Before you go insane - 8
- الصفحة الرئيسية
- جميع القصص
- Before you go insane
- 8 - الفصل الثَّامِن - أَنتَ المُشتَبهُ بِه، رُغمَ كُلِّ شَيء
انحنت فينيا برأسها، تشعرُ بأنفاسها المكبوتة تتسربُ بصعوبة. كانَ صوتُ تاتار ينسابُ بهدوء ليُعيدها تدريجيًا إلى الواقع. رفعها بين ذراعيه، و جسدها المُرتجف لا يزالُ عاجِزًا عن استعادةِ اتزانِه، ليحملها نحوَ السلالم المؤدية إلى خارج القبو.
“لا تُفكري في شيء الآن. لا تتخذي أي خطط، و لا تُحاولي ترتيب أفكارك. فقط اترُكي عقلكِ خاليًا لِهذا الوقت.”
على الرغم من دقات قلبها التي كانت تعلو في أُذنيها، كانَ صوتهُ الهادئ، المُشبع بالطُمأنينة، يخترِقُ حالة الفوضى التي تعيشُها بِكُلِّ سلاسة.
“مهما كانت المشاعر التي تعتريكِ، فهي لن تؤذيكِ. فقط تنفسي بانتظام، الأمر بسيط.”
نعم. كما قال، إنها مُجرد مشاعِر. دفنت فينيا رأسها في صدره، و أغمضت عينيها، معدّةً نفسها لأخذ نفس عميق، واحِدًا تلو الآخر. بدأ قلبها يخفق ببطء، و معَ كُلِّ نفس كانت الارتجافات التي كانت تعصِفُ بجسدها تهدأُ شيئًا فشيئًا.
قبلَ أن تُدرِك، كانا قد خرجا من القبو و عادا إلى غُرفة الصلاة. أغلقَ باب القبو خلفهما. نظرَ تاتار إلى عيني فينيا الفارغتين قبلَ أن يضعها بحذر على المنصة.
أخذَ يُمرر إبهامهُ بِرفق على خط الدم الرقيق الذي سالَ على رقبتها البيضاء، تاركًا علامة حمراء على إصبعه كما لو كانَ يرسمُ لوحة. كانت تلك النقطة حيثُ ضربتها شظية سفيتيانا.
أمامهُ، كانَ الدم يلمعُ على إصبعه بنظراته الفضية البارِدة، ثُمَّ أخذَ يد فينيا بهدوء و قبّل ظهرها ببطء.
“استخدمني، إمبراطورة. لأن وجودُكِ في حياتي يجعلُني أشعرُ بالحياة، و لا تأثير للموت عليّ.”
عندما ركزت عيون فينيا الزرقاء عليه، ابتسمَ تاتار ابتسامةً راضيةً، كما لو أن ذلك كانَ كافيًا.
“إذا أردتِ، يُمكِنُني أن أموت من أجلِك عدةَ مرات كما تشائين.”
سحبت فينيا يدها من قبضته بتعبير بارد. اختفى الدفء الذي ربطَ بينهُما لفترة قصيرة، فمالَ تاتار برأسه قليلاً، ممحياً الابتسامة التي كانت على شفتيه.
“لقد فرغت من ترتيب أفكارك بالفعل، على الرغم من نصيحتي بأن تُفرِغي ذهنك.”
“يستغرقُ الأمر وقتًا يُعادل صعود الدرج لتهدئِة عقلي.”
“حسنًا، إذا استمرَ هذا الحال، فستنهارين قريبًا، إمبراطورة.”
كانت نبرتهُ حاسمة، و كأنَّ شخصًا قد مرَّ بتجرُبة مُشابِهة من قبل. كانت نصيحتهُ تبدو هادِئة.
“لم تكُن نصيحتي مُجرد تحذير لئِلا تنهاري بالكامل. كانت صفقة. أنت لي، و أنا لكِ. حتّى لا نبقى وحيدين. هل نسيتِ؟”
استقرت نظراتهُ الداكنة عليها. قابلت فينيا عينيه دونَ أن ترتجف، مُحاولةً البحث عن النية التي تكمُن وراءهُما.
“لم أنسَ.”
“إذن، تمسكي بعقلكِ جيدًا. إن لم تريدي أن تنهاري تمامًا، فلا تقتربي من الهاوية.”
“أنت… “
شعرت فينيا بوخزٍ مؤلم، فلامست رقبتها. على الرغم من أن الدم قد تمَّ مسحه، إلا أنَّ الألم ظلَّ يُعكِر صفوها. تجعدت جبهةُ تاتار عندَ رؤية ذلك.
ما الذي كانَ مُهمًا في الأدلة التي ألقتها سفيتيانا؟ كانَ مِن الأفضل أن تفقِدَ عقلها بالكامل أو تقِفَ ثابتةً دونَ أن تتأثر بالآمال الباطلة.
رؤيةُ فينيا تُكافِح على حافة الهاوية، غير قادرة على اتخاذ قرار، كانت تُثير أعصابه.
“لماذا لا تستريحين في القصر المرة القادمة، يا إمبراطورة؟ إذا كُنتِ تشعُرين بالملل، يُمكنكِ قتلُ بعض النُبلاء المُزعجين أو بدء حرب.”
“لا تكُن سخيفًا. أولًا، دعنا نُحقق في من كانَ يملُك سفيتيانا قبلنا و ما هيَ المُعجزات التي قامت بها. رُبما هُناك معلومات فاتتنا.”
“لقد بحثنا في سفيتيانا بشكلٍ شاملٍ بالفعل. لا يوجدُ شيء آخر لنكتشفه.”
“سفيتيانا ذكرت بوضوح أن هُناك شخصًا آخر قد ملكها أولًا. لكن لا يوجد أيّ ذكِر لذلك في الكتب المُقدسة. قد لا نعرف كُلَّ شيء.”
“قد يكون هذا كُلَّ شيء. ماذا لو كُنا مُجرد لُعبة في خُدع سفيتيانا؟ هل ستظلينَ واقِفةً على حافة الهاوية هكذا؟”
حدقت فينيا بتاتار بنظرة باردة.
“لماذا تُصبِحُ مُزعِجًا هكذا؟ هل تريدُ فعلاً إنهاء هذه الدورة؟”
ضاقت عينا تاتار بينما ارتسمت ابتسامة مُقنعة على وجهه.
“بالطبع.”
كانَ الجواب الواضح يُثير شيئًا من الانزعاج. عقدت فينيا حاجبيها قليلًا.
“في الوقت الحالي، سأبحثُ عن الأدلة بنفسي. أما أنتَ، فتولى شؤون قصر الإمبراطورة.”
“عرضتُ نفسي لكِ طواعية، و أنتِ تستخدمينني في مِثل هذهِ المهام المُملة.”
“إن كُنتَ غير راضٍ، يُمكِنُنا أن نعمل بشكل مُنفصل في هذهِ الحياة. سأُغادر القصر. يُمكِنُنا أن نلتقي في التراجُع القادم.”
“أنتِ على عجلة، أليسَ كذلك؟ أحيانًا يجِبُ أن نأخُذ استراحة من هذهِ المهام المُملة. قرارُكِ صحيح، إمبراطورة.”
على الرغم من أن الحديث كانَ يبدو عابرًا و غير رسميّ، لم تتمكن فينيا من التخلص من الشعور الغامض بعدم الارتياح. كانَ مِنَ المُفترض أن يكونا الوحيدان اللذان يفهمان بعضهما البعض في عزمهما المُشترك على إنهاء التراجُع. لكن الآن، بدا الأمر كما لو أنها تواجه فارِسان يهدُف كُل منهُما إلى هدفٍ مُختلف.
توجهت فينيا بعيدًا عن تاتار، و رغم أنها شعرت بنظراته الثاقبِة، إلا أنها أصرّت على تجاهلها له.
كانَ ذهنها مشوشًا بما فيه الكفاية؛ لم يكُن لديها مساحة لتحتمل قضية أُخرى لم تفهمها تمامًا بعد.
لكنَ تاتار كانَ لهُ رأي مُختلف. أمسكَ ذقنها و أدار وجهها نحوه، كأنما يحاول فرض اهتمامه.
عينيها الزرقاوتين المُرتعشتين كشفا عن حالتها النفسية المضطربة.
أغمضت فينيا عينيها بشدة ثُمَّ فتحتهما مُجددًا. و في اللحظة التي اعتقدت أنها هدأت، تداخلت عيون سيفيتيانا الفارغة مع نظرات تاتار الفضية الحادة، مما جعل تنفسها يختنق مرّة أُخرى. بدأ اليأس الذي اجتاحها في وقتٍ سابق يتسللُ من خلال جراحها مرة أُخرى.
كانَ الأمر مرهقًا. كانَ من الغريب أن تبقى فينيا في حالة عقلية مُتماسكة في هذا الوضع، لكنها شعرت بالضعف الشديد لأنها كانت تشعر بهذهِ الطريقة.
“ها…”
“قُلتِ إن الوقت الذي يستغرقه صعود الدرج كانَ كافيًا للاسترخاء. يبدو ذلك مُضحكًا.”
“لا تستفزني، أنا مُنزعجة بما فيه الكفاية.”
“سيفيتيانا، أنا، أيهم؟”
“هل يجِبُ عليكَ أن تسألَ حقًا؟”
رفعت فينيا رأسها، تُحدق في سقف غُرفة الصلاة المدور عبر التماثيل الخشبية.
كانَ السقف، الذي يقِفُ شامِخًا و نقيًا، محفورًا بتفاصيل دقيقة لصورة حاكم لم يظهر يومًا.
كُل شيء كانَ يبدو غير مُناسب، غير متوازن.
سيفيتيانا، بكلماتها الغامضة؛ الشخص الذي صنعَ سيفيتيانا؛ و المعبد المُمل الذي يُمجد كليهما.
و أكثر من ذلك، حليفها الوحيد الذي كانَ يتصرف بشكل غريب.
“إنه خانق. هل كانَ يجِبُ علينا تدمير المعبد معًا في التكرار الخامِس و السبعين؟”
“إن أردتِ، يُمكِنُني أن آتي بجيوش لتدمير المعبد. أنشرُ وباء، أشعِلُ النيران، أو أُعلق رؤوس الكهنة أمام القصر الملكي.”
“لن يدوم أكثر من عام.”
“إن أردتِ، يُمكِنُني جعل كُل مرّة تخرجين فيها تُقابلين فيها المعبد المُدمر. سيُشعِرُكِ و كأنها أبدية. سأجعلُ ذلك يحدث.”
على الرغم من أن قوتهُ أصبحت بلا جدوى بالنسبة لهُ الآن، إلا أنهُ لا يزالُ حاكم تيسيبانيا.
و معَ ذلك، بدت إمبراطورته خالية تمامًا من الحافز.
رفضت فينیا ذلك بِشكلٍ قاطِع، مُعبِرةً عن مدى تعبها من مُجرّد التفكير في الأمر.
“لا داعي لذلك. أنا مشغولة بما فيه الكفاية في تتبُع الأدلة التي قدمتها لنا سيفيتيانا.”
“بالطبع، تتبعها في حالتك الحالية.”
أمسكَ بمعصمها النحيل، بينما كانت أصابعها المرتعشة تنغلق في قبضة مشدودة.
“أنا بخير.”
“و أنتِ تتوقعين مني أن أُصدقَ ذلك؟”
“إذا لم أكُن بخير، هل تُخطط لإيقاف كُلَّ شيء و البدء في تكرار التراجُع؟”
لم يُجِب، بل قامَ بإزالة الدبوس الذي كانَ يُثبت شعرها البلاتيني، فانسدلَ شعرها الناعم كـخيوط فضية، بينما لفَ ذراعيه حولَ كتفيها و أجلسها.
في حضنه، كانَ وجههُ هادِئًا، غير أن أفكارهُ كانت غامضة بالنسبة لها.
عبست فينیا و هيَ تُحدق فيه، محاولِةً فكَّ شفرة سلوكه. لم تستطِع تحديد ما إذا كانَ يتجاهل سؤالها عن عمد، أم أنهُ كانَ قد توصّلَ إلى إجابةٍ في ذهنه، لكن فكر في الأمر قبلاً.
لماذا كانَ سلوكه في الآونة الأخيرة يُثير في نفسها هذا الاستياء المُتزايد؟
“جلالتك.”
“كيفَ استطاعت إمبراطورتي أن تبقى على هذهِ الحال من اليأس طوال هذا الوقت؟ لابُدَّ أنكِ مُتعبة. كانَ بإمكانكِ الاستسلام مُنذُ زمن.”
و رغم أن سؤاله كانَ غير مُتوقع، لم تجد فينیا ما يستدعي التردُّد في الإجابة عليه.
أجابت بصوتٍ هادئٍ، دونَ تلعثم:
“لأنكَ هُنا.”
تركت أطرافُ أصابعها الدقيقة على قلبِه النابض. و رغم أنهُ قد حُرِمَ من الموت الذي يليقُ بالبشر، إلا أن الخفقان المُنتظم تحتَ كف يدها أكدَ لها أنهُ حي.
نحنُ على قيد الحياة. قد نكونُ تائِهين في الزمن و كأنّه لا نهاية له، لكن سماعُ نبض قلب آخر يُذكرُنا بأننا لسنا وحدنا في هذهِ الرحلة.
ما زلنا قادرين على التحمل. لا زالت هُناكَ أشياء يُمكِنُنا فقدانها. و معرفة أننا لم نصل إلى القاع بعد، يمنحنا الأمل.
عيناها الزرقاوتين، اللتان كانت تُغطيهُما رموش طويلة، نظرتا إلى صدره قبل أن تلتقي نظراتها مُجددًا بنظراته الفاتنة ذات اللون الرمادي الفضي.
“لأنكَ هُنا، أُريد أن أرى المستقبل معك. و إن لم أتمكن من ذلك، فأُفضلُ أن أموت معك.”
“إمبراطورة…”
تحدثَ تاتار بصوتٍ مكتومٍ، كما لو كانَ يحاول كبحَ شيء بداخله.
“أنتِ فعلاً تدفعينني إلى الجنون.”