استمرّت العلامات الحمراء، التي تفتّحت على عنقها و صدرها، ظاهرة حتّى بعد مرور يومين كاملين. لم يكن أمامها خيار سوى ارتداء فستانٍ أخضر يغطي عنقها بالكامل، و هيَ تتجه نحوَ غرفة الاستقبال في جناح الإمبراطورة.
“هذه هيَ الأسئلة التي أرسلتها الصحيفة. ”
قالت لاينيو، الابنة الكبرى لماركيز ديامنت، و التي اختارها الإمبراطور بعناية لتكون معينة للإمبراطورة. كانت ضفيرتها البنية و عيناها العاجيتان مألوفتين. و كـحال ديرون، أثبتت ولاءها عبر عددٍ لا يُحصى من الحيوات التي أعيدت فيها الأيام.
“و هُناكَ أيضًا هدية من موطنك، إمبراطورية فيشنو.”
“مَن المُرسِل؟”
“الدوق الأكبر أكتافيل. جلالته رآها و أمرَ بالتخلص منها، لكن بما أنه عمّك، رأيتُ أنه من الأفضل أن تُعرض عليك أولًا …”
ترددت لاينيو، متأرجحةً بين تنفيذ أمر الإمبراطور و بين حقيقة أن الهدية جاءت من إمبراطور فيشنو السابق و عمّ الإمبراطورة. غير أن فينيا أدارت رأسها دون حتّى أن تسأل عن ماهية الهدية.
“تخلّصوا منها.”
“أمرك، جلالتك.”
الدوق الأكبر أكتافيل عمّها، الرجل الذي لم يكن ليتوانى عن التضحية بحياة ابنة أخيه في سبيل العرش. من يعلم ما الذي فعله بتلك الهدية؟
و حينَ وصلت إلى غرفة الاستقبال، وقف شابٌ متوتر فجأة و انحنى بعمق.
“المجد للإمبراطورية! اسمي بينسون، و أنا مراسل من صحيفة تيكان.”
“حسنًا، لنجلس ونتحدث.”
“شكرًا لكِ، جلالتك.”
“ترغب في نشر مقابلة معي؟”
“نعم، فـأنتم أكثر شخصية تُثار حولها الأحاديث حاليًا في الإمبراطورية بسبب حادثة قرية هاكشيا. و بصفتي كبير مراسلي صحيفة تيكان، الصحيفة الأولى في البلاد، لم أستطع تفويت هذه الفرصة.”
“ربما كان من الأفضل أن تُجري المقابلة معَ فرقة فرسان الفجر.”
“للأسف، صحيفة مالون سبقتنا لذلك …”
تنهد بينسون بإحباط، فقدان المقابلة معَ فرقة الفرسان لصالح صحيفة منافسة كانَ مؤسفًا، لكن الحديث المباشر معَ الشخصية المحورية في القضية كانَ لا يُقدّر بثمن.
“و معَ ذلك، يبدو أنني كنت محظوظًا بما يكفي لأقابل ’الزنبقة المباركة‘ شخصيًا.”
كانَ من النادر أن يقابل مراسلٌ شخصيةً مرموقة، و نَيلُ هذه الفرصة الصعبة فاجأه هوَ نفسه. سارع بتعديل جلسته و تجهيز دفتر ملاحظاته و قلمه.
“ألَم تشعري بالخوف حينَ سمعتِ عن الوباء؟ كانَ هناك ضحايا، في النهاية.”
“لم أكن خائفة. معَ ذلك، كانَ يجدر بي أن أعتني بنفسي أكثر بصفتي الإمبراطورة. و معَ هذا، حتّى لو أُتيح لي الرجوع بالزمن، لاخترتُ الشيء ذاته.”
“هل لي أن أسأل عن السبب؟”
“لأنني إمبراطورة تيسيبانيا.”
كانت إجابة مقنعة. جملة واحدة برّرت كل تصرفاتها الجريئة. لو أنها استخدمتها عندما اتُّهِمت بمعرفة المستقبل و أُحرقت على المشانق، رُبما كانت نجت. لكنها الآن لم تكن سوى ذكرى مؤلمة بلا فائدة.
رغم قِصر ردّها، شعر المراسل بتأثرٍ بالغ، و سارع بتدوين الملاحظات. كانت قريته لا تبعد سوى نصف يوم عن موقع انتشار الوباء، و تخيل أن امرأة بمكانة الإمبراطورة أتت إلى هناك في مثل تلك الظروف، جعله يُكنّ لها احترامًا كبيرًا.
من المرجّح أن يُغيّر هذا المقال رأي الكثيرين ممّن كانوا يضمرون الكراهية لإمبراطورة من دولة منافسة.
و بعد أن طرح أسئلته بتفصيل عن كيفية تعاطيها معَ الأزمة، تردد بينسون للحظة، ثم نظر بحذر إلى لاينيو قبل أن يتحدث من جديد :
“لقد سمعت أن إمبراطورية فيشنو هيَ المسؤولة عن هذه الحادثة. هل لديك علم بذلك، جلالتك؟”
لم يصل الخبر إلى القصر سوى ذلك الصباح. و. كما هو متوقع من صحيفة، كانت معلوماتهم سريعة. فـفي حيوات سابقة، تَبيَّن أن فيشنو قد دفنت جثث المدنيين الذين قُتلوا بسِهامٍ مسمومة دون إجراء الطقوس اللازمة، ما زاد من موجة العداء ضد الإمبراطورة.
أومأت فينيا برأسها.
“نعم.”
“تتضمّن معاهدة السلام بندًا يقضي بعدم محاكمة جرائم الحرب التي ارتُكبت خلالها. هل يعني هذا أن العائلة الإمبراطورية ستتغاضى عن هذه الحادثة؟”
“كيف تجرؤ!”
قاطعت لاينيو بينسون بسرعة. كانَ الالتزام بالمعاهدة يوحي بأنها تقف إلى جانب وطنها الأصلي، الأمر الذي سيُثير غضب العامة. أما التطرّق إلى القضية فـسيبدو كأن الإمبراطورة الصاعدة حديثًا تتجاوز حدود سلطتها، مما قد يُثير مقاومة النبلاء.
بدا أن بينسون لم يكن يتوقع إجابة صريحة، خاصة بعد اعتذاره السريع إثر تدخل لاينيو. كانَ مستعدًا لتلقي توبيخ قاسٍ، لكنه انتظر ردّ فينيا. و على عكس توقعاته، لم تُعاقبه.
“ثمة قرية قرب الحدود، في شمال شرق فيشنو، تجتمع فيها الأرامل. كانت أغلبهنّ نساءً حوامل. أُسست القرية في بداية الحرب، و استمرّت بالنمو حتّى قبل نهايتها بقليل. هل سمعتَ بها من قبل؟”
“لا، لم أسمع.”
“بالطبع. لقد حرصت إمبراطورية فيشنو على إبقاء أمرها طيّ الكتمان كي تتمكن النساء من المغادرة بحرية متى شئن. بل و فبركوا قصة تقول إنها ملجأ لأرامل الحرب.”
الحرب، الأرامل، الأطفال، حرية المغادرة… تجمّدت ملامح بينسون معَ اتضاح الصورة تدريجيًا في ذهنه.
“لا يعقل …”
“بل يعقل. كُنَّ نساءً انتُهِكن قسرًا على يد فرسان تيسيبانيا.”
توقف قلم بينسون عن الحركة.
من هم الفرسان؟ كانوا من المفترض أن يكونوا حماة الإمبراطورية الشرفاء. حتّى لو كانت قوات فيشنو قد قتلت سكان قرية هاكشيا، فإن وقوع الفظائع خلال فوضى الحرب كانَ أمرًا محتملًا. لكن المشكلة تكمن في استمرار هذه التبعات حتّى بعد انتهاء الحرب.
أما أن يغتصب الفرسان نساءً مدنيّات؟ فـذاك أمر يتجاوز مجرد ضحايا حرب.
“هل لي أن أسأل لماذا لم تُعلن العائلة الملكية في فيشنو عن هذا الأمر؟”
“هل كُنتَ ستطلب من أولئك النسوة أن يواجهن مغتصبيهنّ؟”
نظرت فينيا إلى وجه بينسون الشاحب.
و رغم أن الأمر جاء جزئيًا مراعاةً للنساء، إلا أنه كانَ أيضًا بهدف الاحتفاظ بأدلة على فظائع تيسيبانيا كـورقة ضغط. لذا، طُلِب من النساء توثيق تجاربهنّ بالتفصيل، ما أتاح جمع أدلّة كافية على مدى قرنٍ من الزمان.
“الحدود مليئة بجثث المدنيين الذين سقطوا في الحرب. و رغم أن الحادثة الأخيرة كُشف أنها من فعل جيش فيشنو، من ذا الذي يضمن أن الحادثة التالية لن تأتي من الجانب الآخر؟”
لا بُدَّ أن وباءً مشابهًا يتخمّر الآن في أرض فيشنو أيضًا. فـالمطر سيُذيب التربة، و يجعل الدم الفاسد من الجثث يتسرب إلى الأنهار التي تستخدمها القرى المجاورة كـمصدرٍ لمياه الشرب.
أخذَ بينسون يفتح كفّيه و يغلقهما بتوتر، و يداه المتعرقتان ترتجفان أمام ملامح فينيا الهادئة. القضية المطروحة كانت أكبر من أن يتعامل معها مراسلٌ عادي مثله.
“لقد أسأتُ التعبير. أعتذر على سؤالي، جلالتك.”
“ارفَع رأسك. سيصدر بيانٌ من العائلة الإمبراطورية بعد يومين بشأن التدابير التالية. سيتضمن الإعلان اعترافًا من فيشنو بالأمر، و تأكيدًا على تحمّل الإمبراطوريتين للمسؤولية بشكلٍ مشترك و تعاونهما في المعالجة.”
“هل ترغبين في عدم نشر هذا؟ حتّى لو لم نغطّه، لا شك أن صحفًا أخرى ستفعل.”
“نعم. بغض النظر عن مدى تفصيل بيان العائلة الإمبراطورية، سيُنبش أحدهم عمق تفاصيل تعاوننا. و هذا أمر لا أريده … و لا أعتقد أن أحدًا منا يريده.”
من المرجّح أن تاتار يعالج المسألة في هذه اللحظة. فـبما أن تيسيبانيا قد كشفت خطأها المدفون، فـعلى فيشنو أن تفضح ما أخفته تحت ستارها. و بعد جهدٍ لموازنة الكفّتين، سينتهي الأمر إلى أن لا أحد بريء تمامًا.
ستصدر كلتا العائلتين الملكيتين نسخة مُخففة من الحادثة للرأي العام تحت اسم «التعاون»، و لكن إن تمَّ كشف الحقيقة و نُشرت بين الشعب، فإن الرأي العام الذي هدأ مؤخرًا قد يشتعل مجددًا.
و قد يُبعث من جديد بذر التمرد … أو حتّى الحرب. و لا عاقل يرغب بذلك. و لا بينسون كذلك.
“ورغم أن الأمر لم يُحسم بعد، فإننا نخطط لإعادة ترميم المعبد المهجور قرب قرية هاكشيا بالتعاون معَ فيشنو. و سيُستخدم كـمعبد إغاثيّ للمتضررين من تبعات الحرب.”
أومأ برأسه و أغلق دفتر ملاحظاته.
“بمعنى آخر، جلالتكِ ترغبين في أن يُحوَّل تركيز المقال إلى اتجاهٍ آخر.”
و كانَ الاتجاه الجديد واضحًا.
ظلَّ بينسون صامتًا للحظات، غارقًا في أفكاره، قبل أن يُعيد فتح دفتره و يبدأ بتدوين شيءٍ ما. ثُمَّ رفعَ رأسه و نظرَ إلى فينيا.
“في الواقع، أحضرنا فنانًا من صحيفتنا. هل يمكن، بإذن جلالتكِ، أن نرسم بورتريهًا لكِ بشكلٍ موجز؟”
و بعد أن منحت فينيا الإذن، دخلَ الفنان الذي كانَ ينتظر في مكانٍ آخر إلى الغرفة. و بعد تبادلٍ سريعٍ للكلمات معَ بينسون، بدأ يرسم بسرعة على الورقة التي أحضرها.
و حينَ شارف الرسم على الاكتمال، سُمِع طرقٌ على باب غرفة الاستقبال. فتحت لاينيو الباب، ليظهر ديرون في حالٍ من الارتباك.
“أعتذر على مقاطعة جدولكِ المزدحم، جلالتك.”
“ما الأمر؟”
“وصل شخص من المعبد … و يبدو أنكِ بحاجة للذهاب إلى هناك فورًا.”
ألقى ديرون نظرة نحوَ بينسون و الفنان، و قد أوضحت ملامحه المنهكة و نَفَسه المتقطع أن الأمر عاجل.
قطّبت فينيا جبينها قليلًا و نهضت من مكانها.
“هل يحتاج الرسم إلى مزيدٍ من الوقت؟”
هزّ الفنان رأسه بسرعة و قد بدا عليه التوتر من الأجواء المشحونة.
“لا، العمل المطلوب قد أُنجز.”
“فـلننهِ الجلسة إذًا.”
و غادرت فينيا غرفة الاستقبال بسرعة، يتبعها ديرون و لاينيو عن قرب.
وما إن ابتعدوا بما يكفي، سألت فينيا ديرون، “إين جلالة الإمبراطور؟”
“إنهُ معَ الكهنة.”
ثُمَّ، و بعد أن التقط أنفاسه، أضاف ديرون بنبرة متوترة:
“إن كانوا ما يزالون على قيد الحياة … “
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 22"