Before you go insane - 7
- الصفحة الرئيسية
- جميع القصص
- Before you go insane
- 7 - الفصل السَّابِع - لَيسَت نِعمَة، بَل لَعنة
لقد كانَ مشهدًا بديعًا. بدت الجوهرة و كأنها منحوتةٌ بيدِ حاكمٍ من الأساطير.
وقفَ كل من فينيا مادريتا فيشنو و تاتار دي تيسيبانيا أمام سيفيتيانا، التي استقرت فوقَ قطعةٍ مِنَ المخمل الفاخر على قاعدةٍ مُرتفِعةٍ في مُنتصف الغُرفة الصغيرة، و كانت عيناهما غارِقتان في التأمل.
“هذهِ هي المرة الثالثة التي نقِفُ فيها أمام سيفيتيانا هُنا.” قالت فينيا.
“نعم. فلنأمل أن نحصُل على إجاباتٍ مُفيدةٍ هذهِ المرة.”
سبعةٌ و سبعونَ تراجعًا. لم يكونوا مكتوفي الأيدي طوالَ ذلك الوقت. فقد ماتوا مرارًا و تكرارًا، مُعتقدينَ أنَّ إن كانَ التراجع يبدأُ بالموت، فقد يكونُ إنهاؤهُ مُرتبِطًا بشيءٍ مُشابه. و في الوقتِ نفسِه، بحثوا بجنون عن أي شيء قد يكونُ سبب هذهِ المُعجزة… أو اللعنة، المعروفة باسم التراجع.
و بِجُهدٍ دؤوبٍ، و معَ مُصادفات توافقت معَ أقدارِهم، تمكنوا أخيرًا من الوصول إلى هذا المكان في التراجع الخامس و السبعين.
تشبثت فينيا بقوة بالعقد الذي أحضرته، و وقفت أمامَ الجوهرة. رفعت ذراعيها عاليًا، ثُمَّ هوت بِهُما بِكُلِّ ما أوتيت من قوة.
تحطم!
بصوتِ تصدُّعٍ حادٍ، تكسرت سيفيتيانا التي كانَ يُفترضُ أنها غير قابِلة للكسر إلى شظايا، بطريقةٍ تكادُ تكونُ مُثيرةٌ للسُخرية. و لولا وهجُها الساطِع، لكانَ مِنَ السهل الاعتقادُ بأنها مُجردُ نُسخةً مُتقنةُ الصُنع.
غمرَ الضوء الساطع الغرفة، مما دفعَ فينيا إلى إغلاق عينيها بقوة. و على الرغم من أن هذهِ كانت المرة الثالثة، إلا أنها لم تعتد بعدُ على ذلك الوهج المُبهِر.
عندها، شعرت بيد قوية تُمسِكُ بكتفِها. دغدغت أنفها رائِحةٌ مألوفةٌ، و تردّد في أُذنها صوت منخفض عميق.
“افتحي عينيكِ، أيتها الإمبراطورة”
عندما فتحت فينيا عينيها ببطء، كانَ المشهدُ قد تغيرَ بالكامل.
امتزجت ألوانُ السماء في تدرُجات تُشبه الشفق القطبيّ، بينما امتدَ تحتَ قدميهما مُحيطٌ شاسِعٌ، مُتماسك بما يكفي للوقوف عليه. و في هذا الفضاء الخيالي، كانَ هُناكَ كيانٌ غريبٌ يطفو في الهواء.
في البداية، ظهرَ على هيئة امرأة شابة، ثُمَّ تحولَ إلى غزال بقرون، و الآن اتخذَ شكل فتى صغير.
رفعت سيفيتيانا عينيها الزُجاجيتين الفارغتين نحوَهُم، و انبعثَ في أذهانِهم صوتٌ غريبٌ، لا ينتمي إلى جنسٍ أو عُمرٍ مُحدد.
[أولئكَ الذينَ أنعمَ عليهم الحُكام.]
ارتسمت ابتسامةٌ ساخِرةٌ بارِدةٌ على وجه فينيا.
[ما الجواب الذي تنشِدونهُ هذهِ المرة؟]
اتخذت سيفيتيانا، بهيئتِها الصبيانية، خطوةً إلى الأمام. تمايلَ شعرُها المُتدرج بألوان الشفق، مُلقيًا بظلالٍ صغيرةٍ على جفنيها البيضاويين. و كأنها كيانٌ حي، رمشت بعيناها الغائِمتان ببطء، بينما تحركت شفتاها الجامدتان بشكلٍ غيرِ مُتزامن معَ الصوت الذي تردّدَ في أذهانِهم.
[أولئكَ الذينَ أنعمَ عليهم الحُكام، لا يُسمح لي إلا بمنحكم “حقيقة” واحِدة لأُرشدكم، أيها الضائِعون. لذا، أسألُكم مُجددًا، ما السؤال الذي تبحثونَ عن إجابته هذهِ المرة؟]
“ها!” اتّقدت عينا فينيا بنار كراهية بالكاد أخفتها.
“أولئكَ الذينَ أنعمَ عليهم الحُكام”؟ أيُّ نعمةٍ هذهِ؟ لا نذكُرُ أيّ بركة نلناها. و إجابات؟ أيُّ إجابات؟
لم تكُن هذهِ المرة الأولى التي يواجهون فيها سيفيتيانا.
خلالَ التراجُع الخامِس و السبعين، و تحتَ وطأة الغضب العارم تجاه الحُكام لعدم منحِهم أي خيط لإنهاء هذهِ الدوامة، قادَ تاتار جيشهُ لهدم المعبد.
الكهنة الهارِبون، المعبدُ نصفُ المدمر، و الغُرفة السرية المدفونة في أعماقه… كُلها كُشِفَ عنها أخيرًا.
و عندما رأوا سيفيتيانا التي قد تكون السبب وراء دورتِهم البائِسة، انهالت عليها فينيا بسيفها في غضبٍ عارِم.
ظهرت سيفيتيانا حينها بهيئة امرأة شابة، تشعُ نورًا براقًا، ثُمَّ ترددت كلماتُها الغريبة من خلال عينيها الغامضتين :
[أنتم تائِهون، هل لِهذا السبب تمكنتُم من إيقاظي؟]
و أمامَ هذا الكيان الذي يستعصي فهمه، كيفَ كانَ صُراخهم يملأُ المكان؟
“يُقال إنكِ تصنعين المعجزات! سيفيتيانا، أوقفي هذا التراجُع حالًا!”
حينها، و بعدَ لحظةِ صمتٍ قصيرةٍ، جاءَ رد سيفيتيانا.
[يسمحُ لي الحُكام بِمنح “حقيقة” واحِدة فقط لأُرشد التائِهين، سأُجيب على رغبتكِ بأفضل ما أستطيع.]
وِفقًا للنصوص المُقدسة، كانَ مِنَ المُفترض أن تُحقق سيفيتيانا المُعجزات. مُعجزة واحِدة مأذون بِها مِن قِبَل الحُكام. لكن ما هذا الهُراء عن “حقيقة واحِدة” فقط؟
لقد كان خداعًا. السبب وراء الحرب بين الإمبراطوريتين كانَ مجرد جوهرة لا تمنح سوى حقيقة واحدة!
اندلعت النيران في داخِلها. الغضب على الحُكام و على سيفيتيانا لِخداعهما للبشرية جعل رؤية فينيا تَحمرّ. لكن إظهار ذلك الغضب الآن سيكون تصرفًا مُتسرعًا.
“الآن، سيفيتيانا… أجيبي. أعطينا الجواب لإنهاء هذا التراجُع!”
لكن ردّ سيفيتيانا على توسُل فينيا اليائِس لم يكُن سِوى خيبة أمل أُخرى.
[أحِبوا… حتّى تتحقق المُعجزة التي أنعمَ بِها الحُكام.]
بعدَ أن قدَّمت هذا الجواب غيرُ المُفيد، تحطمت سيفيتيانا إلى قطع.
لا يزالُ التفكير في تلكَ اللحظة يجعلُ فينيا تطحنُ أسنانها. الحب؟ مُعجزةُ الحُكام؟ من كانَ مِنَ المُفترض أن يُحِبوه؟ تاتار؟ و إن لم يكُن هوَ، هل يجِب عليهم نشرُ حُبهم لِكُلِ كائِنٍ حي؟ و ماذا عن المُعجزة التي منحها الحُكام؟
كانت هُناكَ العديدُ مِنَ الحالات في الكُتب المُقدسة التي تمَّ الإشارة إليها باعتبارها مُعجزات إلهية، حتّى إن نبت العُشب و اهتزازُ الرياح كانا يعدان من المُعجزات. أي مُعجزة كانَ عليهم أن ينتظروها؟
في اللحظة التي اعتقدوا أنهُم وجدوا الإجابة، تُرِكوا عالقين في وسطِ بحرٍ شاسعٍ، بِـلا شيء سِوى قارب تجديف واحد، بلا ريح أو مجاديف.
حقيقة لا فائِدة مِنها، سيفيتيانا المُحطمة، و نحنُ غارِقون في اليأس.
عندما استفاقوا في الزفاف مرّةً أُخرى، توجهوا بطبيعة الحال إلى المعبد أولاً، اندفعوا إلى الغُرفة تحت الأرض التي ظهرت أخيرًا.
ماذا لو كانت تلكَ فرصةٌ لِمرةً واحدةً؟ كانَ القلقُ على وشك تمزيقهم عندما وجدوا سيفيتيانا مرّةً أُخرى، هذهِ المرة في هيئة غزال غامض.
[إنهُ لِقاؤنا الثاني، ما الحقيقة التي تبحثونَ عنها هذهِ المرة؟]
اختارت فينيا سؤالها بعناية.
“مِنَ المُفترض أن أُحب من؟”
رفعت سيفيتيانا يدها بصمت، مُشيرةَ إلى تاتار.
كانت تلك هي المرة الثانية التي يلتقون فيها.
عادَ اليأسُ، الذي مرّوا بهِ مراتٍ لا تُحصى، ليغمرهم من جديد.
كانَ الحُب الذي وُصِف في الكتب المُقدسة نقياً و نبيلًا، لكن كيفَ يُمكِنُهم تحقيق هذا الحُب؟ لو كانت حياتهم الأولى، رُبما، و لكن ليسَ بعدَ المرور بالموت المُتكرر و البعث عشرات المرات.
لقد ربطوا أنفُسهم معًا ليظلوا عاقلين، مهووسين و مشتاقين لبعضهم البعض. لكن هل يُمكنُهم أن يجرؤوا على تسميته حُبًا؟
رُبما يُمكنُهم تسميتهُ على أنهُ حُب بطريقة ما، لكن هل سيكون هو الحُب الذي تحدثت عنه سيفيتيانا؟
محاولين يائسين التوافق معَ لحن الحُكام، قضوا ليالٍ لا تُعد و لا تُحصى معًا خلال الحياة السادِسة و السبعين.
ليالٍ كانت تحترِقُ كالشمس و تكونُ بارِدةَ كالشتاء.
كانت نشوةٌ مُرتكزةٌ فقط على قضاء الليالي معًا، لا يهتمون بشيء آخر. لكن رُبما لأنهم قد تخلوا تمامًا عن واجباتهم، اندلعت ثورة قبل مرور ثلاثة أشهر، مما أجبرهم على الفرار من القصر. في لحظة من الاشمئزاز الذي لا يُحتمل، قفزت فينيا باندفاع من العربة، مما تركَ آخر ذكرى لحياتهم السادِسة و السبعين.
و هكذا بدأت الحياة السابِعة و السبعون. الآن، حانَ الوقت لِطرح السؤال الثالث. لم يكُن هُناك مجال للأسئلة الغامضة هذهِ المرة. لم يعودوا يحتملون أن يُلعب بِهم مرّةً أُخرى بإجابات سيفيتيانا المُتقلبة.
“أحبّي تاتار حتّى تتحققَ مُعجزة الآلهة.” كانَ الشيء الوحيد المُتبقي لطرحهِ هوَ سؤالٌ واحدٌ مُحدد. أخذت فينيا نفسًا عميقًا، و تحدثت.
“قولي لنا ما هي مُعجزة الآلهة التي لم ندركها.”
ابتسمَ الكائِن الذي يُشبه الصبي ابتسامةً خفيفةً. كأنما يقر بأن هذا كانَ أخيرًا السؤال الصحيح بعدَ ثلاث محاولات.
[إنها بركةُ الحُكام التي لم تتحقق بعد. المُعجزة الحقيقية التي لم أعد أمتلِكُها.]
بدأ طرف إصبع سيفيتيانا يتلألأُ كالزُجاج، مكونًا بلورات تُشبه الصقيع. سُرعان ما، معَ صوتٍ حاد يُشبه كسر الزُجاج، انتشرت شقوق كبيرة عبر جسد سيفيتيانا.
“ماذا؟ بالفعل…؟ انتظري، سيفيتيانا!”
مدّت فينيا يدها نحوَ سيفيتيانا التي كانت تتحطم. تحوّلَ جسد سيفيتيانا إلى بلورات زجاجية و تفتت، مما أطلقَ شظايا حادّة في كُلِّ مكان. مرت شظية عبرَ عُنق فينيا، مُحدثةً جُرحًا، بينما سحبها تاتار إلى الوراء، و عيناه مملوءتان بعزيمة قاتمة.
“إنها خطيرة.”
“دعني! يجبُ أن أسمع الإجابة، لا مُجرّد لغز!”
“سيكونُ هُناكَ فُرصة أُخرى.”
عضّت فينيا شفتها بشدة. من الذي يصنعُ هذهِ الفُرصة؟ أنا؟ أم أنت؟ كيفَ سنموت هذهِ المرة؟
كم مِن الوقت يُمكِن لعقلهُما أن يتحمل بينما ينهاران تدريجيًا؟ لقد مرَّ وقتٌ طويل مُنذُ أن توقفا عن الاعتماد على الكحول و المخدرات. حتّى إنهاء حياتهُما بشكل مُتهور للعودة بالزمن كانَ دليلاً.
كم من الموت يُمكِنُهما تحمله دونَ أن يفقدا عقلهُما تمامًا؟ كانا ينكسران، عالقين بلا حولٍ و لا قوة في هذهِ الدورة من التراجُع.
دفعت فينيا تاتار بعيدًا و مدّت يدها لِتلمس وجه سيفيتيانا الذي أصبحَ شُبه مُدمر. و عندما لامست أصابعها سطحهُ البارد، بدا أن عيون سيفيتيانا الهادئِة قد التقطت نظرتها اليائسة.
[ذلك هوَ ما كانَ يِريدهُ أولَ من امتلكني—]
“سيفيتيانا!”
[المُعجزة الحقيقية لسيفيتيانا…]
معَ ذلك، تحطمت سيفيتيانا تمامًا إلى شظايا مُتلألئة، ثُمَّ ذابت في هالةٍ من الضوء و اختفت.
و في ذات اللحظة، بدأ الفضاء الغريب المُشبع بأضواء الشفق يتلاشى، ليحلَ محله هواء بارد من الغرفة تحت الأرض، كما لو أن شيئًا لم يحدث. نظرت عيون فينيا الفارغة إلى المكان الذي كانت فيه سيفيتيانا.
كانت أفكارها تدور في حالة من الارتباك. ما هي بركة الحُكام التي لم تتحقق؟ ماذا يُمكن أن تكون؟ ما الذي لم تعد تمتلكهُ سيفيتيانا؟ هل كانَ ذلك يُملي عليهم أن يجدوا معجزة؟ جوهرة لم تستطع حتى الإجابة بشكل صحيح على سؤالهم حول إنهاء التراجع، و معَ ذلك تجرأت على التحدث عن المعجزات؟
و علاوة على ذلك، فإن ذكر المالك السابق يعني أن شخصًا آخر كانَ قد امتلكَ سيفيتيانا قبلهما…
‘من يُمكن أن يكون؟ و متى؟’
كانت أفكارها مُتشابكة ككـرة من الخيوط التي تتفكك على الأرض. لفحة باردة، كاليأس ذاته، لفّت فينيا، مما جعلَ كتفيها الصغيرتين ترتجفان.
انهارت على ركبتيها، و احتضنت نفسها، و أظافرُها تُغرز في لحمها الطري.
“أنا مُتعبة جدًا من هذا. هل يجِبُ عليّ أن أموت مرّةً أُخرى؟ لكي أسأل سيفيتيانا سؤالاً آخر؟ كم مرّةً يجِبُ أن أموت…؟”
حبست أنفاسها في حلقها. كانت تعلم أنها يجب أن تجمع أفكارها ببطء، و لكن الأمر لم يكُن سهلاً. تكرار نفس الزمن سبعًا و سبعين مرّة كانَ كفيلًا بجعل أي شخص يجن. على الرغم من أنها كانت تتظاهرُ بالتماسُك مُعظم الوقت، إلا أن لحظات مثلَ هذهِ، عندما كان اليأس يسحبُها إلى الأسفل، كانت تجلبُ معها نوبات من الرُعب و الارتباك.
حاولت أن تُذكِرَ نفسها بأنَّ هذا الارتباك سيمر، لكنهُ كانَ صعبًا. تدفقت الدموع على خديها رغم إرادتها.
كأنها تحت الماء، كانت أُذناها مكتومة، بالكاد سمعت صوتًا يقطعُ الصمت.
“أيتها الإمبراطورة!”
أمسكَ شخصٌ بذقنها و رفع وجهها. مع أتضاح رؤيتها الضبابية، التقت عينا فينيا الزرقاوتين بوجه الرجُل الذي كانَ يقِفُ أمامها.
“جلالتُك…؟”