنًا.”
ابتسمت مييسا ابتسامة مشرقة، فردّ هو بابتسامة رقيقة، لكنه لم يقترب منها ليطبع قبلة كما كان يفعل في الماضي.
انتبهت مييسا إلى الأمر عند بزوغ الفجر، لحظة استيقاظها من النوم.
منذ حادثة مالكا، لم يلمسها إيريك مرة أخرى.
صحيح أنها كانت قد رفضت من قبل، لكن ألا يبالغ الآن في تجاهلها حتى إنه لم يعد يطبع قبلة على شفتيها؟
اعتدلت في جلستها، وحدّقت في وجهه المنعكس بلون أزرق باهت تحت ضوء الفجر المتسلل.
صار لها هواية جديدة هذه الأيام: أن تسند خدها بيدها وتستلقي بجانبه، تتأمل ملامحه بهدوء.
حرارة جسده حين يحملها بين ذراعيه، أو حين يصعد بها السلالم، لم تكن سيئة البتة.
مدّت يدها بخفة، رفعت الغطاء الرقيق الذي كان يستر جسده، وأدخلت ذراعها ببطء من تحته.
حتى في منتصف الصيف، يظل هواء الفجر باردًا. لذلك كان ملمس الدفء المختزن تحت الغطاء ممتعًا، حتى دفعت بذراعها إلى الكوع، وتقدمت بجسدها قليلاً، ثم توقفت قبل أن تلامسه مباشرة. هناك، مستندة على بطنها، تابعت النظر إليه.
ملامحه وهو نائم كانت دومًا ساكنة، مرتبة. لم يصدر منه شخير، ولا همهمات في النوم. عينان مغمضتان، شفتان منطبقتان، وجسد في وضع مستقيم ثابت. كان أمرًا عجيبًا بحق.
رغم ضخامة بنيته، فقد كانت في وجهه زوايا جميلة إذا ما دققت النظر: أهداب طويلة، أنف مستقيم، وشفتان منغلقتان برسم متماسك.
والآن، حين تسمع الناس يقولون إنه وسيم، تدرك أن المديح لم يكن مبالغة.
وهي تتذكر، حين تجولت في أرجاء بيت المقاطعة أو حتى في قصر الملك قديمًا، لم تصادف مخلوقًا بهذه الملامح الواضحة والمصقولة.
همست باسمه كمن ينادي سرًّا:
“إيريك.”
لم يأتِها جواب، طبعًا. لكن ابتسامة عفوية ارتسمت على وجهها.
في الحقيقة، كان إيريك طيبًا معها منذ لقائهما الأول. كأن ضبابًا كان يحجب عنها الرؤية طوال الوقت، ثم انقشع فجأة لتراها واضحة: كل أفعاله منذ البداية كانت في صالحها.
لا بد أن هناك مواقف أغضبته، ومع ذلك لم يرفع صوته عليها يومًا، ولم يوبخها أو يزجرها. كان يكتفي دائمًا بابتسامة.
وفوق ذلك، لم يتوقف عن قول الكلمات التي تطيب لها، لم يتفوه بحقها يومًا بعبارة قاسية، بل قال لها:
> “أنتِ أوضح وأبسط مما كنتُ أظن. وفي معظم الأحيان لم تكوني صعبة المراس، ولم تفعلي شيئًا بلا سبب.”
كأنه كان يقول: إن مييسا في جوهرها شخص جيد.
ولأن هذه الكلمات صدرت عن شخص واحد فقط يعرفها على حقيقتها، كان من المستحيل ألا تشعر بالسعادة.
وتذكرت كذلك قوله:
> “الاعتناء بأهلي وحمايتهم أمر بديهي. ثم إن آل كلادنيا لا يخونون الثقة أبدًا.”
حتى مييسا، التي لم تثق في أي كلمة نطقها مخلوق بشري، أرادت أن تصدق قوله هذا. فهو لم يخذلها يومًا.
شعرت بالطمأنينة. ربما كان غضب الإلهة يوشك على الانتهاء، والدليل أنه جعلها تجلس هكذا في مقعد الزوجة دون تردد.
مدّت يدها بحذر، راغبة في أن تلمس خصلات شعره السوداء. حين رأتها أول مرة خافت من سوادها الكالح، لكنها الآن—
“هل استمتعتِ بالمشاهدة؟”
ارتجف جسدها، وأسرعت إلى الاعتدال، لكن يده شدتها إليه.
“……”
احمرّ وجهها بشدة من شدة الخجل.
“لِمَ لم تجب ما دمت مستيقظًا؟”
“ومن يدري؟”
وجدت نفسها محبوسة بين ذراعيه دون أن تدري كيف. حاولت التملص بعجلة.
“كنتُ فضوليًا… أردت أن أرى ماذا تنوين أن تفعلي.”
كان الظلام نعمة، وإلا لانكشف حمرة وجهها.
“إذن… ما الذي كنتِ تفعلينه؟”
“فقط… فقط كنت أنظر إليك.”
“في هذه الساعة؟ لا بد أن الظلام يحجب عنك الكثير.”
ثم اعتدل، وأشعل شمعة فوق الطاولة الصغيرة قرب السرير.
“ها قد صار بإمكانك أن تتأملي براحتك.”
فرك وجهه بيده كمن يغسل عينيه من النوم، ثم مرر أصابعه بين شعره، وجلس بجانبها مسندًا ظهره.
“لكن تذكري، لم أغتسل بعد، فلا تتوقعي صورة كاملة.”
باتت محرجة أكثر، وصارت النظرات أصعب. حين ترددت، أسند رأسه إلى اللوح الخلفي للسرير وأغمض عينيه.
“هل أغماض عيني أسهل لكِ؟”
“نعم…”
قالتها بصوت خافت، ولم تجرؤ على النظر مباشرة. اكتفت بأن عضت شفتها ونظرت إليه بطرف عين.
“لقد رأيت بما يكفي. انتهى الأمر.”
ابتسم بخفة وقال:
“وإذا انتهى التأمل، فلا بد من رأي بعده، أليس كذلك؟”
“رأي…؟”
لم تعرف من أين تبدأ. لكنها جمعت شجاعتها ونطقت، محدقة في وجهه:
“أنفك يبدو صلبًا.”
ضحك ضحكة واطئة منبعثة من حلقه:
“أهذا عيب؟ ربما أفضل من أنف طري. وماذا أيضًا؟”
“شفاهك طويلة.”
“هذا بسبب ابتسامتي. ثم؟”
“ولديك غمازة هنا…”
مدّت إصبعها تلمس وجنته، لكن قبل أن تسحبها قبض على يدها وأمسكها.
“إذن، بشكل عام؟ هل يروقك وجهي يا سيدتي؟”
“آه…”
تلعثمت، ثم قالت وهي تغرق في نظراته:
“كلمة ‘وسيم’ لا تكفي، بل أنت أجمل من ذلك بكثير.”
“ماذا قلتِ فجأة؟”
انفجر ضاحكًا. ثم قال:
“حسنًا، والآن جاء دورك.”
مال نحوها، حتى لم تعد الشمعة تكفي لتفصل بينهما. صارت ملامحه قريبة جدًا حتى كاد قلبها ينفجر.
نظر إليها طويلاً، ثم أطلق تنهيدة ثقيلة:
“لقد صبرت طويلًا. الليلة عليكِ أن تمنحيني بعض التنازل.”
اقترب من شفتيها ببطء، مراقبًا رد فعلها. وما إن أطبقت جفنيها، إشارة إلى القبول، حتى لامسها بقبلة امتدت طويلاً.
شهقت بين أنفاسه، لكنها لم تدُر بوجهها بعيدًا. زادت قبلته عمقًا، حتى أفلتت منه رزانته ومدّ يده ينزع سترتها. كان جسدها الذي أنهكته الهزال فيما مضى قد اكتسى بلمعان ناعم من اللحم الأبيض الطري.
قال هامسًا:
“كل الجهد لم يذهب سدى.”
ثم انحنى، وراح يمرر لسانه ببطء على مواضع كان العظم يبرز منها من قبل.
“م-مهلًا!”
تصلبت يداها، ودفعت صدره فجأة.
“لا حاجة… لا حاجة أن نكمل أكثر من هذا.”
“لا حاجة؟”
“ديالِه… لقد قال في القصر إن الأمر قد تمّ بيننا. أليس كافيًا؟”
صحيح أن ديالِه شهد أمام تيلبيريغ بالفعل.
لكن إيريك رد بابتسامة ماكرة:
“حتى لو لم يقل شيئًا، يمكن إرسال ملاءة ملطخة إلى القصر. أو، أفضل من ذلك…”
ضحك بخفة.
“يمكننا أن نصنع الدليل الليلة، لنكون واثقين تمامًا.”
***
قطرات الماء كانت تسيل من شعر مييسا المبلل. حاولت أن تفرك عينيها المليئتين بالصابون، لكن جيلّا أسرعت تجففها بكمّها، وهي تغلي غضبًا:
“يعني بعد كل ما جرى، ما زال يفكر أن يلمسكِ؟ أيُّ بشر هو هذا؟”
أطلقت مييسا سلسلة من العطسات المتكلفة لتصرف الانتباه.
“هل تشعرين بالبرد؟ سأزيد الماء الساخن.”
ومع عبوسها، أسرعت جيلّا تغسل جسدها بحركات سريعة.
“مهما يكن، كيف يسمح لنفسه أن يلمس شخصًا لا يعرف شيئًا؟ هذا لا يدخل العقل.”
كانت يداها لا تتوقفان، ولسانها أيضًا.
وبينما بدا أن الحمام سينتهي أخيرًا بعد طول بدا، تجمدت جيلّا فجأة. توقفت يدها المرتجفة وهي تحاول عدّ شيء بأصابعها، ثم شهقت بذهول:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات