رغم أن عينيه التقتا بعيني الإمبراطور تاتار دي تيسيبانيا، تصرف بالاك أوتار و كأنه لم يرَ شيئًا، و انحنى نحوَ فينيا مادريتا فيشنو.
“أكرر تحياتي مرّة أخرى. أنا بالاك أوتار، مدير شركة فاليتا التجارية.”
كان هذا سلوكًا شبه مثالي، مخصصًا للفرسان الذين يظهرون الاحترام أمام كبارهم في المناسبات الرسمية. و قد كانَ ثمرة لمواظبته على التدريب، متبعًا تعاليم الشخص الذي أشعل نار الإخلاص في قلبه تحت ضوء القمر البارد.
كانت بداية لقاء بالاك و فينيا قد وقعت حين وقع بالاك في حبها من النظرة الأولى. على الرغم من أنهما لم يتبادلا كلمة واحدة في مأدبة جمعية التجار حيث التقيا، إلا أن علاقتهما بدأت من تلك المواجهة الوحيدة.
لم يتبادلا حتّى نظرة عين أو كلمة، و معَ ذلك استخدم بالاك كل علاقاته و ثروته ليظهر في كل مأدبة حضرتها فينيا. و كانت هذه بداية ارتباطهما خلال التراجع الثاني و الثلاثين. و قد ظنَّ تاتار أنَّ الأمر سيتكرر هذه المرة أيضًا.
غير أن تصرفات بالاك أوتار أوحت بأن شيئًا ما قد حدث خلال مأدبة جمعية التجار.
بهدوء متزن، خاطبت فينيا تاتار:
“قُلتُ لكَ من قبل، أنني سأقوم باستدعائه.”
“نعم، قُلتِ ذلك. و معَ هذا، مقابلته شخصيًا أكثر إزعاجًا مما كنت أذكر.”
كانَ بالاك تاجرًا خاض العديد من المصاعب. سريع البديهة.
و لهذا، رغم علمه أن الحديث الدائر يدور حوله، وقف منتصبًا، متظاهرًا بأنه لم يسمع شيئًا، منتظرًا دوره بصبر.
فمهما بلغت ثروة التاجر، فإن حمل الإمبراطورة في قلبه كانَ يتطلب عزيمة راسخة. منذ تلك الليلة تحت ضوء القمر، ظلَّ قلبه يحن إليها، و حين سمع باستدعائها له، ترك كل شيء و جاء مسرعًا.
‘نعم، لهذا التزمت الصمت. لم أفعل شيئًا، المشاعر يجب أن تتدفق بطبيعتها مع الزمن.’
لكن، كانَ هذا غرورًا منه. فور سماعه أن الإمبراطورة تطلب لقاء مدير شركة فاليتا، بدأ قلبه يخفق كما خفق في تلك الليلة.
و بصفته تاجرًا حقيقيًا، قام بحساب الأمور بسرعة.
قتل مشاعره، أم الاستسلام لعواطف قد تلتهمه؟ الاستمرار في عيش حياة تتمحور حول العمل فقط، أم الحلم بمستقبل معها، حتّى و إن كانَ على حساب حياته؟
و قد مال ميزان قراراته بشكلٍ سخيف بمُجرّد أن فتح باب القصر.
رغم صعوبة احتضان مشاعر تجاه الإمبراطورة، إلا أنه كانَ واثقًا من أنه يستطيع تقديم كنوز لها يعجز حتّى الإمبراطور عن الحصول عليها بسهولة.
كانَ بإمكانه تأمين أثمن الأشياء التي تحلم بها النساء، و معَ أنه لم يعرف الحب من قبل، إلا أن عينه الخبيرة بفهم البشر لم تخنه. كانَ يعلم جيدًا ما الذي تتوق إليه النساء ذوات المكانة الرفيعة.
و كانَ واثقًا من قدرته على كسب و لو جزء بسيط من قلبها.
إمبراطور لم يمضِ على تتويجه عامٌ واحد، و إمبراطورة مربوطة به بعقد زواج … ربما لم يكن الطريق صعبًا كما اعتقد.
و مهما حاول الإمبراطور، لم يكن ليتمكن من منعه من البقاء بجانبها، أو هكذا كانَ بالاك واثقًا، و هوَ يراقب ميل كفة الميزان.
و عندما رأى تاتار تعبير العزم في ملامح بالاك، التوت شفاهه بسخرية.
في الثلاث تراجعات التي ارتبط فيها بالاك بـفينيا، ظلَّ يحاول التواجد بجانبها بإصرار، مخفضًا من نفسه، و يعيش كـظلها. و معَ ذلك، وجدَ تاتار وجوده مزعجًا كل لحظة، و كأنه شوكة عالقة في خاصرته.
حتّى في هذه اللحظة، أمام حاكم الأرض التي يقف عليها، اكتفى بانحناءة شكلية و ألقى تحية بلا روح.
نظرَ تاتار إلى عينيه الحمراوتين اللتين لم يكن فيهما سوى فينيا، ثم استدار نحوها.
التقت عيناه الفضيتان بعينيها الزرقاوتين، العميقتين كـالبحر، من دون أن يظهر عليها أثر للاضطراب الذي اجتاحه. مدَّ يده الطويلة و أحاط برفق عنقها من الخلف.
“ألستَ هُنا بالفعل عن طريق الخطأ؟ سمعت أن ديرون موركان يبحث عنكَ مُنذُ الصباح.”
“يبدو أنكِ حريصة على التخلص مني.”
“و أنت تبدو متلهفًا لربطي بِكَ إلى الأبد، جلالة الإمبراطور.”
لو لم يكن يرغب أن تظل هذه الدورة من الانبعاث متشابكة إلى الأبد، كانَ عليه أن يكف عن تعقيد الأمور.
“كيفَ لي أن أجرؤ.”
مهما كانت نواياه الحقيقية، لم يكن بمقدوره أن يمنع فينيا من السعي لما ترغب به. كل ما كانَ بوسعه هوَ أن يحول دون أن يكرر التورط معَ بالاك كما حدث في الحيوات السابقة.
انحنى تاتار نحوها، و فينيا، ناظرة إلى عينيه الفضيتين الرماديتين، لم تقاوم حينَ لامستها حرارة شفتيه الثقيلة.
لو دفعت به بعيدًا الآن، لم يكن ليكتفي، بل ربما ارتكب حماقة أعظم أمام بالاك.
وسط الانبعاثات المتكررة، حيثُ لا شيء يمكن التمسك بِهِ بثبات، كانَ من الطبيعي أن يرغب المرء في احتكار الشيء الوحيد الذي امتلكه للحظة.
كانَ أسهل أن تجاري نوبات تاتار العاطفية في لحظات كهذه.
و بينما كانت عيون بالاك تشتعل في ظهره، عمّق تاتار القبلة، و كأن العالم قد انحصر فيهما فقط.
انسابت أصابعه على خدها، مبعدة خصلات شعرها الرقيقة. كانت يد تاتار تغطي خدها الأيسر بالكامل، مانعًا بالاك من رؤية تعابير وجهها.
ظهر شرخ واضح في ملامح بالاك المتماسكة.
ألم يكن هذا استفزازًا مبالغًا به للقاء الأول، حتّى لو كانَ تاتار إمبراطورًا؟
في الوقت ذاته، أدركَ بالاك أنَّ تاتار قد قرأَ نواياه الخفية بوضوح.
رغم شدة القبلة التي أوحت بأنهما قد لا يصمدان كثيرًا بعيدًا عن الفراش، لم يتحرك بالاك من مكانه. ظلَّ واقفًا، متمسكًا بقراره كـمن يواجه مصيره.
رأت فينيا قبضتيه ترتجفان حتّى برزت عروقه، و رأت تاتار، رغم الموقف، يزداد تصلبًا و كأن صراعًا داخليًا يمزقه.
تنهدت بخفة.
بالنظر إلى الوضع، كانت تهدئة تاتار أولوية قصوى قبل أي شيء آخر.
مدّت يدها تحيط بعنقه، و جذبته نحوها برفق.
قبلة سريعة هذه المرة، أشبه بملامسة شفاه خاطفة، لكنها كانت كافية، ظهرت النتيجة في تعبيراته على الفور.
حينها فقط، رسمت فينيا مادريتا فيشنو ابتسامة لطيفة، شبيهة بتلك التي وزعتها على أطفال القرية في لقائهم الأخير.
و من حيث كانَ يقف، استطاع بالاك أوتار أن يرى وجهها أخيرًا، من دون أن يحجبه تاتار دي تيسيبانيا.
“انتظر قليلًا فقط، سأعود إليك قريبًا.”
ضحك تاتار بخفوت و هوَ يقول :
“اللعب بين يدي الإمبراطورة … له طعمه الخاص.”
ثم ابتعد خطوة إلى الوراء، غادر غرفة الإمبراطورة دون أن يلتفت إلى بالاك و كأن وجوده منعدم.
انغلق الباب بصوت خافت.
ارتخت فينيا أخيرًا و جلست على الأريكة في زاوية مكتبها، مشيرة إلى بالاك.
“تفضل بالجلوس. و إن شعرت بعدم الارتياح، يمكننا اختيار مكان آخر.”
أجابها بالاك و هوَ يتقدم بثبات :
“لا حاجة لذلك. مجرّد استضافة جلالتك كفيلة بأن تربكني قليلًا.”
“لنحرص ألا تتكرر مواقف كهذه في المستقبل.”
“لا بأس. وجود مثل هذا الاضطراب معناه أن ثمة ما أزعج جلالته بسببي.”
جلسَ بالاك قبالتها، و على وجهه ملامح رجل قد أنهى صراعًا طويلاً داخله و أخيرًا اتخذ قراره.
كما توقعت، إقامة علاقة سطحية معَ بالاك في هذه الحياة كانَ ضربًا من المستحيل.
بعد ثلاث دورات انبعاثية عاشتها معه، باتت فينيا تعرف جيدًا ما تقرأه في عينيه الحمراوين غيرة، و رغبة، و حبٌ لم يفهمه بالاك نفسه بعد.
هيَ لم تنوِ يومًا أن تقبل بمشاعره.
لكن، كانت هُناك أشياء تستطيع أن تحصل عليها من خلاله.
لذا، كانَ عليها أن تبقي المسافة بينهما مضبوطة، لا قريبة و لا بعيدة.
أسقطت نظراتها على خاتم الزواج الذي عادَ إلى إصبعها البنصر بعد غياب طويل.
‘عليك أن تعرف كم أتحمل.’ فكرت فينيا في سرّها.
سقطت نظرات بالاك بدوره على الخاتم الذي يزيّن إصبعها، لكنه سرعان ما صرف عينيه.
استحضرت فينيا صورة تاتار و هوَ يغادر الغرفة، ثُمَّ مدّت يدها برفق نحو الجرس الموضوع على الطاولة و رنّته بخفة.
“قدّموا الشاي.”
لم تمضِ لحظات حتّى جاءت الخادمة حاملة أكواب الشاي و الحلويات، و رتّبتها على الطاولة أمامهما. و ما إن انسحبت بهدوء، حتّى أخذ بالاك يتأمل الطاولة بعينين فضوليتين.
“هل تقومين بإعداد الشاي بنفسك، من دون الاعتماد على الخدم؟”.
أجابته فينيا ببرود معتاد :
“لا يمكنني التحكم في محاولات تسميمي … و لهذا لا أفضل الاعتماد على الآخرين.”
تصلبت ملامح بالاك عند سماعه ذلك، و حدّقَ بالكوب أمامه. هل سبق أن حاول أحدهم تسميم الشاي الذي تشربه الإمبراطورة؟ من الذي تجرأ على ذلك؟
لكن، مهما دقّقَ النظر في الكوب النظيف و إبريق الماء الساخن، لم يستطع أن يستشفّ أي أثر لسمّ أو خطر.
قالت فينيا بهدوء، و كأنها تقرأ أفكاره :
“لا تقلق. لم يحن الوقت بعد ليحاول أحدهم تسميمي. هذا فقط …”
مررت إصبعها على حافة الكوب الباردة بخفة.
“مجرد عادة.”
منذ أن بدأت تأخذ حياتها بنفسها بطرق مختلفة في دورات الانبعاث السابقة، باتت تنفر من فكرة الموت بأسلوب لا تسيطر عليه.
إن لم تعرف القاتل بوضوح، فقد تعيد الموت بالطريقة نفسها مرة أخرى في الدورات المقبلة، مما يهدر وقتها بأساليب عقيمة لا تضع حدًا للدورة.
و فيما كانت تنتظر الشاي ليختمر، رفعت فينيا نظراتها و التقت بعيني بالاك.
كانَ يراقبها في كل مرّة تُشيح فيها ببصرها، و لكنه كانَ يهرب بعينيه كلما التقت نظراتهما مُباشرةً. في السابق، ربما كانت ستسعى إلى أسر روحه الحرة، أما الآن، فـلم يعد ذلك ضروريًا.
“لقد طلبتُ لقائك لأنني أحتاج إلى خدمة منك. شركة فاليتا التجارية تتخصص في المجوهرات، أليسَ كذلك؟”
“إن كانت هُناكَ جوهرة ترغب بها جلالتك، حتّى و إن لم نكن نتعامل بها عادةً، سأحرص على جلبها لكِ بنفسي.”
حانَ وقت الدخول في صلب الموضوع.
انحنت عينا فينيا قليلًا بابتسامة دقيقة و هيَ تثبّت نظرتها في عينيه مباشرة.
“حتّى لو كانت سيفتيانا؟”
توقفَ بالاك للحظة، يده معلقة في الهواء، ممسكة بإبريق الشاي قبل أن يصب لها.
سادَ صمت قصير بينهما قبلَ أن يجيبها أخيرًا، بعينين ثابتتين :
“إن كانت جلالتك مستعدة لدفع الثمن المقابل.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 20"