كانَ روندو متحمسًا للغاية. فـقد ظهرت أمامه شخصية جميلة تُشبه ملكات القصص الخيالية، تُدعى “الإمبراطورة”، و صدّقت أخيرًا كلامهم.
لم تكن مخيفة مثل القائد، و لم تُوبخهم على التواجد في المخزن كما يفعل والداهم. بل إن يدها كانت ناعمة للغاية، و لم تتردد في إمساك يديه الخشنتين الملطختين بالتراب من كثرة الحفر بحثًا عن المحاصيل.
و كلما نظرَ إليها روندو من خلفه، كانت تبتسم دائمًا، حتّى إنهُ بدأ يفقد توازنه من فرط توتره. تُرى، هل التقى يومًا بشخص يفيض بهذا القدر من النور؟
هذه السيدة الرفيعة المقام التي التقى بها لأول مرّة، الإمبراطورة، كانت أشبه بشمسٍ دافئة.
“الإمبراطورة! من هُناك! علينا أن ندخل من ذلك المكان!”
أشارَ روندو، الواقف على تلّة صغيرة خلف القرية، نحوَ بقعة بين الأشجار الكثيفة و المتشابكة، حيث ظهرت فجوة صغيرة لا يمكن للأطفال عبورها إلا بصعوبة.
“سيدي، من فضلك.”
“تنحَّ قليلاً، رجاءً.”
تقدّمَ بيردو، الذي تبِعهم في الرحلة، و استلَّ سيفه ليقطع به الكروم و الأغصان المتشابكة. و سرعان ما ظهر ممر ضيق يكفي لمرور البالغين. و ما إن خطوا داخله، حتّى باغتهم نتنٌ لا يُوصف. رفعت فينيا منديلها و غطّت أنفها و فمها به.
“هل أنتم بخير، جلالتكِ؟ ما زالَ أمامنا القليل فقط…”
عند سماعها لكلمات الطفل القلقة، أومأت فينيا برأسها و التفتت إلى الخلف. كانَ بيردو هوَ الآخر يتحقق من المكان بحثًا عن مصدر الرائحة الكريهة، لكن لم يظهر شيء واضح في المساحة الخالية بعد الأغصان.
غير أن الأرض كانت محفورة في مواضع متفرقة، كما لو أن أحدًا ما نبشها منذ زمن بعيد.
وقعت عينا فينيا على التربة المتناثرة. وبدت لمحة غريبة في عينيها الزرقاوتين.
‘وجدتُها.’
رفعت يدها، مُشيرة لبيردو ألا يقترب.
“أنصحك بعدم الدوس عليها.”
و بوجهٍ متسائل، تراجع القائد و ركع ليتفحص التربة المنبوشة.
الرائحة الكريهة التي فاجأتهم فور دخولهم، و الأرض المحفورة، و التربة الرطبة رغم الجفاف الطويل… كلّها أمور أثارت فضوله.
أدخل بيردو يده بحذر في إحدى الحفر الضحلة التي وصلت إلى مستوى ركبته، فخرج قفّازه المعدني الفضي مغطًى بطبقة من التربة اللزجة.
“هذا…”
كانَ مختلفًا عن أي تراب عادي. و بينما كانَ بيردو يتأمل التربة بصمت، التفتت فينيا نحو يد الطفل التي كانت ترشدها.
“اقتربنا! إنه هُناك تمامًا!”
تبعته بضع خطوات أعمق، حتّى وصلا إلى مجرى ماء صغير يُصدر صوت خرير خافت و هوَ يتدفّق.
ما إن نزعت المنديل عن فمها، حتّى بدأت الرائحة الكريهة التي ملأت المكان في التبدّد معَ نسمات الهواء القادمة من مجرى النهر، و امتلأت رئتاها بهواء نقي كما لو أن شيئًا لم يكن.
اقتربَ الطفل من الماء، و انحنى ليتفحّص القاع، ثُمَّ أمسك بحفنة من عشبة غير مميزة و انتزعها.
“هذه هيَ!”
أخذت فينيا النبتة و رفعتها. كانت عشبة تُدعى “تاليم”، و كما قالَ بيردو سابقًا، لم تكن سوى نبتة برية لا زهر لها و لا ثمرة.
وحدها، لا تأثير لها يُذكر، و لكن عند مزجها معَ أعشاب معينة، تصبح قصة مختلفة تمامًا. و هذه المعلومة، حتّى اللحظة، لم تكن معروفة لأحد.
“هل يمكنك أن تشرح لي كيف استخدمتم هذه؟ فقط أخبرني بما حدثَ في ذلك الوقت.”
“أه، حسنًا…”
تردّدَ الطفل قليلًا، ثُمَّ أشارَ نحوَ الأعلى.
هُناكَ منبع الماء الذي يتدفق من الجبل. كانَ حوضًا ضحلًا بما يكفي ليلعب فيه الأطفال، لكنه واسع نسبيًا. و كانَ قاعه مليئًا بالنباتات المائية التي تتدلى منها ثمار خضراء شفافة على هيئة عناقيد.
دلف الطفل إلى الحوض، و قطف بعضًا من تلك النباتات وأخرجها.
“خلطنا هذه معَ تلك العشبة. كنا نلعب لعبة المطعم معَ الأطفال الصغار.”
النبتة المائية التي أحضرها الطفل كانت من نوع “أولنان”، و هيَ عشبة طبية معروفة. لكنها قاسية جدًا عند تناولها نيئة، و غالبًا ما يجب تجفيفها تحت حرارة عالية و طحنها لتُستخدم.
لو لم يقم الأطفال بمزج الأولنان الرطبة معَ عشبة التاليم لتكوين ترياق و تناوله، لكانوا الآن يعانون من أضرار أشدّ، و لكان الوباء تطور لديهم أسرع مما هوَ عليه لدى الكبار.
“لكن أمي قالت إننا لا يجب أن نأكل هذه النبتة المائية نيئة… إذًا العشبة البرية السابقة لا بُدَّ أنها هيَ الدواء!”
ابتسمت فينيا برقة، و أعادت عشبة التاليم إلى يد الطفل المعاكسة لتلك التي تحمل الأولنان.
“لقد قدّمت لنا مساعدة عظيمة. لكن لصنع الدواء، نحتاج إلى هذه النبتة المائية أيضًا.”
“حقًا؟ لم أكن أعلم هذا…”
“لا بأس. و الآن بعد أن عرفنا، أليسَ علينا أن نسرع لإنقاذ والديك؟”
“نعم!”
“جيد. إذًا خذ هذه إلى القائد. و لا تنس أن تشرح له بالتفصيل اللعبة التي كنتم تلعبونها.”
“ألن تأتي معنا، أيتها الإمبراطورة؟”
“ما زالَ هُناك ما عليّ التحقق منه. أخبر القائد أنني سألحق بكم قريبًا.”
هزّ الطفل رأسه بحماس، و ركض عائدًا من حيث جاء. و بحلول ذلك الوقت، لا بُدَّ أن بيردو قد لاحظ السر المخفي في التربة التي نبشوها.
صحيح أن العودة و الإشراف على الوضع مهمة، و لكن إذا أرادت أن تنال سمعة تتجاوز “الزنبقة المباركة”، فعليها أن تتحرّك بنفسها، بخطى استباقية.
تنهدت فينيا قليلًا، و خلعت حذاءها الجلدي و وضعته جانبًا، ثُمَّ رفعت أطراف بنطالها و أكمامها. أخرجت المنديل من جيبها، ربطت شعرها الطويل بإحكام، و خطت إلى داخل الحوض.
بسبب الملمس الزلق لنبتة الأولنان، ظلت فينيا تتعثر و تفقد توازنها. كما أن دخولها الحوض حافية القدمين معتقدة أنه أفضل من الحذاء الجلدي، جعلها تشعر بأن السقوط بات وشيكًا في كل لحظة، بفعل انزلاق النباتات تحت قدميها.
و بعد معاناة، تمكنت أخيرًا من قطف حفنة من الأولنان، ثُمَّ استدارت. كانت تخطط لاكتفاء بهذا القدر مؤقتًا، ثُمَّ جمع كمية مماثلة من التاليم، و العودة إلى القرية.
لو لم يظهر شخص فجأة أمامها.
ما إن استدارت، حتّى اصطدمت فينيا بشخص ما، فتأرجح جسدها بقوة إلى الوراء.
و بما أن يديها كانتا ممتلئتين بعشب “أولنان”، كانَ من الصعب عليها أن تتصرف بسرعة لتوازن نفسها.
و لحسن الحظ، إن جاز القول، كانت البركة ضحلة. فسقط جسد فينيا في الماء مغمضًا عينيها برذاذ ماء متطاير.
لكن عجبًا، عظم عصعصها، الذي توقعت أن يصطدم بقاع البركة، لم يتأذَ على الإطلاق.
و عندما فتحت عينيها، انعكست على سطح الماء اللامع هيئة مألوفة.
الشخص الذي سقط معها في الماء، ممسكًا بها، كانَ رجُلًا يُفترض أن يكون مشغولًا في القصر في الوقت الحالي.
“نبدو كـجرذين مبللين، ما رأيكِ، أيتها الإمبراطورة؟”
“ما الذي تفعله هنا بحق السماء؟ أليسَ من المفترض أن تكون في القصر؟”
“لا تقلقي. لقد أنهيت تقريبًا المهام التي كلفتِني بها.”
“جلالتك…”
“شش، مضى وقت منذ التقينا. لا تغضبي.”
‘مُنذُ متى؟ ألسنا قد تناولنا العشاء سويًا البارحة؟ أم أن ذلك كانَ في التراجع الزمني السابق؟’
تساءلت فينيا داخليًا، لكنها لم تستطِع أن توبّخه مُباشرةً حينَ رأت رأسه يستند إلى كتفها كـمن أنهكه التعب.
“القصر من دون الإمبراطورة… كابوس.”
“لا تطلق كلماتٍ شاعرية بلا داعٍ، بينما أعيش أنا كابوسًا أسوأ.”
حاولت دفعه لتنهض، لكنه لم يتحرك. بدا أن قطرات الماء التي تناثرت عند سقوطهما كانت لا تزال تتساقط من خصلات شعره الرطبة.
كانَ من الواضح أن تاتار جاءَ إليها هاربًا من شيء، أو بحثًا عن راحة لم يجدها في مكان آخر.
و هيَ، رغم ضيقها، لم تستطِع أن ترفض وجوده تمامًا.
***
برؤية وجهه المتجهم، نهضَ بيردو، و كانت يداه و الأرض من حوله مغطاة بالطين الذي حفره. لاكتشاف ما كانَ مدفونًا في الأسفل، كانوا بحاجة إلى مجارف للحفر بشكلٍ صحيح، لكن عقله بدأ يشكل استنتاجات بالفعل.
نظرَ إلى الأرض. كانت الرائحة خانقة، و التربة مشوشة، و على الرغم من أنها لم تمطر مؤخرًا، إلا أن الأرض كانت مبتلة بالطين الأحمر الداكن. مهما كان ما دُفن هنا، فقد كانَ حيًا في وقت ما.
“لو لم تكن كلمات الإمبراطورة، لمررت من هُنا دون أن ألاحظ شيئًا.” تمتم بيردو لنفسه.
هل كانَ فحص الخارجيات المنازل في القرية لأجل نفس السبب؟
لقد أخذت الحرب العديد من الرفاق، و الآن عليه أن يخدم أميرة الأمة المُعادية. على الرغم من أنه دفن استياءه عميقًا، إلا أن المشاعر المعقدة كانت لا تزال باقية.
حتّى عندما نزل إلى القرية لفحص التفشي المزعوم، تساءل جزء منه عن الفرق الذي سيحدثه. لكن بدون إرشادات الإمبراطورة، هل كانوا ليكتشفوا السبب بسرعة؟
نظرَ بيردو إلى الاتجاه الذي ذهبت فيه فينيا و آخرون. تمامًا عندما كانَ على وشك العودة إلى القرية، رصدَ شخصية صغيرة في المسافة.
“القائد!”
“روندو، أينَ هيَ جلالتها؟”
“إنها قادمة حالًا!”
عبسَ بيردو. كانَ ترك الإمبراطورة وحدها دون حراس أمرًا لا يمكن تصوره.
بينما كانَ يتقدم خطوة للأمام، حجبَ روندو طريقه.
“جلالتها أرادتني أن أعطيك هذا!”
“تاليم و … أولنان؟”
كانَ بيردو مرتبكًا. لماذا سترسل له النباتات التي بدت بلا فائدة في هذه الحالة؟ لكن بينما شرح روندو ما حدث، اتسعت عينا بيردو.
“أنت تقول أنه لم يصب أي من الأطفال الذين تناولوا هذه النباتات بالمرض؟”
“نعم! مينيل، شانت، أولاند، جميعهم! كانوا فضوليين بشأن الطعم…”
“أفهم، لكن…” توقفَ بيردو، و هوَ ينظر إلى التاليم و الأولنان في يد روندو.
إذا كانت قصة الطفل صحيحة و كانَ لهذه النباتات أي تأثير، فقد تمنع تفشي مرض كبير.
“لنعد إلى القرية.”
“نعم، قائد!”
إنقاذ الأرواح هوَ الأهم.
عند العودة إلى القرية، قامَ بيردو بسرعة بسحق التاليم و الأولنان معًا و توجهَ إلى منطقة الحجر الصحي. لم يكن هُناك وقت لاختبار الآثار الجانبية، و كانت النباتات نفسها غير ضارة بكميات صغيرة، لذا كانَ من الضروري معرفة ما إذا كانَ لها أي تأثير.
“روندو، أعطِ هذا للشخص الذي تظهر عليه الأعراض الأخف. إذا حدث أي تغيير، أبلغني فورًا.”
“فهمت!”
اختفى روندو في منطقة الحجر الصحي معَ الخليط، بينما انتظر بيردو بقلق خارج الباب. بعد فترة، انفتح الباب فجأة، و ركض الأطفال الذين كانوا داخل الغرفة.
“روندو، ماذا حدث؟”
“قالوا إن السعال توقف، و ألم الرأس أصبح أفضل بكثير.”
“إنه معجزة …” تمتم بيردو في دهشة. كانت الأعراض غريبة، و كانَ المرض يتقدم بسرعة، لذا كانَ قلقًا من أن العلاج المناسب سيأخذ وقتًا طويلاً. كانَ يبدو و كأن معجزة قد نزلت عليهم.
تذكر بيردو فجأة فينيا. يجب أن تكون قد عادت الآن، لكن لم يكن هُناك أي علامة عليها.
مقلقًا، ركضَ إلى حيث كانت الخيول تنتظر. نظر فرسانه إليه بتعجب عندما اقترب.
“قائد، كنا نبحث عنك. هناك خبر من القصر أن الأطباء في طريقهم—”
“سأبحث عن جلالتها. ابق هُنا و احمِ القرية.”
“نعم؟”
بينما كانَ بيردو يسلم لجام حصانه لفارس، سمع ضحك الأطفال من بعيد. نظر في ذلك الاتجاه و رأى شخصًا قادمًا، محاطًا بالأطفال.
“جلالتها، جلالتها!”
“ماذا؟”
“كما تعلمون، كنا نلعب لعبة البيت—”
كانَ الصوت ضحكًا يدوي في القرية بعد وقت طويل، حيث كانَ الظلام قد حل بسبب الوباء المفاجئ.
الشخص الذي كانَ يقترب منهم، محاطًا بالأطفال، و جسمه مبتل وذراعاه مملوءتان بالتاليم و الأولنان، هوَ نفس الشخص الذي كانَ على وشك البحث عنه.
“قائد، أليست تلك جلالتها الإمبراطورة؟ و لكن لماذا هي في هذه الحالة…”
فهم بيردو الوضع على الفور. أولنان الذي ينمو فقط في الماء، و ملابسها المبللة كما لو أنها تعرضت للبلل بالكامل.
على الرغم من أن مظهرها كانَ سيئًا لدرجة أنها بالكاد كانت تُعرف بالإمبراطورة النبيلة، شَعرَ و كأن محيطها يتوهج أكثر من أي شيء آخر.
سلمَ لجام الحصان الذي كانَ يحمله لفارس وقال :
“لقد جاء النور إلى إمبراطورية تيسيبانيا…”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "17"